الإعدام على باب زويلة.. شهرة مملوكية والأصل فاطمي
كثر الحديث عن استخدام باب زويلة كأداة لتعليق جثث وجثامين المعارضين للسلطة أو من تريد الأخيرة معاقبتهم بالقتل، والتشهير بهم كأداة ردع للأحياء بشكل صريح. ويعتقد البعض أن هذه الظاهرة تعود إلى العصر المملوكي لوجود حالات شهيرة مثلما تم نصب جثث رسل القائد المغولي هولاكو على هذا باب، إيذانا ببدء الطريق إلى المعركة الشهيرة في عين جالوت والتي انتهت بانتصار المماليك على المغول، أو بحالة تعليق السلطان المملوكي الأخير طومان باي عليه، بعد نجاح سليم الأول في غزو مصر وهزيمة المماليك في معركتي مرج دابق والريدانية. لكن المتتبع للمصادر التاريخية سيجد مفاجأة في انتظاره وهي أن هذه الظاهرة بدأت تاريخيًا في العصر الفاطمي (358-567هـ/ 969-1171م).
تذكر لنا المصادر التاريخية عدة وقائع نستطيع من خلالها حسم استخدام باب زويلة كأداة للتمثيل بجثث الخصوم السياسيين أو أعداء النظام أو الموظفين الذين حل عليهم غضب السلطة. التي استخدمت التنكيل بهم وإنزال العقوبة عليهم كأداة من أدوات التشهير بهدف ردع الأحياء وإرسال رسالة لهم بقدرتها على الهيمنة باستخدام أدوات الترهيب والعنف المادي. وهي ظاهرة بدأت في العصر الفاطمي.
إشارات تاريخية
وتذهب الإشارات التاريخية التي جمعتها هنا إلى أن هذه الظاهرة تعود بوضوح إلى العقود الأخيرة من عمر الدولة الفاطمية. فمعظم الحالات المرصودة تعود إلى العام 544 هجريا، وما بعده. فهل استخدم باب زويلة لذلك الغرض قبل هذا التاريخ؟ هذا ما نرجحه، ولكن لا نملك الدليل التاريخي عليه بعد. فاستخدامه كمكان عقابي ظهر في فترة مبكرة كما نفترض، فلدينا إشارة مبكرة عن استخدام الباب كمكان عقابي. فضمن أحداث سنة 415هـ، والتي يرصدها المؤرخ المعاصر المسبحي (ت 420هـ)، تم القبض على مجموعة من النهابة، وضربت رقابهم ورميت جثثهم إلى الكلاب على باب زويلة وباب الفتوح وعند شرطة القاهرة.
ويبدو أن اختيار باب زويلة ليكون المكان المناسب لبعث رسالة سياسية من السلطة الفاطمية. فهو الطريق الرئيسية للقادم من مدينة الفسطاط ذات الثقل السني والثقافي والاجتماعي والاقتصادي. وهي مدينة مصر والإقليم على الحقيقة، فاختيار الباب لتعليق الجثث إذن كان غرضه رسالة سياسية بأن من سيخرج على الدولة الفاطمية الشيعية الإسماعيلية. سيكون هذا مصيره بلا رحمة ولا شفقة. وسيقتل بكل قسوة وسيتم التشهير بجثمانه بعد ذلك عبر التعليق على باب زويلة ليكون عبرة لكل قادم من مدينة الفسطاط.
وافتتح الخليفة الظافر بأمر الله خلافته سنة 544 هـ/ 1149م، بإحضار ابني الأنصار. وهما من رجال الدولة اللذين زاد نفوذهما بشكل أثار استياء واسع، فأمر الخليفة الجديد بضربهما بالسياط. “ثم أخرجا وقطعت أيديهما وسلت ألسنتهما من أقفيتهما. وصلبا على بابي زويلة الأول والثاني فأقاما زمنًا ثم وضعا”، بحسب ما يذكر المقريزي في كتابه (اتعاظ الحنفا).
