«الأصولية» وما حدث في العمران

(1)
هذا كتاب جديد في موضوعه للدكتور نزار الصياد، أستاذ العمارة والتخطيط في جامعة كاليفورنيا، وصاحب الكتب الكثيرة بالإنجليزية، كتبها أو قام بتحريرها، من بينها أربعة كتب بالعربية، وقد ترجَم الكثير منها إلى لغات أخرى. من كتبه: “مدن وخلفاء”، و”النيل.. مدن وحضارات على ضفاف نهر”، “عشوائيات العمران”، “مدن وخلفاء”، “القاهرة السينمائية.. عن المدينة والحداثة ما بين الصورة والواقع”، وغيرها.
هذا الكتاب كتب أصلا بالإنجليزية، وقامت بترجمته هالة حسنين، وتم نشره في دار “المرايا” بعنوان: “المدينة الأصولية: عن ممارسات التدين والتطرف وآثارها على العمران”، في ثلاثمائة وخمسين صفحة من القطع الكبير.
يقول في مقدمة الكتاب إنه في يوم جمعة بالقاهرة، اقترب موعد الصلاة، وكان في حاجة إلى الذهاب إلى عمل ما. خرج من بيته ليجد الشارع مفروشا بالسجاد ولا مرور عليه. أخذ طريقا جانبيا فرأى نفس الشيء. أرجأ المشوار، وجلس يصلي ويستمع إلى المشايخ وأصواتهم في الميكروفونات. هذه التجربة جعلته يفكر في “الحق في المدينة”، وكيف يتراجع. من له حق في الفضاء العام؟ وعلى حساب من يكون هذا الحق؟ وأين حقوق الأقليات في ذلك، فضلا عن الأفراد؟
قرر مع زملائه في أمريكا بحث الموضوع والكتابة عنه، وكان هو مشرفا، وشاركت في البحث أسماء ستأتي مع كل فصل. نُشر الكتاب أول مرة بالإنجليزية عام 2011، ثم بعد عشر سنوات نُشر بالعربية دون تعديل.
سؤال الكتاب: هل هناك حقا مدينة أصولية، أم نحن في الطرق لنراها في وقت قريب؟
يأتي الباب الأول من الكتاب بعنوان: “الأصوليات المتعددة.. ما بين المدينة والدولة”، ثم يأتي الفصل الأول بقلم نزار الصياد بعنوان: “المدينة الأصولية؟”، مع علامة استفهام ليتحول العنوان إلى سؤال يبدو غامضا ومشوقا.
***
يبدأ بالحديث عن العولمة، وكيف أدت إلى تغير العلاقات الزمنية والمكانية، تغييرات جوهرية في العلاقة بين الشعوب والدول، لكنها، للمفارقة، كثيرا ما تجد الحركات القومية والمجتمعية والدينية أكثر قوة. لقد صار الدين أكثر قوة في هذه الطفرات، سواء في المسيحية أو اليهودية أو الهندوسية أو الإسلام، وتقدمت المشهد الجماعات الدينية المتطرفة، رغم أن هذه الجماعات قد توفر خدمات اجتماعية لا تجد في بيروقراطية الدولة اهتماما، مثل الرعاية الصحية، والعيادات، والمستشفيات، والحضانات، والمدارس، وبرامج كبار السن، وغيرها.
يتحدث عن مشروع “المدن والأصوليات” الذي أنتج هذا الكتاب، والعلاقة المعقدة بين الأصولية كمفهوم، والعمران الحضري. يعرف الأصولية ومعناها كما وردت في القواميس ودوائر المعرفة الأجنبية: Fundamentalism. ويشير إلى الجذور المسيحية للمصطلح، الذي كان أول استخدام له مرتبطا بالبروتستانت الإنجيليين في أوائل القرن الماضي، حين شددوا على مثالية الإنجيل وضرورة الالتزام به كوثيقة تاريخية. لقد تم استخدام المصطلح لأول مرة في مؤتمر الكنيسة المعمدانية الأمريكية الشمالية عام 1920.
