الاقتباس ليس سرقة بل غنيمة حرب (2-2)
سادت في بعض العصور في الغرب، لاسيما عصر النهضة، عمليات اقتباس من مجتمع غربي ونقل الأعمال إلى مجتمع غربي آخر في زمان أو مكان مغايرين. ما أسميه عمليات اقتباس هو إعادة ترجمة وإعادة كتابة بعض الكلاسيكيات القادمة من العصر القديم الإغريقي والروماني وتقديم هذه الأعمال في ثوب جديد، بلغة أوروبية غير الإغريقية واللاتينية القديمتين، في العصور الوسطى، بعد عدة قرون من تاريخ الإبداع الأصلي.
ممارسات اقتباسية وسرقات غربية
وقد ازدهرت تلك الممارسة الاقتباسية في عصر النهضة. كان المنطق الفني/الأخلاقي السائد في عصر النهضة أن ما كتب باللغات الأوروبية الحديثة وقتها -والتي كانت تعتبر عاميات آنذاك- يعتبر تأليفاً، لا ترجمة ولا اقتباسا. هكذا اقتبس شيكسبير العديد من المشاهد والملامح من مسرحيات ونصوص كلاسيكية، فاقتبس مثلاً قصة أنطونيو وكليوباترا المكتوبة باليونانية القديمة. يكاد المؤرخون يجمعون على أن شيكسبير قد اعتمد على ترجمة أو عرض بالإنجليزية لكتاب المؤرخ الإغريقي الروماني بلوتارك عن “حياة أنطونيو”. ليحول قسما منه إلى التراجيديا المعروفة اليوم باسم “أنطونيو وكليوباترا”. واقتبس كورناي قصة أوديب القادمة من الأساطير الإغريقية ومن مسرحية سوفوكل “أوديب ملكاً” المكتوبة بالإغريقية القديمة. وكتب المؤلف الكلاسيكي الفرنسي مسرحية فرنسية بعنوان “أوديب”. لا نسمع من ينتقد شيكسبير لأنه اقتبس من تراث الإغريق القدماء (الذين لم يكونوا يعتبرون أنفسهم أوروبيين في العصور القديمة). بمنطق أن الإنجليزي لا يحق له اقتباس ترث يوناني شرق متوسطي. ولا نسمع الانتقاد نفسه موجها لكورناي الفرنسي الذي يقتبس التراث اليوناني.
بل يحق لنا في مصر أن نتساءل: ألسنا أولى بقصص كليوباترا باعتبارها ملكة مصرية، أو على الأقل كانت ملكة على مصر؟ إن كان من حق شيكسبير وكورناي أن يقتبسا من اليونان. فلماذا لا يحق للعرب أن يقتبسوا من الإنجليز؟ وإن كان المنطق هو حق الجميع في الاقتباس من التراث الإنساني العام، أو من مِلْك الإنسانية المشترك (Commonwealth) فلماذا لا يكون من حق المؤلفين والمخرجين المصريين أن يقتبسوا من الغرب؟
***
ثم إن كورناي قد اقتبس مسرحيته الشهيرة”السيد” من المسرح الأسباني. عُرِضت مسرحية كورناي “السيد” عام 1637 في فرنسا وهي مقتبسة عن مسرحية “أيام شباب السيد” التي كتبها جيين دي كاسترو بالإسبانية عام 1631. بذلك، نقلكورناي ومن قبله شيكسبير منطق احترام النقل من اليونانية واللاتينية إلى الفرنسية أو الإنجليزية في عصر النهضة بوصفه تأليفاً نقلة جديدة. فصار نقل قصص مكتوبة بالإيطالية أو الإسبانية إلى الإنجليزية أو الفرنسية اقتباساً مشروعا. لا بمنطق أن كل هذه ثقافات أوروبية بعضها من بعض. بل بمنطق أن إنجلترا وفرنسا قوتان عظميان تستبيحان ما شاءتا من الإنتاج الثقافي لجيراهم الفقراء الضعفاء في إسبانيا وفي مختلف الدول الإيطالية. هكذا نقل شيكسبير قصصا عن الإيطالية إلى الإنجليزية، مثلما يقال إنه نقل قصة روميو وجولييت عن مروية إيطالية. وهكذا نقل كورناي “السيد” عن الإسبانية إلى الفرنسية. في إنجلترا وفرنسا لم يكن هذا يعتبراقتباساً آنذاك، بل كان يعتبر أصلاً وتأليفاً.