أداة تشهير
وتعود إلى هذا العام أكثر الحالات الموثقة لاستخدام الباب كأداة للتشهير بالقتلى من الخارجين والمغضوب عليهم. إذ يقول المقريزي في ترجمة بنان الملقب سعيد السعداء في كتابه (المقفى الكبير): “وكان موت هذا الخادم في شوال سنة أربع وأربعين وخمسمائة؛ أمر الخليفة بأن يحرق بالنار. فأحرق عند باب البحر ورمي برأسه، وعلق بباب زويلة، وكان جني جناية اقتضت عقوبته بذلك”. كما يذكر في ترجمة القاضي الموفق محمد بن معصوم التنيسي، أنه قتل على يد الوزير ابن سلار في شعبان 544 هـ. إذ أمر الوزير به “فجُرّ، وضرب المسمار في أذنه حتى نفذ من الأخرى، وحُمل إلى باب زويلة الأوسط. ودق خشبة وعلق عليها ميتًا ثم أنزل بعد أيام”.
كما تم نصب جثة نصر بن عباس قاتل الخليفة الظافر بأمر الله، على الباب بعدما تم إلقاء القبض عليه سنة 550هـ. إذ أخرج من قصر الخلافة “قتيلًا مقطوع اليد اليمنى، وصلب سحرًا على باب زويلة، فكان يومًا عظيمًا عند الناس”. وكان الانتقام منه بسبب اشتراكه في مؤامرة انتهت بقتل الخليفة الظافر بأمر الله.
ونجد حالة أخرى في نهايات الدولة الفاطمية. إذ خرج والي الإسكندرية طرخان بن سليط بن ظريف، على الوزير الملك الصالح طلائع. لكنه هزم وقبض الصالح عليه وعلى أخيه إسماعيل، وأعدم طرخان “وصلب على باب زويلة، ورمي بالنشاب. ثم مُسك أخوه إسماعيل، وصلب إلى جانبه ضرب عنقه”. بحسب ما يذكر المؤرخ النويري في موسوعته (نهاية الأرب في فنون الأدب). ويذكر المقريزي في (اتعاظ الحنفا) أن الوزير ضرغام بعد أن قبض على الأمير مرتقع بن مجلى المعروف بالخلواص. “فضرب ضرغام عنقه يوم الجمعة ثامن ربيع الآخر [سنة 559هـ]، وصلبه على باب زويلة”.
قصة الباب
ارتبط باب زويلة منذ بدايته بقصة بناء القاهرة، فعندما وضع جوهر الصقلبي أساس المدينة بعد نجاح غزوه لمصر سنة 358هـ/ 969م. عمل على بناء سور يحيط بالمدينة الجديدة، وجعل فيه عدة أبواب، كان نصيب السور الجنوبي للمدينة بابين متلاصقين موضعهما كان بجوار المسجد المعروف اليوم بـ(سام ابن نوح). وعرفا باسم بابي زويلة، نسبة إلى القبيلة البربرية التي جاءت مع الجيش الفاطمي استقرت بالقرب من الباب.
وبعد مرور نحو 100 عام، وعندما قرر الوزير القوى بدر الجمالي، وزير الخليفة المستنصر بالله، توسعة المدينة بنقل الأبواب والأسوار وترحيلها عن مكانها الأصلي. بنى باب زويلة الكبير بشكله ومكانه الحالي، وأشرف على بناء أبواب القاهرة الجديدة حينذاك أسرة أرمينية. إذ يقول المقريزي: “ويذكر أن ثلاثة إخوة قدموا من الرها بنائين بنوا باب زويلة وباب النصر وباب الفتوح، وكل واحد بنى بابا. وأن باب زويلة هذا بني في سنة أربع وثمانين وأربعمائة [1093م]، وأن باب الفتوح بني في سنة ثمانين وأربعمائة”.
ويتغنى المقريزي بجمال باب زويلة فيقول: “وقد أخبرني من طاف البلاد، ورأى مدن الشرق، أنه لم يشاهد في مدينة من المدائن عظم باب زويلة ولا رأى مثل بدنتيه اللتين عن جانبيه. ومن تأمّل الأسطر التي قد كتبت على أعلاه من خارجه فإنه يجد فيها اسم أمير الجيوش، والخليفة المستنصر، وتاريخ بنائه. وقد كانت البدنتان أكبر مما هما الآن بكثير، هدم أعلاهما الملك المؤيد شيخ لما أنشأ الجامع داخل باب زويلة، وعمر على البدنتين منارتين”. وهو يشير بذلك إلى بناء السلطان المملوكي المؤيد شيخ إلى المئذنتين على بدنتين الباب. ليكون بذلك المشهد الجمالي الفخم لباب زويلة كما نعرفه الآن، والذي وثقه العديد من الرسامين الأجانب في أعمالهم.