لكن الأصولية ظهرت أيضا من قبل في مواجهة الاستعمار في القرنين الثامن والتاسع عشر. الاستعمار الذي روَّج للحرية الفردية، أخذت منه الجماعات القومية، هذه الفكرة للحرية في مقاومته. يمشي مع فلاسفة وعلماء وغيرهم بحثوا ذلك، وتطورات الفكرة مع عصر المعلومات، وتجديد الفكرة ونقدها، وغير ذلك مما سيشمله الكتاب بتوسع فيما بعد.
أيضا يناقش بعض الاتهامات لمفهوم الأصولية، ومنها الخلط بين الحركات الدينية المحافظة، وبين الحركات القومية الدينية التي ظهرت في أعقاب الاستعمار وغيرها.
***
يأتي السؤال: إذا كانت الأصولية تصنيفا مبنيا على أساس ديني، ما علاقتها بالمدينة؟ وما هو الطابع الجغرافي للأصولية؟ مثلا، الظهير الصحراوي الذي جاء بالوهابية في القرن التاسع عشر، ثم عادت في القرن العشرين، أو حادث الحادي عشر من سبتمبر في أمريكا، أو جماعة التكفير والهجرة في مصر في الستينيات، التي هاجرت إلى الصحراء لتعود تحرر المدن. مشاكل وقتال في الهند بين الهندوس والمسلمين على مناطق يشغلها المسلمون أكثر، كما حدث عام 2002 في بلدة كوجارات.
وغير ذلك من تعريف المدينة الأصولية مثل أنها، وبشكل قاطع، تقوم بإقصاء المنتمين إلى دين آخر، أو مجموعة إثنية أخرى، أو التي تلتزم فيها الأقلية بالشعائر الخاصة للأغلبية في السلوك العام. أو هي المدينة التي يتم فيها الفصل على أساس الجِندر بين الذكور والإناث. ثم تطرح انتقادات لهذه التعريفات التي قد تشهد خروجا عنها.
***
ثم يتحدث عن فصول الكتاب. نتركه وندخل الفصل التالي بعنوان: “عن نمو الأصولية في المدينة”، بقلم الباحثة إنجر فورست، الأستاذة بجامعة جنوب كاليفورنيا.
تبدأ بسؤال: كيف كانت الصحوة الدينية التي بدأت تظهر في السبعينات وأوائل الثمانينات مفاجأة لعلماء الاجتماع، الذين كانوا يرون العلمانية آخذة في النمو؟ تناقش مصطلح الأصولية الذي سبقت مناقشته في المقدمة والفصل السابق، بواسطة نزار الصياد، لكن بتفصيل وتدقيق أكثر.
هنا نظريتان متقابلتان هما “العرض والطلب”، يتم تفسير التنظيمات الأصولية بهما، مع العوامل الخارجية والداخلية لنشوء الأصولية في الحضر. هناك عاملان خارجيان: الأول، أوضاع الحضر، والثاني، سياق التنظيمات الأخرى. لماذا تنمو التنظيمات الأصولية؟ يقوم ذلك على فكرة “الطلب” لها، بينما فكرة “العرض” تقوم على المتغيرات الداخلية. نظرية مثل “نظرية الأزمة” ذات التوجه المبني على الطلب، والتي تُستخدم كثيرا لتبرير ظهور الحركات الأصولية نتيجة أزمة “حركة التحديث”، ومنها انحدار القيم الأخلاقية، أو فقدان الهوية الثقافية.
كذلك ظهرت نظرية “تعبئة الموارد”، التي فسرت ظهور التنظيمات الأصولية بتغيرات في الفرص السياسية والموارد المتاحة للجماعات الساخطة. أما العلاقة بين المدينة والدين، فإجماع علماء الاجتماع على ثلاثة تفسيرات توضح العلاقة بينهما: أولها التفسير المنغلق، وثانيها التفسير الإصلاحي، وثالثها التفسير القائم على الصراع.
***

مثال علي التفسير المنغلق: الزعم بأن المدن معاقل قوية لبيئة غير دينية، وارتباط قوي بين التمدن والعولمة نراه عند ماكس فيبر وكارل ماركس قبله، حيث تم إبعاد الكنائس عن السياسة، وكانت المدن تعددية بالمهاجرين والحركة الصناعية.
