«الأقصر».. مدينة الألف باب
زيارة الأقصر واجبة للراغب في التعرف على تاريخ مصر العريق وتأصيله. وهي مدينة على ما مرت به طيلة سنواتها الممتدة لازالت تحتفظ بعدد هائل من الآثار التي تبرز هذا التاريخ بشكل واضح لا شائبة فيه. فالمعابد القديمة التي تكشف عن هذه السجية كثيرة متعددة، تنبئك أنها كانت عاصمة مصر كلها ومركز ثقله السياسي والديني. ولا على كل هذا لا يمكن اختزال مدينة الأقصر التي أطلق عليها مدينة الألف باب في معابدها فقط. بل هي مدينة كأي مدينة، تنبض بحياة الناس وتنوع مشاربهم ورغباتهم فيها، تعدد السكنى بين المنازل والعمائر والفنادق، أصالة الناس التي تنعكس على لهجتهم وطريقة تعاملهم مع الضيوف الذين يترددون على المدينة دون انقطاع. والمدينة على هذا تمتلك حياة صوفية موازية لا تقل أهمية عن الحياة العادية فيها فهي أحد أهم المدن الصوفية في مصر، وأكثرها أصالة كذلك.
***
يظهر مسجد أبوالحجاج كأحد أبرز تلك المعالم الصوفية في المدينة، فهو يطل عليك منذ اللحظة الأولى التي تطأ قدمك فيها أرض الأقصر العريقة. مشهد مسجد أبوالحجاج بساحته الواسعة التي لا تخلو من زائر، يبرز قيمة هذا الولي ومسجده بين الناس في مدينة الأقصر. ولقد بني هذا المسجد بشكل استثنائي على معبد الأقصر، المعبد الذي لم تظهر منه أي معالم معمارية بسبب الرمال الكثيفة التي غطته حينها.
فكأن هذا النموذج مثال معبر عن طبيعة الحياة والناس في المدينة. وتاريخها كذلك فهي المدينة التي مرت عليها كل طبقات التاريخ المصري منذ نشأته حتى يومنا هذا، بتقلباته المعتادة وبمظاهره المختلفة. وتلك التفاصيل كفيلة بأن تدهشك بشكل بالغ، وتترك في نفسك أثراً عميقاً عن ماضي المدينة وحاضره المبهر.
أخذ الناس في الأقصر كل هذا ومزجوه في كأس واحد ليظهر بصورته الحالية التي لا يمكن التعامل معها على وجه واحد، بل بأوجه مختلفة متعددة. كل واحد منها يحمل صورة معينة عن تاريخ مصر وتركيبته المعقدة. وللحديث عن ظاهر هذا وتأثيره بقية، لكن الأولوية الآن لتاريخ المدينة الذي صنع اسمها.
معبد الكرنك
لا يوجد مدينة في هذا العالم تحمل هذا الكم الهائل من المعابد مثل مدينة الأقصر. حتى أن دلالة الاسم كافية، فالمدينة التي سميت بهذا الاسم نسبة للقصور الكثيرة التي رآها العرب في المدينة. تبين حقيقة الإرث المعماري الذي تنفرد به الأقصر عن غيرها من المدن. لقد أنشأت تلك المدينة لتكون مقراً لعبادة وتبجيل الآلهة المصرية القديمة، وعلى رأسهم الإله آمون، بنفوذه القوي والمتمكن.
طريق الكباش الذي يخترق المدينة ويفصلها إلى نصفين تقريبا، شاهد على دلالة هذا، فهو الذي يربط بين صرحين عظيمين في المدينة. أما الأول فهو معبد الكرنك الذي كرس لعبادة آمون، منذ أول لبنة وضعت فيه حتى آخرها. مع تغير النظم السياسية في مصر طيلة تلك السنين الطويلة. يعكس هذا المفهوم الصروح التي بنيت داخل أروقة هذا المعبد، بدءا من ملوك مصر القديمة حتى عصر الرومان. إلا أن التركيز الأكبر على هذا المعبد والاهتمام به كان من قبل ملوك الدولة الحديثة. حيث إنهم اتخذوا الإله آمون إلها للحرب، وواهب النصر. لذلك كان من البديهي أن يتم الاهتمام بإنشاء مقاصير ومسلات وصروح من قبل ملوك الدولة الحديثة داخل تلك المنشأة الضخمة والثرية.