لا نستغرب أن أندريه جيد وجان كوكتو الفرنسيين قد أعادا كتابة واقتباس المسرحية اليونانية “الملك أوديب” أو “أوديب ملكاً”. فكتب كوكتو مسرحيتي “الملك أوديب” و”الآلة الجهنمية” عن مسرحية سوفوكل، عن الأسطورة اليونانية. وكتب أندريه جيد مسرحية بعنوان “أوديب”. وما مسرحيات أوديب بالفرنسية من كورناي لأندريه جيد وجان كوكتو إلا اقتباسات بعضها من بعض، ومن سوفوكل الإغريقي. ولا نستغرب أن شيكسبير قد اقتبس القصة الإيطالية روميو وجولييت، ولا أن راسين قد اقتبس “فيدرا” اليونانية وكتب مسرحية فرنسا بعنوان “فيدرا”. ولا أن جاي زي اقتبس أغنية لعبد الحليم حافظ (بل نشعر بالفخر لأن مغنياً أمريكيا أُعْجِبَ بفن حليم). فلماذا نستغرب أن الريحاني اقتبس مسرحية بانيول “ياقوت” وجعلها “الجنيه المصري” أو أن سمير خفاجي وبهجت قمر اقتبسا “بيجماليون”/ “سيدتي الراقية” لبرنارد شو وجعلاها الكوميديا الكلاسيكية العربية “سيدتي الجميلة”؟
علاقات القوة في اقتباس الكوميديا والدين
في دائرة الكوميديا تحديداً، يشتهر أن مسرحية موليير فائقة الشهرة “مقالب سكابان” مقتبسة جزئيا عن مسرحية “فورميون” من تأليف المسرحي التونسي القرطاجي الناطق باللاتينية تيرانس. على أن اسم سكابان هو فرنسة واضحة للاسم الإيطالي سكابينو. وسكابينو هو شخصية نمطية متكررة الظهور في تراث الكوميديا الفنية المرتجلة، أو الكوميديا ديلارتي، ومعنى اسمه على وجه التقريب: “الهرًاب” أو الذي يجيد الهرب والخروج من المآزق. كذلك تعج مسرحيات موليير بشخصيات اسمها أرلكان، وهو اسم قادم أيضاً من ريبرتوار الكوميديا الإيطالية الشعبية، الكوميديا ديلارتي. فإذاً أوغل موليير في اقتباس الكوميديا الإيطالية وسلفتها اللاتينية، سواء باقتراض بعض ملامح الحبكات أو بعض ملامح الشخصيات. ومع ذلك لا نقرأ أن ناقداً قد اعتبر هذا اقتباساً، وبالتأكيد أن مرجع ذلك هو علاقات القوة بين فرنسا القوة العظمى والدول الإيطالية الصغيرة التي تغري كاتباً من المجتمع الأقوى باقتباس أو بسرقة منتجات معاصريه من الدائرة الثقافية نفسها، الدائرة الأوروبية.
المسألة إذًا رهن علاقات قوة: فرضت القوى الأوروبية المتصدرة المشهد العالمي ثقافيا وعسكرياً منطقاً يوازي بين الهيمنة والنهب الاستعماريين والاقتباس والنهب الثقافيين. المنطق هو أن من “حق” القوي أن ينقل عن الضعيف ويقتبس عنه: الغائب البائد غير الحديث الإغريقي أو اللاتيني، يقتبس عنه باعتباره جزءا من تراث البشرية. والجار غير الحديث الإيطالي أو الإسباني يقتبس عنه لأن الاقتباس عنه حق للأقوى ولأنه الطريقة المثلى لإيصال القصص المقتبسة إلى ساحة شاملة (Universal). وأخيرا يقتبس الأوروبي القوي عن الجار الواقع تحت الاستعمار الغربي، مثلما اقتبس قصص المسيح وموسى وألف ليلة.
***
هكذا لا نستغرب أن يقتبس الغرب دينا نشأ في فلسطين، وأن ينتج أفلاما تحكي قصة شخصية محورية في تاريخ هذا الدين، ثم ينطقها لا بالآرامية -وهي لغة العرب في الشام والعراق وشمال الجزيرة لقرون (وهي ما زالت مستخدمة إلى اليوم)- ولكن ينطق الأفلام بالإنجليزية. لا منطق هنا سوى أن “الطبيعي”، أو الأخلاقي، أو الأفضل فنيا هو ما يختاره الأقوى أو المهيمن أو المستعمر. ومن هنا يظهر أن المجتمع الواقع تحت الهيمنة أو الاستعمار إذا ما قام بالاقتباس من المستعمر والمهيمن، فهو -بمعنى ما- إنما يخوض حرب مقاومة ثقافية هجومية، لا دفاعية.