بينما، مع الوقت، جاء التركيز على الدين أيضا بعد ما جرى للمدن من زحام، وزحف عمراني، وفقر، وجريمة، نراه في مدن كثيرة مثل مانيلا، ونيو مكسيكو، وجاكرتا، وغيرها. فجاء نمو المقدس في زمن العلمانية، وساعد الحيز الحضري على تجنيد أعضاء الأصولية، فكل شيء واضح للاتصال، فضلا عن توفير المدن لقاعدة بيانات لأعداد كبيرة من المنظمات المحلية والوطنية.
يأتي الحديث عن سياق التنظيم الأصولي، والفرص السياسية له بالقانون في بعض البلاد للحشد والتعبئة، وعلاقة التنظيمات الأصولية بغيرها التي تصل أحيانا إلى اعتمادها عليها في الموارد. إيديولوجية التنظيمات التي تعيد تفسير العالم ومظالمه في إطار ديني. التنظيم الحركي للمنظمات التي تزعم – نظرية تعبئة الموارد- أنه يشكل عاملا أساسيا في تطوير الحركة. فمثلا، كانت الجماعات الإسلامية في السبعينيات في حاجة إلى تنظيم للحصول على الثروة، التي أتيحت لها من حيث لا تحتسب من النفط، وكان للاقتصاد الإسلامي دور ملحوظ في بناء ما يسمي بـ”الإسلام النفطي”.
***
ثم يطرح الحديث عن دور الشبكات الاجتماعية الموجودة سلفا في التعبئة والحشد، ثم وضع المرأة في المنظمات الأصولية، الذي يتغير من تنظيم لأخر. فبعضها يميل إلى تجنيد الإثنين، وبعضها يقتصر على الرجال، وتبقى المرأة في البيت.
مثلا، في حركة “سانتي أسوكا” الأصولية في البوذية في تايلاند، حاولت القضاء على التمييز بين الإثنين، بل وبين الكهنة والأشخاص العاديين. أما التنظيمات الأصولية البروتستانتية، فتسعى لتجنيد الإثنين، مع التأكيد على اختلاف دور كل منهما. بينما جماعة الدعوة في ماليزيا تفصل بين الإثنين بشكل صارم، فللنساء فقط الأعمال المنزلية، حتى الأسواق يذهب إليها الرجال لا النساء. وفي التنظيمات الأصولية الإسلامية، قد يتواجد الاثنان، فزينب الغزالي مثلا كانت رئيسة لجمعية النساء المسلمات، وبعد أن صار قمع ناصر للإخوان المسلمين، صار منزلها مركزا للدراسات لأعضاء الإخوان المسلمين.
***
يأتي الفصل الثالث بعنوان: “المدينة من أثينا إلى البرازيل: المدينة وأشكال المواطنة غير العادلة”، بقلم جيمس هولستون، الأستاذ بقسم الأنثروبولوجيا بجامعة كاليفورنيا. على عكس فصول الكتاب التي تتناول المدينة والأصولية من وجهات نظر متعددة، يتناول هو مسألة المواطنة، مع التركيز على مفهوم المدينة في إطار “المواطنة غير العادلة”، والتي تعتبر الأصولية وجها متطرفا لها.
فكل نظام مواطنة له مدينته الخاصة، بما في ذلك نظم المواطنة غير العادلة. والمدينة، ليست مثالية كما تزعم الثقافة الغربية، إلا إذا كان التوافق عليها مرتبطا بمجموعة من القيم مثل الحضارة، والحرية، والثقة، والكرم، والاحتواء، والعلمانية، والديمقراطية. والأصل لا تمييز في المواطنة.
يبحث الكاتب مسألة مثالية المدينة وعكس ذلك في التاريخ، وعند بعض الفلاسفة، ويقدم أمثلة تاريخية على التوافق المبني على الإقصاء. منها مدينة أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد. فيها استَّن المواطنون سلسلة من الإصلاحات الدستورية، بعد انتصارهم على النخبة المزعومة من أسبرطة، أدت إلى تأسيس أكبر المدن ديمقراطية في التاريخ اليوناني. فصارت هناك جمعية تنعقد متمتعة بسلطة نفي مواطنين آخرين بدون أي مبرر، وهكذا فالنبذ يمكن تحقيقه بأكثر الطرق ديمقراطية.
