«البشر والحجر».. تجارب ذاتية تعيد اكتشاف وجوه القاهرة
أقيم الأسبوع الماضي ببيت المعمار المصري حوار مفتوح عن تراث المدينة والمجتمع تحت عنوان «القاهرة.. البشر والحجر»، إذ تحدث أربعة من المؤثرين عن تجاربهم مع المدينة من زوايا متعددة في محاولة منهم للكشف عن أوجه القاهرة المتعددة. أدار النقاش الباحث عبدالعظيم فهمي، والدكتورة فاطمة كشك.
اكتشاف القاهرة
في البداية تحدث حسن حافظ، باحث في التاريخ، عن القاهرة ذات الطبقات المتعددة، لذا لا يمكن أبدًا حصرها داخل نطاق واحد، فهي مدينة لها ألف باب وألف زاوية يمكن لأي فرد أن يكتشف زاويته لتحديد علاقته بها كمدينة. يقول: «من حسن حظي أن مدخلي لمعرفتها هو كتب الخطط. والتي ركزت على تاريخ الحجر والبشر بجانب تاريخها العمراني. فالقاهرة من وجهة نظري هي أهم مدينة في التاريخ الإسلامي كله. وعن طريق علاقتي بالكتب بدأت افهم تراث القاهرة وعمرانها، فرجعت لكتب المقريزي والمؤرخين بجانب المستشرقين الذي تحدثوا عن المدينة.
قصر من الذهب الخالص
يضيف: وبدأت أبحث عن القصر الفاطمي الموجود بشارع المعز والذي ذكر في الكثير من الكتب، لكنني حين نزلت إلى الشارع لم أجد القصر بالطبع، فقد اختفى منذ ما يقرب من 700 سنة. لكن عن طريق الإشارات بدأت بعملية استرجاع لهذا القصر، فوجدت أن بوابته الرئيسية كانت تقع عند مدخل بيت القاضي. وقد شيد هذا الباب من الذهب الخالص، وكثيرًا ما كان يبهر الرحالة الأجانب الذين اهتموا بالقاهرة. لذلك أنا وجدت من خلال هذه الكتب ومن خلال المحاولات بدأت أفهم تشكيل هذه المدينة. إذ أرى أنه كل خمسين عاما تكتسب القاهرة طبقة جديدة، وهذه الطبقة الجديدة لا تمحي القديمة. بل تتجاور وتعيش معها، كنوع من أنواع التوأمة والاستمرارية، وهذا ما يفسر لنا تعدد الآثار مختلفة العصور الموجودة جانب بعضها البعض، فشارع المعز يحوي على مجموعة متنوعة من الطبقات التاريخية المتجاورة، والتي تعكس حالة من التفرد داخل تاريخ هذه المدينة، والتي لم تتوقف عن النمو أبدًا».
فن الخطط
تحدث حافظ عن فن الخطط إذ يقول: بداية هذا الفن مرتبط بمصطلح الخطة وهو “الشارع” في مفهومنا. لكن المسلمين الأوائل كانوا يستخدمونه كحي كامل لمجموعة قبائل ويقسمونها فيما بينهم. فأول من تحدث عن خطط الفسطاط كان المؤرخ ابن عبدالحكم، وقد تحدث في كتابه «فتوح مصر وأخبارها» عن خطط القاهرة، وعن دخول العرب لمصر واستقرارهم فيها، وقد قدم لنا مادة متخصصة عن المدينة وعن تخطيتها بحيث يكون جامع عمرو بن العاص ودار الإمارة والسوق الرئيسي هما قلبا المدينة. وسيظل هذا التكوين سمة بارزة في جميع المدن الإسلامية بعد ذلك، وقد جاء بعده أبو عمرو الكندي والذي ألف كتاب عن خطط الفسطاط بشكل منفصل، وهذا الأمر يجعلنا نتساءل «لماذا أصبحت الخطط هي ولع مصري على عكس مؤرخي العالم الإسلامي؟»، لكن الأمر يجعلنا ننتبه إلى شيء هو أن المصريين كانت لديهم نزعة قومية ظهرت من خلال كتابات المؤرخين.