وبالمنطق الاستعماري الاستعلائي نفسه في عالم السينما. وبناء على علاقات الغرب القوي بقريب غربي فقير، اقتبس المخرج والمنتج الأمريكي جورج لوكاس (George Lucas)عام 1977 قسما من قصة فيلمه حرب الكواكب (Star Wars) ورسم الشخصيات والعلاقات بينها. بل وملابس الشخصيات من فيلم للمخرج الياباني الأشهر أكيرا كيروساوا (Akira Kurosawa) بعنوان “القلعة الخفية” (The Hidden Fortress). والذي عرض عام 1958 ولم نقرأ كثيرا عن اعترافه بهذا الاقتباس. الطريف أن أغلب ما نشر عن الموضوع يحرص على تأكيد أن لوكاس قد تأثر بفيلم كوراساوا ولم يقتبس أو يسرق. لكن مشاهدة الفيلمين الواحد تلو الآخر تثبت بلا شك أن هناك “نقلاً” للأجزاء من الفيلم الياباني إلى الفيلم الأمريكي. وأن تسمية ذلك تأثيرا أو اقتباساً أو سرقةً هو مسألة عاطفية أو أيديولوجية. ولعقود، لا يكاد يكون هناك أثر لكتابات تحلل اقتباس لوكاس لكوروساوا من منطلق إدانته.
الاقتباس المضاد للاستعمار
لأننا في مصر والعالم العربي نتأرجح بين منظومة تتمثل آخر مراحل الحداثة ومنظومة تقليدية أو تستمد ركائزها من التراث، نجد بعض النقاد يدينون الاقتباس، وفي وقت مبكر. في منتصف أربعينات القرن العشرين، شن الصحفي الكبير التابعي هجوما على يوسف وهبي. وواجهه بأنه سارق قصة فيلم”غرام وانتقام” من مسرحية “فيدورا” لكاتب الميلودراما الفرنسي الأشهر فيكتوريانساردو. لكننا نأخذ أنفسنا بالشدة في مصر والعالم العربي، ولا نذكر عشرات الأعمال التي اقتبسها كتاب وسينمائيو الغرب بعضهم من بعض، أو الأعمال التي اقتبسها الغرب من المنطقة الناطقة بالعربية. مع أن هذا دليل على السيرورة المستمرة لعمليات الاقتباس بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب.
السرقة هي النقل الحرفي. الاقتباس المبدع هو المزج والتمصير والتحوير: فيلم “حرام عليك” بطولة إسماعيل ياسين مسروق. لأن كثيرا من مشاهده منقولة بنفس تتابع اللقطات وأحجامها وملابس وتنكر ومكياج الشخصيات في الأصل الأمريكي. لاسيما في مشاهد المواجهة بين إسماعيل ياسين والوحوش المختلفة. لكن فيلم”الزوجة رقم 13″ بطولة رشدي أباظة مقتبس، لأنه “هضم” الفيلم الأصلي ثم أعاد صناعته صنعة جديدة. مثلما تحول النحلة الزهرة إلى عسل. بل إن اقتباس “الزوجة رقم 13” لفيلم “الزوجة الثامنة لذي اللحية الزرقاء” في إطار الثقافة العربية له مشروعية إضافية. لأن الفيلم الأمريكي يستعيد قصة أصلها ألف ليلة التي هي قصص ونصوص عربية، وأيضا فارسية وهندية. وفيلم “غزل البنات” بطولة نجيب الريحاني مقتبس بلا شك عن الفيلم الأمريكي “لا أخلاقي بالمرة”. لكنه مبدع في اقتباسه لأنه فكك وحداث الحدث والشخصيات وأعاد تركيبها بشكل جديد. ثم إنه قد مزج بين الفيلم الأمريكي ومسرحية “توباز” أو “ياقوت” الفرنسية.
***
غداة إعلان استقلال الجزائر تتويجا لحرب التحرير ضد الاستعمار الفرنسي، دار حوار مجتمعي حول اللغة الفرنسية بين من يرغبون في الحفاظ على الثقافة الفرنسية رغم أنها ثقافة المستعمر وبين من يرغبون في تعريب البلاد تعريباً تاماً وخالصاً يؤدي إلى محو آثار اللغة الفرنسية في الإدارة الوطنية بعد أن كانت اللغة الرسمية ولغة حاضرة بقوة في التعليم، والإدارة، والإعلام والثقافة.
وكانت مساهمة الكاتب الجزائري الكبير كاتب ياسين دالة بقوة على منطق ساد في معظم الدول الأفريقية التي كانت واقعة تحت الاحتلال الفرنسي، إذ كتب “إن الفرنسية غنيمة حرب”. فمنطقه هو أن آثار الاستعمار ليست في حد ذاتها موضوعاً للمقاطعة الحاسمة، لأن بعض تلك الآثار قد تكون مغنماً لحركة التحرر الوطني. وبالتأكيد فإن إتقان الملايين من الجزائريين للغة الفرنسية قد ساهم في انفتاحهم على الحداثة الغربية عبر البوابة الفرانكوفونية. بالمنطق نفسه فالاقتباس عن الغرب المهيمن ثقافيا وسياسيا وعسكرياً، بالذات في مرحلة الصراع من أجل التحرر ثم في مرحلة التحرر الوطني يمكن اعتباره حقلاً من حقول الصراع ووضع اليد الوطنية على “غنائم الحرب” الثقافية.
اقرأ أيضا:
الاقتباس ليس سرقة بل غنيمة حرب (1-2)