يمشي بعد ذلك مع المدينة والعنف، ففي عام 1550، دار جدل كبير في مدينة فلافويد أمام محكمة إسبانية، بين وجهتي نظر متعارضتين: الأولي ترى أن الغزو الإسباني للبرازيل له أسباب عادلة، بينما الثانية تدين الغزو. يذكر الأحداث والأقوال. تصور الحقوق باعتبارها معاملة خاصة تتمتع بها فئات معينة من المواطنين، هو تصور يشكل أساس المدينة في كل أنظمة المواطنة التمييزية. ورغم أن كثيرا من هذا قد تغير، لكن لا يزال استخدام مصطلح “الحق” يعتمد على طريقة ثالثة، وهو أن تكون “على حق” أو أن تكون “مستقيما”، يعني أن هناك شرطا أخلاقيا لذلك، وهذا أمر نسبي. ومن ثم، فالبحث عن الحقوق في مثل هذه الأشكال من المواطنة يجعل الفقراء ينخرطون في ممارسات منحرفة وهكذا.
(2)
ننتقل إلى الباب الثاني بعنوان “الأصوليات المتعددة والعمران”، فنعود إلى الكتاب وموضوعه. يبدأ بالفصل الرابع: “عن الهوية الوطنية الأمريكية.. المدينة الحديثة ونشأة الأصولية البروتستانتية”، بقلم رايس ويليامز، الأستاذ بقسم علم الاجتماع بجامعة سينسيناتي بولاية أوهايو. تمشى مع قصة ميلاد الأصولية البروتستانتية في أوائل القرن العشرين، وما سبقها، وهو ما جاء كرد فعل على الحداثة، التي انعكست على الدين والثقافة، مما شجع البروتستانت على الانغلاق الديني، ونمو حركة دينية اجتماعية.
لقد شكلت البيئة الثقافية في بداية القرن العشرين أزمة في المفاهيم الشائعة حول الهوية الوطنية الأمريكية. فالأصولية تميل إلى بناء ماضٍ مثالي، وتعيد خلق الماضي بنظرة دينية كونية شاملة. نجد هذا الميل أيضا في حركات دينية هندوسية وبوذية، فهذه الأديان الشرقية صار لها أيضا موقف مع عالم العصر الصناعي الذي يستخدم العقلانية العلمية، أي مع الحداثة وحركة التحديث.
يناقش الكاتب ذلك عبر دراسات حول ظهور الأصولية شارك فيها، ويستمر متحدثا عن ظهور الخطر من المجتمع الحضري الحديث. يتحدث عن الأصولية والتقاليد، وكذلك عن الأصولية والإنجيلية في أمريكا الشمالية. الأصولية والتقاليد تركز على الكتاب المقدس، باعتباره المصدر الحاكم، بل الوحيد للسلطة الدينية، بينما الإنجيلية تؤكد على توجيهات تجريبية للوصول إلى الإيمان، الذي غالبا ما يكون مُعبَّرا عنه بشكل عاطفي.
***
يتتبع الفرق بين التبشير الإنجيلي والأصولية، وكيف يتبنى الأصوليون فكرة “الانفصالية” الدينية، فيدعون المؤمنين للانفصال عن العالم، ليس العلماني فقط، لكن أيضا عن مؤسساته الدينية السائدة، التي تعايشت بسلام مع الحداثة.
يرى الكاتب أن الأصولية كما يراها تؤمن بمفهوم “الاستعادية”، أي تعتمد على الماضي، وتقسم العالم إلى ثنائيات مختلفة. ثم ينتقل إلى الدين والمدينة في التطور التاريخي للولايات المتحدة الأمريكية. موضحا كيف منذ منتصف القرن التاسع عشر كانت المناطق الحضرية الأمريكية ساحة للتنوع الاجتماعي والديني واللغات والثقافات، مما شكل تغيرا في التنظيم الديني.
ويستمر الحديث في تتبع التطور الاجتماعي والسياسي للأصولية في مدن الولايات المتحدة الأمريكية، وأيضا في الريف والبلدات الصغيرة، خاصة في الجنوب والغرب الأوسط. باختصار، لم تكن الأصولية البروتستانتية رد فعل سياسيا على مخاطر تهدد الأمة الأمريكية مع الهجرات، والصناعة، والحداثة، لكنها كانت في المقام الأول رد فعل دينيا تجاه الشعور بأن المسيحية قد فقدت الطريق في التعامل مع التغيرات التي يشهدها العالم الصناعي الحديث.