ذاتية مصرية
وهذه النزعة كانت تؤهلهم لشعور متضخم بالذات والاهتمام بكل ما هو مصري. من خلال الاعتماد على مجموعة من الأسانيد المستسقاة من القرآن والتي تحدثت عن مصر، وكذلك الآثار الفرعونية التي كانت محل انبهار الرحالة الذين جاءوا إلى مصر بمن فيهم الخليفة المأمون والذي انبهر بالأهرامات، وحاول أن يهدم الهرم الأكبر كي يكتشف الكنوز الموجودة أسفله. لكن ما أود أن أقوله أن هناك وعي ظل عند المؤرخين المصريين أن هذا البلد تحديدًا له نوع من الخصوصية، ويحتاج لعناية خاصة من المؤرخين، على عكس المؤرخين الشوام أو العراقيين، فالمصريين اهتموا بالذاتية، وهذا من ضمن أسباب ازدهار فن الخطط، وتحديد كل معالم المدينة وأنشطتها الثقافية والتجارية والاقتصادية، وهذا اَلْوَلَع ظهر جميع المؤرخين المصريين.
ازدهار الفسطاط
يواصل حافط: «حين جاء المؤرخ بن زولاق، والذي أرخ للمدينة بعد أن تطورت وتضخمت، قسم المدينة لعدة تقسيمات، ومن هنا كتب عن العسكر والفسطاط، والتي كانت في ذلك الوقت تعتبر هي المدينة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية الأولى لمصر، لكن مع دخول الفاطميين لمصر في منتصف القرن الرابع الهجري، تحولت مصر إلى دار خلافة وأصبحت دولة إمبراطورية، وشيد الفاطميون مدينة أسموها بالمنصورية، إلى أن جاء الخليفة المعز لدين الله وغير واستبدل اسمها بالقاهرة، والتي أصبحت مدينة ملوكية مغلقة ممنوع على العامة دخولها، ومع ذلك ظلت الفسطاط هي المدينة الأولى لمصر، ويعد أخر المؤرخين الذين اهتموا بخطط الفسطاط هو القاضي القضاعي، والذي تكلم عن الفسطاط في عز توسعها وازدهارها، قبل أن تحدث الشدة المستنصرية والتي أدت إلى خراب الدولة المصرية في العصر الفاطمي، إلى أن جاء بعدة عدة مؤرخين اهتموا بتقديم تأريخ للقاهرة.
مبادرات شخصية
يتطرق حافظ إلى جزئية أخرى متحدثا عن عمليات التحول التي تتعرض لعملية تحول كبيرة، وبغض النظر عن تقييمنا لهذا التحوّل، فحاليا تهدم بعض البنايات ويعاد بناؤها مرة أخرى ولكن دون توثيق كامل، وهذا ما يجعلنا من الضرورة أن نتبنى مبادرات شخصية، أو من خلال المجتمع المدني لتوثيق هذه الأماكن وتسجيلها بشكل عشوائي، كي يكون عندنا في المستقبل ذاكرة صوتية ومصورة لهذه الأجزاء التي أعيد البناء فيها، وهذا ما يتطلب منا أن نوثق القاهرة اليوم بشكل مختلف، وتسجيل كل معالمها بشكلها الحالي، للاحتفاظ بها للأجيال القادمة، كي نوصل لهم روح المدينة وفلسفة بنائها.
معادل للتاريخ
يحكي المؤرخ حامد محمد حامد عن بداية تعلقه بالمقابر حين كان طفلًا وخاصة تلك الموجودة بصلاح سالم، فيقول: مع الوقت شعرت أن المقابر يمكن أن تكون هي المعادل الموضوعي للتاريخ، ووقتها كنت أعتقد أن التاريخ هو تاريخ المشاهير فقط، ومن هنا كانت بدايتي مع قرافة القاهرة، فالمقابر تشبه التاريخ المصري كله بتسلسله فنهاية الإنسان ليست بموته، لكن هناك علاقات تنشأ بعد الموت مثل علاقات الجيرة التي تنشأ بين بعض القبور.
