الإنشاد الديني والثقافة الشعبية: تجديد الخطاب والحزام السحري
نصوص الإنشاد الديني واحدة من أهم المصادر الثقافية التي تشكل عقل ووجدان المصريين بشكل عام، وأهالي الجنوب بشكل خاص، وهي لا تحتل مكانة تالية للقرآن الكريم والأحاديث النبوية من حيث قدرتها على التأثير في الجماعة الشعبية، بل تتصدر المشهد أحيانا، لثلاثة أسباب متداخلة.
السبب الأول: هو الأمية الدينية التي تنتشر في الأرياف عموما، كجزء من الأميِّة العامة. وقد تأثرت تلك الأمية الدينية بظهور وسائل الاتصال الحديثة وانتشار التعليم، وانضمام جميع المساجد إلى وزارة الأوقاف، لكن التأثير ظل سطحيا، ولم يغير الكثير من مظاهر التدين الشعبي الذي نبت في ظل الأمية التي عانى منها الريف المصري على مدار القرون.
السبب الثاني: الثقافة القبلية التي لا تعرف الإلحاد، ويعتبر الدين أحد خصائصها الجوهرية. وفي ظل الثقافة القبلية، لا يقتصر الاتصال بأهل البيت على المستوى الروحي، بل يشمل الجانب العرقي. حيث توجد تكتلات سكانية كثيرة تعتز بصلة الدم التي تجمعها بسكان الجزيرة العربية وآل البيت.
السبب الثالث: هو السياق الجمالي الذي تتسلل من خلاله الأناشيد والمدائح إلى وجدان الناس وتستقر في أعماقهم، وتصبح من مكوناتهم الثقافية الفاعلة. ونحن حتى الآن نتعامل مع الإنشاد الديني تعاملا جماليا، ونقْبَل نصوصه دون فحص ثقافي مناسب.
**
تلك الأسباب جعلت نصوص الإنشاد الديني لا تتوقف عند المجال الروحي، بل تداخلت مع المجال الدنيوي تداخلا شديدا، وعندما تسمع السيرة الهلالية مثلا لا تستطيع فصل المدائح النبوية عن الحكايات الشعبية الدنيوية، وعندما تسمع المدَّاحين لا تستطيع فصل أغنيات أم كلثوم ـ مثلاـ بمجالها الدنيوي عن المجال الروحي.
كل أعمال المداحين الكبار مثل التوني والتهامي والدشناوي بحاجة إلى مراجعة ثقافية جادة، تتجاوز الجانب الاحتفالي بأصواتهم، وألحانهم، وأدائهم المبدع، لتتناول الأفكار المطروحة في نصوصهم وتأثيرها في الثقافة الشعبية.
لقد ظهرت الحاجة إلى مراجعة خطاب الإنشاد الديني في مناسبات كثيرة تم فيها استغلال الأفكار الدينية لتحقيق أفكار مضادة للدين، ومنها الأزمة التي يعاني منها أهل الجنوب حاليا، بسبب عملية النصب الكبرى التي عُرفت بظاهرة “المستريح”.
لقد أشارت أصابع الاتهام إلى بعض المنشدين باعتبارهم مشاركين في تضليل الناس. لكن لم تشر إلى نصوص المديح التي لعبت دورا بشكل خفي لا في مساعدة المستريح بالدعاية، بل في تكوينه وخلق نموذجه الخاص.
**
سوف نتوقف هنا عند الموال الذي بدأ به الشيخ أمين الدشناوي ليلة “المستريح” لنرصد علاقة الموال نفسه بالرجل، وبعملية النصب الكبرى، رغم أن الموال نفسه قديمٌ ومعروف من قبل ميلاد المداح وصاحب الليلة، وقد أنشده عدد كبير من المدَّاحين مع إجراء بعض التغييرات، يقول الموال:
كدَّابْ يا اللي تقول جَمْع الرجال خالي
جَمْع الرجالْ مليانْ مافهوش مكان خالي
ياللي أنت بتلوم بلاش كشفك لأسراري
داري على بلوتك ياللي ابتليت داري
سيب الخلايق في حالها بلاش كشفك لأسراري
متهوم مع الناس لكن عند الإله باري.