***
يأتي الفصل الخامس بعنوان: “إنتاج المدينة الطائفية: حركة الهندوتفا وأثرها على عمران أحمد أباد في الهند”، وتكتبه رينو ديساي، الباحثة والمحاضرة المستقلة في الهند. هنا تجد حركة “هندوتفا”، التي تمثل اليمين الهندوسي، وبروزها في الهند على مدى العقود القليلة الماضية، وما فعلته مع المسلمين. تتناول الكاتبة مدينة أحمد أباد وما حدث في حيزها المكاني بسبب صراعات الهندوس والمسلمين. الكاتبة هنا تستخدم مصطلح “المدينة الطائفية” من عندها.
تتبع تاريخ المدينة منذ تأسيسها علي يد السلطان أحمد شاه عام 1411 على الضفاف الشرقية لنهر سابارماتي، وكيف كانت البيوت مرصوصة على امتداد مسارات ضيقة مرتبطة بفئة معينة، أو بديانة معينة، وكان الأثرياء يعيشون مع الفقراء ويعتنون بهم. ثم تصف ما حدث من تدهور بعد ذلك، ثم عودة بروزها مع عودة الاستقرار السياسي الذي جلبه الحكم الاستعماري الذي بدأ عام 1817. في نهاية ذلك القرن، عرفت المدينة التصنيع، ومنه تصنيع نسيج القطن في ضواحيها.
***
تدفق كثيرون من الريف للعمل، وتم تنظيم العمل على أساس الفئة والدين. وهكذا لم يتم توظيف “الداليت”أو المنبوذين إلا في أقسام الغزل، في حين عمل المسلمون والهندوس في أقسام النسج باعتبارهم الفئة العليا. تطورت المدينة مع أوائل القرن العشرين، وظهرت فيها الكمباوندات للأسر الغنية، ومع أواخر الستينيات كانت المدينة بها ثلاث مناطق: المدينة المُسوَّرة للفئات العليا والداليت والمسلمين جنبا إلى جنب، والثانية حول مصانع النسيج، والثالثة هي “أحمد أباد الجديدة” التي بدأت بعد استقلال الهند تنمو على الجانب الغربي من النهر.
المهم أن الكاتبة تصل إلى تأثير حركة “هندوتفا” على أنماط الفصل العمراني والعنف في المدينة. فكانت هناك أعمال شغب لخلافات على أرض سيقام عليها معبد إسلامي، أو حول الاحتفال بذكري شيخ صوفي، وتتكرر الأحداث لسنوات كثيرة، فنراها ضد المسلمين وحرق مساجدهم وبيوتهم. تفاصيل كل حدث وضحاياه الذي وصل عام 2002 إلى مذبحة صارت معروفة بمذبحة كوجارات، مات فيها أكثر من ألف مسلم، وتم اغتصاب النساء، وتدمير وتخريب أكثر من مائة ألف منزل، وخمسة عشر مشروعا تجاريا أصحابها أغلبهم من المسلمين، مع تواطؤ الدولة على ذلك.
***
تحولت “أحمد أباد الغربية” إلى فضاء هندوسي، ورحل الميسرون من أحمد أباد الشرقية إلى الغربية. فصار الحيز العمراني المتاح للمسلمين محدودا، وعليهم أن يواجهوا ارتفاع أسعار العقارات، وهكذا. كذلك غابت معالم كثيرة عن مدينة كوجارات مثلما حدث مع أحمد أباد. كوجارات التي كانت توصف بأنها متألقة ومتعددة الثقافات وتاريخية ونابضة بالحياة، صارت المدينة الطائفية التي تُبني على الهويتين الهندوسية والمسلمة. المسلمون صاروا يبحثون عن السكن في أماكن أخري، فخلق هذا الوضع أنماطا جديدة من الفصل العمراني.
لكن هذا لا يعني أن المدينة الطائفية مشروع لا يمكن مواجهته. هو مشروع غير مكتمل، يتم بالفعل مواجهته، لكن العلاقة بين سياسات الهندوتفا والفضاء العمراني يجب أن تؤخذ على محمل الجد، إذا كانت هناك رغبة في مواجهتها. الرحلة هنا مع ما فعلته حركة هندوتفا مع المسلمين مرعبة بتفاصيلها وتأثيرها في تغيير المكان.