الليالي
ويضيف: في أطروحتها للدكتوراه تحدثت د.سهر القلماوي عن ألف ليلة وليلة، وفي بحثها قالت إن “الليالي” كتبت في أقطار إسلامية كثيرة، لكنها في النهاية تبلورت في القاهرة، وبالنسبة إليّ فأنا أنظر للقاهرة باعتبارها المدينة الحاضنة لألف ليلة وليلة، لكني لا أجد شيئا أغرب في القاهرة من “قرافة القاهرة” فالمؤرخين والرحالة حينما جاءوا إلى مصر تحدثوا عن أن القرافة هنا اختلفت كثيرًا عن أي مكان آخر، فمنهم من ذكر أن القرافة الكبرى كانت مثل الإسكندرية في الحجم، ومنهم من ذكر أن القرافة الصغرى كانت مثل حمص، فابن بطوطة على سبيل المثال ذكر أن القرافة في مصر كانت من أهم متنزهات أهل القاهرة، وأن الناس كانوا يبيتون ويسهرون بداخلها، لكن السؤال الذي يجب أن نطرحه هو “لماذا أهتم المؤرخين بذكر قرافة القاهرة تحديدًا؟” فهذا معناه أنها اختلفت عن أي مكان آخر.
غراس الجنة
وهذا يجب أن نرده للتصور الإسلامي عن الموت، فهذا التصور جاء بطريقة مختلفة عن الديانات الأخرى من خلال فرض تصورات مفادها؛ أن الموتى يسمعون داخل قبورهم، وأنهم يشعرون مثلنا، ويستأنسون بمن يزورهم، فجميع الأقطار الإسلامية تعاملت مع هذه النصوص باعتبارها نصوص تسليمية، لكن هنا في مصر أرادوا تقديم شيء مختلف، والبداية كانت من خلال حديث دار بن عمرو بن العاص والمقوقس، فقد أراد المقوقس أن يشتري سفح المقطم بـ70 ألف دينار، لكن ابن العاص رد عليه بضرورة أن يرجع للخليفة عمر وبالفعل رد عليه عمر وأراد أن يستفسر من عمرو بن العاص، عن سبب عرض هذا المبلغ الضخم لشراء سفح المقطم، وهنا رد عليه المقوقس أنه وفقًا لكتاباتنا فنحن نؤمن أن هذا المكان هو “غراس أهل الجنة” وهنا رد عليهم عمر وأمرهم بدفن المؤمنين من المسلمين بها، ما دامت هي غراس لأهل الجنة. وهذه الصيغة الإسلامية المستقاة من هذه الثقافة هي التي أنتجت لنا القرافة بهذا الشكل، من خلال وجود أماكن للاستراحات وكأننا نجلس في روضة من رياض الجنة؛ حسب ما تم تأصيل الفكرة إسلاميًّا، والتي أنتجت لنا القرافة بهذا الشكل ذات الطبيعة الخاصة، ولهذا انبهر بها جميع الرحالة الذين جاءوا إلى مصر.
أعراق مختلفة
الباحث في تاريخ القاهرة محمد قدري تحدث عن أن تجربته الخاصة بدراسة القاهرة بدأت بشكل غريب إذ أنه منذ ثلاثة أعوام لم يكن عنده نفس الشغف بالقاهرة، لكن بدأ اهتمامه حينما كان في دورة تدريبية بالهند، ووقتها شاهد الآثار الإسلامية المغولية الموجودة هناك، وقد شاهد “قطب منار” والذي ينسب لقطب الدين أيبك يقول: قلت داخل نفسي إن هذا الاسم سمعته من قبل، وبعد ذلك حكوا لنا قصة راضية سلطانة وخلافها مع أخيها فيروز شاه، وعندئذ بدأت أشعر عن أن هذه الأسماء ترددت على مسامعي من قبل.