***
يستقبلك المعبد بالمرسى، الذي أنشأ على قناة متفرعة من نهر. أنشأ هذا المرسى خصيصا لنقل الإله آمون عند زيارته للمعبد الآخر على طرف المدينة (معبد الأقصر) المعبد الذي كان يزوره في عيد الأوبت عن طريق قوارب تنقله عبر نهر النيل المقدس قبالة المعبد. ثم تقف تماثيل الكباش في أول المعبد. تقف بصمود منذ آلاف السنين بشكل فخم ومظهر عظيم، ونحتت الكباش ببراعة فائقة وهي تضم بينها تماثيل للإله آمون.
يتكون المعبد الضخم من صروح متعددة ومختلفة. فالصرح الأول أضخم الصروح وأعظمها على الإطلاق بارتفاع شاهق، يوصلك إلى بهو مفتوح يضم العديد من المقاصير التي خصصت لحفظ مراكب رحلة آمون المقدسة في عيد الأوبت. وهو أحد أهم الأعياد المصرية القديمة الذي أصبح عيدا رئيسيا في أوائل الدولة الحديثة. وتحديدا عندما تولت الأسرة الثامنة عشر السلطة. وكان يقام هذا الاحتفال بمناسبة الحصاد وبتجديد سلطة الدولة وإعادة تتويج الملك المصري.
تصل بعد هذا إلى تمثال رمسيس الثاني الضخم في وضعه الأوزيري عبر الصرح الثاني. ثم تدخل بعد ذلك إلى درة تاج المعبد المهيب. حيث قاعة الأعمدة أو بهو الأساطين العظيم الذي يضم بين جنباته 134 عمودا، تمثل تاريخا ثريا لمصر في عصورها السابقة، والأعمدة مليئة بالنقوش والزخارف التي تميز بها هذا المعبد خاصة. فما بين نقوش تصور الملك سيتي الأول راكعا تحت الشجرة المقدسة والإله جحوتي إله الحكمة يكتب اسمه عليها. ونقش يحتوي على تدوين قصيدة في معركة قادش، تتزين تلك القاعة.
***
ضم هذا المعبد العظيم إضافات من ملوك وأباطرة كثيرون وصل عددهم إلى 30 ملكا، كلهم تقربوا إلى الإله آمون من خلال إصلاحات وإضافات كانت ولا زالت تشكل إرث مصر الخالد في العمارة والفنون. وعند نهاية المعبد تقف مسلة حتشبسوت شاهدة على تاريخها الذي حاولت بكل ما أوتيت من قوة أن تخلده في معابد آمون. حيث كانت تتقرب إليه كونه الأب الروحي لها ومصدر شرعيتها في الملك، وبجانبها مسلة أيضا لتحتمس الأول والدها، المنتصر العظيم في حروبه والذي لم يترك الفرصة أيضا ليخلد ذكراه.
على جانب من المعبد، تقع البحيرة المقدسة، البحيرة التي تنبض بالحياة كما النقوش في المعبد تماما. يقف تمثال الجعران الكبير الذي يتصدر البحيرة كأنه الممد لها بالماء والمغذي الرئيسي لحياتها، تعود تلك البحيرة إلى عهد الملك تحتمس الثالث الذي أضاف بصمته هو الآخر ضمن أروقة المعبد. استخدمت تلك البحيرة في التطهير والاغتسال خلال مراسم الاحتفالات الدينية في مصر القديمة، حيث كان الملك والكاهن الأكبر يتطهرون فيها.
وإذا كان معبد الأقصر يضم بين جنباته ضريح ولي ليعكس تراكمية المدينة، فمعبد الكرنك كذلك يضم ضريحا لأحد الأولياء المقدسين في الأقصر وهو ابن دقيق العيد، عالم الفقه المشهور وصاحب الإرث الكبير في شرح الأحاديث النبوية، ومع كون ابن دقيق دفن في القاهرة إلا أن أهل الصعيد آثروا أن يحتفظوا بجزء من إرثه عندهم.