قلب العاصمة
واكتسب الباب أهمية قصوى لكونه تحول إلى قلب العاصمة المصرية بأقسامها المختلفة. فهو يقع بين القاهرة الفاطمية المسورة والفسطاط وقلعة الجبل. لذا أصبح قلب الحياة النابض في المدينة، فحركة التجارة القادمة من بلاد الشام كانت تدخل من باب النصر ثم تمضي في القصبة العظمى (شارع المعز حاليا) وصولا إلى باب زويلة ومنه إلى بقية أنحاء المدينة. وكان هذا الطريق هو نفسه الذي يستخدمه سلاطين المماليك عند شق المدينة بعد عودتهم من حروبهم في الشام. فيدخل السلطان في موكبه من باب النصر ثم يمضي إلى باب زويلة ومنه يصعد إلى قلعة الجبل. كما لعب باب زويلة حلقة الوصل بين القاهرة المسورة والامتدادات العمرانية التي شغلت المساحة بينها وبين الفسطاط في العصر المملوكي.
هذه المكانة الاستراتيجية لباب زويلة، جعلته المكان المفضل للسلطة منذ العصر الفاطمي حتى العصر المملوكي لاستخدامه كمنصة عقابية لكل من يتحداها. فقد صلب مجموعة من الخدم بين قاعة الجبل وباب زويلة عقابا على اشتراكهم مع شجر الدر في التخلص من المعز عز الدين أيبك، في تلك الفترة الانتقالية بين الدولتين الأيوبية والمملوكية.
لكن الحادثة الأشهر في تاريخ باب زويلة تمثلت في تعليق رؤوس المغول على باب زويلة من قبل السلطان المظفر قطز. “وهذه الرؤوس أول رؤوس علقت على باب زويلة من التتر”، بحسب المقريزي. وهذه الإشارة هي التي فهمها البعض بشكل خاطئ بأن عادة تعليق الرؤوس على باب زويلة بدأت في العصر المملوكي، على الرغم من أن المقريزي قصر الأمر على المغول فقط. لكن استخدام باب زويلة لم يقتصر على معارضي السلطة السياسيين بل امتد إلى أصحاب الجرائم ممن هددوا السلم العام للمدينة.
طومان باي
واستمرت عادة تعليق الخارجين على الدولة على باب زويلة طوال العصر المملوكي تقريبا، حتى كان ختام هذا العصر بتعليق السلطان المملوكي الأخير طومان باي على الباب ذاته. وذلك بعد هزيمته أمام السلطان العثماني سليم الأول في الريدانية وفشل المقاومة التي قادها لمحاولة طرده من البلاد. ويصف لنا ابن إياس في (بدائع الزهور في وقائع الدهور)، المشهد الختامي في حياة طومان باي قائلا: “فلما أتى إلى باب زويلة أنزلوه من على الفرس وأرخوا له الحبال ووقفت حوله العثمانية بالسيوف. فلما تحقق أنه يشنق وقف على أقدامه على باب زويلة. وقال للناس الذين حوله: اقروا لي سورة الفاتحة ثلاث مرات. فبسط يده وقرأ سورة الفاتحة ثلاث مرات وقرأت الناس معه. ثم قال للمشاعلي: اعمل شغلك. فلما وضعوا الخية في رقبته ورفعوا الحبل فانقطع به فسقط على عتبة باب زويلة… ثم شنقوه وهو مكشوف الرأس… فلما شنق وطلعت روحه صرخت عليه الناس صرخة عظيمة وكثر عليه الحزن والأسف”.
يظهر من هذا العرض التاريخي أن باب زويلة استخدم لتعليق الرؤوس منذ العصر الفاطمي. وهي حقيقة تاريخية وقع الكثيرون في خطأ تجاهلها وعدم الوقوف عندها. وهو ما تكرر في العديد من التقارير الصحافية التي نقلت عن بعضها البعض، التي وقعت أسيرة شهرة هذه الظاهرة في العصر المملوكي خصوصا مع حادثتي تعليق رؤوس رسل هولاكو وشنق السلطان المملوكي الأخير طومان باي على الباب. الذي تحول من كونه باب مخصص لحماية المدينة إلى الأداة العقابية الأشهر والأقدر على توصيل رسالة السلطة الدموية للمحكومين.
اقرأ أيضا:
«يونس الدوادار».. قبة قاهرية وذكرى غزاوية