حملة الراية
يضيف: حين عدت للقاهرة، بدأت جولاتي مع المؤرخ أبو العلا خليل، وبدأت أتتبع الأعراق التي أتت للقاهرة، فوجدتهم حوالي 50 عرقا مختلفا. إذ غير الفتح العربي مصر وأصبحنا نفكر ونتنفس اللغة العربية وأصبح أغلبيتنا من المسلمين، وأصبحت هناك الكثير من الأعراق والأجناس المختلفة التي دخلت مصر واستوطنتها. فمنهم من جاءوا من هضبة التبت وعاشوا وكونوا حيا لهم داخل القاهرة، إلى أن ذابوا في المجتمع المصري. لكن البداية كانت مع فتح مصر حين جاء 8 آلاف جندي، ودخل بعدها حوالي 12 قبلية عربية واستوطنوا مصر وعاشوا فيها، وهم قبائل يمنية. ومع عصر الولاة جاء إلينا عقبة بن عامر الجهني، والمدفون في شارع سيدي عقبة بالقاهرة الآن، وقد كان من حملة الراية، وحكم مصر لمدة ثلاث سنوات. ويختتم مداخلته بالتأكيد على مصر مرّ عليها الكثير من الأعراق والتي انصهرت داخل المجتمع المصري فصرنا جميعًا ننتمي لهذا الوطن.
نظرية القاهرة
سارة حسن كاتبة سيناريو تحدثت عن أن القاهرة يمكن الإحاطة بها من جانب كتاب السيناريو، من خلال زيارتهم الميدانية لها بصفة دائمة في مرحلة الكلية، وليس شرطًا أن يرجعوا لمتخصص لأن كاتب السيناريو حينما يتمكن من أدواته سيستطيع وقتها من إخراج عمل جيد، دون الرجوع للمتخصصين إلا من خلال نقاط استشارية قبيل الانتهاء من كتابة السيناريو لمناقشة بعض الأمور. توضح: “هنا أنا لا أقصد الاستغناء لمجرد الاستغناء عن المتخصصين، لكن أود أن يكون هناك فهم صادق ونابع عن تورط حقيقي مع فكرة موجودة على أرض الواقع، وذلك لأن التاريخ والآثار علم من الضروري تعميم دراسته والاشتباك معه على أرض الواقع وبخاصة؛ طلبة السينما”.
البيئة المحفوظية
ترى أن للقاهرة خصائص معينة مختلفة تمامًا عن أي مدينة أخرى، فهي عبارة عن أوتاد روحانية بجانب الخيال الشعبي والقصص التي تدور حول هذه الأماكن، وهذا الأمر هو ما يجب أن تتم تغطيته وتسجيله بشكل جيد.
فقد تحدثت عن بداية تعلقها بالقاهرة منذ فترة طويلة، لكنها بعد ذلك تعلقت بالبيئة المحفوظية التي خلقها محفوظ في رواياته، فحين دخلت قسم السيناريو بمعهد السينما تعلقت حينها بالبيئة الروائية التي خلقها محفوظ داخل روايته ونظرًا لتعلقها بالقرافات، فقد انشغلت بالإجابة عن سؤال مفاده؛ “لماذا دفن محفوظ أبطاله داخل قرافة باب النصر في روايته؟”
حديث الصباح
تضيف: هذه القرافة هي في الأساس فاطمية وأول من دفن فيها هو أمير الجيوش بدر الدين الجمالي، وهناك حالة بين الحرافيش- من وجهة نظري- وبين الفاطميين لامسها محفوظ، ولعله تأثر بقصة اختفاء الحاكم، فقد اختفى أيضًا عاشور الناجي في روايته مثلما اختفى الحاكم بأمر اللّٰه فجأة. وفي روايته قشتمر دفن أبطاله داخل قرافة باب النصر أيضًا. وقد اكتشفت من خلال زيارتي الميدانية، أن حديث الصباح والمساء والتي كتبها محفوظ كانت بدايتها من القرافة. فيزيد المصري حينما جاءه شخص يدعى “سيدي نجم الدين” أشار عليه بتشييد مدفن له بجواره، فحين نزلت اكتشفت أن ضريح نجم الدين هذا هو ضريح حقيقي.