وإيش يعمل العبد للي حزِّموا الغالي.
ياللي ابتليت بالغرام ما تقعدش مع الخالي
ياللي ابتليت بالغرام ماتجلسشي مع الخالي
إجلس مع مبتلي زيك
ساعتِنْ تقول آه يقول كانت على بالي.
في الموال أربعة رموز تجمع بين “المستريح” وعالم التصوف الشعبي، وتلك الرموز هي، الرجال، السر، المتهم البريء، الحزام الحارس.
لتلك الرموز دلالات صوفية عميقة، لكن الجمهور العام لا يعرف شيئا عن أسرارها الباطنية. قد يتفاعل معها بشكل وجداني عميق بسبب الصوت واللحن والأداء، لكنه يقف عند المستوى الأول، أو المعاني الخارجية السهلة التي ترتبط بحياته اليومية، والوقوف عند المستوى الخارجي من أخطر الأمور التي تفصل التصوف الشعبي عن التصوف الباطني العميق.
1ـ رمزية الرجال
الرجال رمز صوفي واسع الدلالة، ويتسع ليشمل عددا كبيرا من الشخصيات، مثل الأقطاب والأوتاد، والأبدال والنجباء والنقباء، وأقلها المجاذيب وأصحاب التكاليف، وهؤلاء الرجال يتواجدون في كل زمان. لدينا جمع من الرجال، لكنه ليس في متناول وعي الناس دائما. وقد يذهب البعض للتشكيك في وجود هؤلاء المباركين الذين يتولون تدبير الأمور، وهنا يأتي الموال ليؤكد وجود الرجال.
هكذا يمكن “للمستريح” أن يدخل في دائرة الرجال بوصفه مكلفا من السيدة زينب، أو يحمل تصريحا منها، كما كان يقول ويذيع بين الناس، وتلك الفكرة مرفوضة عقلا بالطبع. لكنها تستند على تراث قوي يجعلها مقبولة أو مبررة أو مفهومة، والإنشاد الديني واحد من تلك العناصر التراثية.
لماذا لا يكون “المستريح” أحد الرجال الذين تم تكليفهم من قبل الحكومة الباطنية بمساعدة الغلابة؟
سيرة الرجل لا تربطه بعالم الصلحاء، بل على العكس، تربطه بعالم البلطجية، لكن من قال أن هذا يكفي لحرمان الرجل من بركة آل البيت، من قال أن الصورة الظاهرة هي كل شيء، أو لا يتحول المجرم إلى ولي بنظرة ؟!!!
2ـ رمزية السر
يحذر الموال من محاولات كشف الأسرار، والسر مصطلح صوفي عميق الدلالة، وعميق الحضور في الذاكرة الحضارية، لأنه موجود في المعتقدات المصرية القديمة. كما أنه موجود في الديانة المسيحية التي تعتمد فيها العبادات على فكرة الأسرار.
السر باختصار شديد يعبر عن نعمة إلهية غير منظورة، أو نور رباني، أو لطيفة تظهر بفضل الله تعالى لا بكسب العبد وعمله، وما يعنينا أن الحياة في التصورات الشعبية مليئة بالأسرار، واحترامها رغم عدم إدراكها مطلوب.
هناك نعمة غير عادية ظهرت فجأة على “المستريح”، وقد تولى تفسيرها في كلامه بأنها نعمة (من ربنا)، وظلت تلك النعمة سرا لم يتحدث عنه أبدا، ورغم احترام الجماعة الشعبية لفكرة السر، وتصالحها معها، إلا أن الرغبة الإنسانية في المعرفة، لم تمنع ظهور تأويلات عقلانية كثيرة تتعلق بسر الأموال التي هبطت عليه فجأة، وفي ظل تلك التأويلات لابد وأن يظهر كمتهمٍ بلعبة من ألعاب الثراء المفاجئ والكبير، وهكذا لم تنجح فكرة السر في القضاء على القلق المرتبط بمصدر أمواله، لكنها ساعدت في تهدئة القلق.