***
ننتقل إلى الفصل السادس بعنوان “عن ممارسات التدين والحيز العمراني: تجربة حزب الله في بيروت”، بقلم منى حرب، أستاذة التخطيط والدراسات الحضرية بالجامعة الأمريكية ببيروت. يتناول الفصل حديث عن حزب الله ونشأته، وولاءه كحزب شيعي لإيران والخميني، ومصادر دعمه، وطريقة عمله، وتطوره منذ الحرب الأهلية اللبنانية، بالإضافة إلى هجوم إسرائيل المتكرر على لبنان، والمؤسسات والمنظمات التابعة للحزب.
ثم ينتقل الحديث إلى التغير في الاحية الجنوبية لبيروت، التي صارت مقرا له، ومعقل منظماته. كيف صارت كلمة “الضاحية” اسم مكان كأنها مدينة مستقلة، وليست صفة ببعدها عن بيروت، ودلالة على غالبية سكانها وتمردهم على السياسية اللبنانية.
***
في المقال السابع يأتي الحديث بعنوان “حماس في مخيمات اللاجئين: بناء الحيز العمراني لتدعيم الأصولية”، بقلم فرانشيسكا جيوفاني، المحاضرة في جامعة هارفارد. كالعادة، حديث عن نشأة حماس وتأسيسها على يد الشيخ ياسين رسميا عام 1987، والتطورات التي لحقت بها، خاصة بعد أن استحوذت على السلطة في غزة عام 2005 عبر الانتخابات البلدية.
يسلط الضوء على طريقها قبل ذلك منذ الستينات لأسلمة المجتمع الفلسطيني، باعتبارها أحد فروع جماعة الإخوان المسلمين وغير ذلك، لتصل إلى المعمار. كيف كانت العزلة في المخيمات هي مكان نشاط حماس. ميثاق حماس الذي يعلن في أحد بنوده أن الإسلام تهدده القوي العلمانية. كيف يصور الميثاق أرض فلسطين باعتبارها أوقافا إسلامية، والتنازل عنها انتهاك صارخ لهدفها الإسلامي.
يطرح المقال ثلاث استراتيجيات اتبعتها حماس لأسلمة المخيمات: الأول، إنشاء الفضاءات والرموز بطابع إسلامي، ثانيا، بناء المساجد وتوسعتها، وجعل المساجد جُزر ترعى وتحمي الضعفاء، ثالثا، إشراك الفئات الضعيفة بشكل مكثف في الجهود الرامية للأسلمة. ويوضح كيف لم يعد اللاجئ هو من يعيش خارج أرضه، فكل السكان اللاجئين طردهم من قبل الصهاينة من مدنهم، فتحول اللاجئ إلى مقاتل فدائي بعد أن كان هائما مضطهدا. هكذا صار لحماس قاعدة دعم لا تقدر بثمن.

(3)
يأتي الباب الثالث بعنوان “الهوية والعمران والأصوليات”، ويبدأ بالفصل الثامن: “الجغرافيا السياسية للتطرف الديني في المدن في إسرائيل / فلسطين”. بقلم أورين يفتاشيل وباتيا روديد. وكلتاهما أستاذة أو باحثة جغرافيا في جامعة بن جوريون في بئر السبع.
يتناول هذا الفصل كيف يعتبر الصهاينة من يتخاذل عن الاستيلاء على أرض فلسطين خائنا لأمته ودينه وبلده، فالمكان مكتوب في الكتاب المقدس إنه ملكهم. ويشرح كيف بدأ هذا البعد الجيوسياسي دراماتيكيا في فترة الانتداب البريطاني، مع وصول الأعداد الهائلة من المهاجرين واللاجئين اليهود إلى فلسطين وغيرها من البلاد العربية.
