البنات تسند الظهر أيضا في أغنيات المهد
لا تملك الجماعة الشعبية نصا واحدا، بل تمتلك منظومة واحدة تضع فيها جملة عاداتها وتقاليدها ومعتقداتها. لذا فإن النصوص تضىء الطريق لبعضها، من هنا قد يرى البعض اشتباكا لنص مع نص، لكننا نراه يرسم مربعا فى المنظومة، فالمتأمل لصورة البنت؛ البنت الطفلة في أغنيات المهد من هدهدة وملاعبة وتهنين سنجدها وقد راهنت على دعم مجموعة من الأمثال لها حين تنتصر لميلاد البنت وتواجه كيد أم الولد فى حوار لا يعدم الجرأة اللغوية:
-
أولهم شماته ووسطهم حسد وأخرهم كل واحده ماسكه ركن فى البلد.
-
ربِّـى يا خايبه للغابيه .
-
الابن ابن مراته والخايبه تحلف بحياته .
-
بكره يروح البراز والبول ويبقو صبايا قد القول (1).
فالأم تمتدح نوع وليدها عبر التنغيم فى جمل قصيرة ودالة، وهو ما تشير إليه مجموعة من النصوص التى تفتح المخيلة لتصور جمالى مفارق، فالأم المنجبة / المنتجة / البستان تصوّر حملها / طرحها بالكرم، فيتسع المعنى حاملا دلالات الخصوبة والاخضرار والخير، حيث الكرم لغة: العنب، كذلك أرض يحوط بها حائط، وفيها أشجار ملتفة(2)، فالأم من تمتلك الكرم، أو هى الكرم، متحدثة عن نفسها ـ الذى لا يقتصر على ميزة واحدة، لكنه يحمل من الجمال ما يجعلها تقول “فيه وفيه”
“كـرمى فيه وفيه
والغـالى شاريـه
كرمى فيـه السكر
والبنـات البـُكَّر
والعـازب يتحسر
ما حـدش يديـه” (3)
فالنص هنا يصور بطن الأم / الأرض / الخصبة ببستان ملآن بكل أنواع الفاكهة، أو ربما بكل أنواع الطعوم ” فيه وفيه ” وهو بهاتين المفردتين يفتح المخيلة لتصور مافى البستان حسبما يشتهى السامع، فالصورة هنا لا تغلق على السامع ما يرغب فيه حين يستدعى صورة “الكرم” وتتضح الصورة لتعلن عن بعض ما خفى من الجمال الذى يمنحه هذا الكرم “كرمى فيه السكر” ليلتذ السامع لا بتأمل صورة وجمال الكرم وحسب، وإنما بطعمه، ولأنه “فيه وفيه” بما يشير إلى تعدد أنواعه، لذا فقد تم شراؤه مقدما ” والغالى شاريه”.
وهذا الشارى يدرك قدر ما يشترى، فهو “غالى”، والغالى كما يقول التعبير الشعبى “ما يشتريش إلا الغالى”، كذلك “الغالى تمنه فيه”، ويستدعى النص ما يشتبك معه من أمثال تتساوق مع منظومة قيم الجماعة الشعبية مثل “غالى والتمن رخيص “، “غالى السوق ولا رخيص البيت”، وتؤكد جملة “كرمى فيه السكّر” أن هذا الكرم حلو فى ذاته، وينفتح النص أكثر ليظهر وجوها أخرى لهذا البستان “كرمى فيه السكر والبنات البُكَّر”.
وهنا سنجد إشارة للنوع “البنات” وما يتصفن به من “البكر” / البكارة وبما يشير إلى الطهارة والعفة كما يشير إلى الطزاجة والجدة، فالكرم / بطن الأم لا ينجب إلا أبكارا، ولأن محاسنه بدت فى التجلى، وصفاته أصبحت ظاهرة، فلابد لمن لم يتزوج بعد أن يرفل فى حسرته “العازب يتحسَّر”، ولأنه هكذا “عازب” فلن يمنحه أحد من كرمه ـ هو غير قادر على تثمين “الكرم” ـ لأنه سيرى حسرته بادية فى عينيه حين سمع عن الكرم وما فيه من أنواع وما يتصف به من صفات، فظل منحصرا فى حلمه بصورة الكرم الذى لا ينبت سوى البنات “البكر”.
من هنا فلن يسود وجه الأب وهو كظيم، ولن تبكى الأم وهى تتمنى موت البنت المولودة لتصبح موؤدة، لكنها حين تولد يتم تناقل خبر ولادتها عبر أسلاك الهاتف وإرسال التلغرافات، كى تزف الفرحة للأهل والأقارب، فتتسع السعادة بميلادها وتصل لأبناء جماعتها بسرعة ويسر معلنة عن مجيئها للوجود :
لمـَّا قالـو لى دى بـت
خـبرها روَّح فى السلك
قاسو لى ميـت فـدان
يحضـر الخواجه مـلك (4)
وتلقى البنت تقديرها بعد “لما قالو ” وهوى الجملة التى تعنى التأكيد عبر التكرار، كذا تلقى الأم تقديرها، فيمنحها الأهل “ميت فدان” ملكا وإكراما لها وللبنت التى ولدت، وهاهم يقومون بتحديدها “قياسا ” بعدما طلبوا من “الخواجه” (4) أن يقوم بتجهيز عقد الملكية، وهكذا يبدو موقف الجماعة متعاطفا، بل مقدرا ومقيما البنت المولودة ومن ولدتها، وتتوالى النصوص أداءً لتؤكد على هذا المفهوم الذى ينفى كراهية الجماعة الشعبية لبناتها ولميلادهن.
نعم هى تكره نماذج بعينها، لكنها لا تكره أو تحض على كراهية البنت كما يتواتر بين بعض أفراد النخبة من مروجى الأفكار الجاهزة، لذا فإن المتتبع لهذا النوع من النصوص سيجد من يؤدونه وقد ألحقوه بمجموعة أخرى تؤكد أن الولد ليس ملكا لأهله، فإذا كانت البنت فى نص ما سببا فى أن تملك أمها مائة فدان، فإن الولد بما يملكه قد أصبح ملكا لزوجته، ولا يقتصر بعده عن أمه بزواجه “تاخده منى مراته” ؛ البنت فى مقدمة النصوص، لكنه معرض للرحيل مجندا فى الجيش، فيجلى النص عن الأخطار التى قد يتعرض لها الولد كبيرا فيحرم منه أهله لذا فلاداعى للفرحة الكبيرة التى قد تشير إلى تفضيل الولد على البنت :
“لـَّما قالو دا ولد
قلـت ياليله نكد
تاخـده منى مراته
ولا ياخده الطلب “(5)
وللحديث عن صورة البنت في التراث والمأثور الشعبى بقية.
المراجع
- رواية : نور الهدى عبد المنعم ، مكان الجمع : شبين القناطر ، محافظة القليوبية .
- مادة كرم ، منجد الطلاب ،ط19 ، دار المشرق ، بيروت ،ص 639.
- الجامع : عبد الباسط عبده حسان ، مكان الجمع : الزريقات بحرى ، أرمنت ، قنا .
- تطلق على بعض الاخوة الأقباط، ويبدو أن بعضهم كان يتولى عملية قياس الأرض وكتابة العقود .
- الجامع : عبد الباسط عبده حسان ، مكان الجمع : الزريقات بحرى ، أرمنت ، قنا .
اقرأ أيضا:
الموال الأعرج ..عندما تمارس الجماعة حريتها المنضبطة