3ـ رمزية المتهم البريء
يتغنى الموال بالمتهم عند الناس مع التأكيد على براءته عند الله، وفكرة المتهم البريء واحدة من الأفكار الصوفية الشهيرة، وذلك بسبب اختلاف المعيار عند قياس السلوك أو الشخص بمقياس الحقيقية والشريعة، فالخضر عليه السلام متهم بمقياس موسى عليه السلام، وبريء عند الله، مدان بمقياس الريعة وبرئ بمقياس العلم اللدنِّي.
كان “المستريح” متهما في نظر الكثيرين، وهناك أصوات كثيرة حذرت من لعبته، وتكلمت عن الكارثة التي سوف تنتهي بها، ولقب “المستريح” نفسه تهمة، لأنه ارتبط بنصابٍ آخر ظهر منذ عدة سنوات في دائرة دشنا وما حولها، نعم هو “متهم” عند الناس، لكن الثقافة الشعبية كما تظهر في الإنشاد الديني تعطل التسرع في اتهام الناس.
هناك تعاطف عجيب مع المتهمين نرصده في ثقافة الصعيد بشكل عام، ولا شك أن جذور هذا التعاطف عميقة وأسبابه كثيرة، والإنشاد الديني يقدم لنا واحدا من تلك الأسباب.
4ـ رمزية الحزام
يسخر الموال الشعبي من كل الجهود التي يمكن بذلها من أجل النيل من الرجال المباركين، أو المكلفين، لأنهم يمتلكون قوة خفية، ووسطهم مشدود بحزام شديد، حزام السيادة الباطنية، السيادة التي تتداعى أمامها قوة العبيد.
الحزام رمز الحماية، وعمليا هو مكان السلاح، وفلكلوريا يرتبط بالأولياء والحكماء كأداة من أدواتهم التي يختصون بها بعض الرجال. ففي السيرة الهلالية يرتبط بالخضر، وفي سيرة سيف بن ذي يزن نجد حزام الحكيمة “عاقلة” التي صنعته من جلد الغزال، وأهدته للملك سيف، وكان يضعه على وسطه فلا يؤثر في جسمه ضرب الحسام أو خز السهام، كما كانت له قوة سحرية تحفظ صاحبه من الجن والشياطين، وعندما تم تكليف أحد أفراد الجن ويدعى “عيروض” بقطع رأس البطل أثناء نومه، لم يستطع قتله بسبب الحزام السحري الذي يحفظه من كل شيطان مارد، وهكذا كان الحزام السحري موضوعا لعدد من أحداث السيرة الشعبية.
يظهر حزام السيدة زينب في حكاية المستريح من خلال تصريحاته المباشرة التي يعلن فيها أنه متحزم “بالست”، وكان يقول بشكل شبه حرفي: “وإيش يعمل العبد للي محزِّماه الست”.
هل أخذ حكاية الحزام من ليلة الدشناوي، أم كان الحزام موجودا في ثقافته، لأن الموال أقدم من تاريخ ميلاد الدشناوي نفسه؟
على أي حال، تبقى العلاقة قوية بين نصوص الإنشاد الديني وحياة الناس الدنيوية، وهي بحاجة لدراسات كثيرة تحلل خطابها، وتكشف مدى تأثيرها في الثقافة الشعبية.
لقد نجح المستريح في جمع مئات الملايين بمنتهى السهولة، وهو لم ينجح من فراغ، بل نتيجة عوامل مختلفة، أهمها الحزام الخفي، ولا أعني به حزام السيدة زينب، بل الحزام السحري الذي يشبه العمل المعكوس، العمل الذي تُكتب فيه آيات القرآن الكريم بشكل خاطئ كي تستدعي القوى الشيطانية الشريرة، الحزام الذي يرمز لكل القوى الخفية التي شكلت درعا حصينا للنصاب، ومنها حزام التفكير الخرافي الذي يتداخل مع التصوف الشعبي، ويؤدي إلى كوارث، لن تكون كارثة “المستريح” آخرها.
اقرأ أيضا
الشيخ أمين الدشناوي.. ومحنة «المستريح»