كيف تأسست إسرائيل بعد حرب 1948 كدولة إثنوقراطية يهودية، وفرضت حكما إثنيا داخل الأراضي التي صارت تحت سيادتها، والتي وصلت اليوم إلى 78% من أرض فلسطين. وما جرى من اجتياحات للضفة الغربية وغيرها، ونشأة وانتشار الكيبوتزات على حساب الأرض الفلسطينية وأصحابها. كيف صارت إسرائيل دولة ديمقراطية مع اليهود، إثنية عنصرية مع الفلسطينيين الذين صاروا يخضعون للحكم العسكري. أمثلة من الأراضي التي استحوذت عليها إسرائيل مثل الخليل وغيرها، فكلها “مدن إبراهيم”! وما جرى في ذلك وأمثلة من مدن مثل القدس وبئر السبع (أو بير شيفا بالعبرية).
***
تهويد البلاد وكذلك النقب على حساب البدو، بإنشاء مبان يهودية يسكنها اليهود وغير ذلك كثير، مثل رفض حكام بئر السبع فتح مسجدها الشهير ذي الأهمية المعمارية، الذي بناه العثمانيون لخدمة السكان، وكما قال إيلي بوكران، أحد أعضاء مجلس الائتلاف الحاكم: “المنطقة بها عشرات المساجد في مناطق وبلدات البدو، وأصبحت بئر السبع الآن يهودية، ولها الحق في حماية هذا الطابع الحضاري”. هكذا سبق اليهود حماس في تديين المكان.
يأتي الفصل التاسع بعنوان “الأصولية تتصدر المدينة: طالبان في بيشاور، باكستان” بقلم مزجان معصومي، وهي مخططة مدن ودكتورة في التاريخ بجامعة ستانفورد بأمريكا. كالعادة، يتناول تاريخ مدينة بيشاور وظهور طالبان، والدور الأمريكي في تقويتها في مواجهة الاتحاد السوفييتي الذي غزا أفغانستان بين عامي 1979-1989.
كيف تأسست أيديولوجية طالبان كجانب من الانتعاش الكبير للأصولية الدينية في العالم، الذي بدأ مع السبعينيات من القرن الماضي. ما جرى لبيشاور من تحولات خلال العهود القديمة والحديثة. كيف كانت يوما مدينة الفنون والثقافة، وكيف صارت مدينة طالبان، التي تتحجب فيها النساء، وتُمنع فيها الأغاني، وتُطلق فيها اللحى، وغير ذلك مما هو معروف عن الإسلام الشكلي، دون النظر إلى حقيقة هذا في التاريخ، وتغيره مع التجديد في الفكر الإسلامي.
***
كيف صارت “الحدود الإسلامية”، كما يقولون، تقام في ساحات النوادي على مرأى ومسمع الحاضرين، فيتم الجلد وقطع الرقبة وقطع الأيادي علنا. أمثلة مرعبة على ذلك، مثل تفجير ضريح الشاعر الصوفي رحمن بابا لأن النساء يزرنه. وغير ذلك كثير صار هو الفضاء العام لبيشاور.
تأتي ثلاثة فصول بعد ذلك لن تختلف كثيرا في نتائجها، مع الحديث عن ظهور الأصولية، مثل الفصل العاشر عن “المشاركة المجتمعية من الإنجيليين المحافظين البيض في التعامل مع الأحياء الفقيرة في المدينة في أمريكا”، بقلم عمري إليش، أستاذ الأنثروبولوجيا المساعد في جامعة نيويورك، والفصل الحادي عشر عن “العمران الحضري في مدينة ما بعد العلمانية: دلهي في إطار حركة الهندوتفا في الهند”، وهي الحركة التي جاء الحديث عنها من قبل، بقلم مرينالي تيراجا جوبلان، الأستاذ المساعد بجامعة بتسبرج بأمريكا، ثم الفصل الثاني عشر عن “إقصاء واحتواء الآخر في المدينة العلمانية: التبشير الديني بين المهاجرين المسلمين والكاثوليك في لندن”، بقلم جون إيد، أستاذ علم الاجتماع بجامعة روهامبتون بإنجلترا.
وينتهي الكتاب بعد رحلة تاريخية في العالم كله حول المدينة الأصولية، بجوانبها الجغرافية والسياسية والدينية، وهي رحلة تستحق الاحتفاء بكاتبيها، وبالمترجمة هالة حسنين، وبالدكتور نزار الصياد، المفكر الدؤوب الذي كان وراء هذه الأبحاث كلها وغيرها كثير.