الأسئلة الحرجة في ملف التكفير وحرية الدين والاعتقاد (1/4)
بصراحة أود أن تشاركونني حيرتي الفكرية، حول موضوع حرية الضمير في الإسلام، الموضوع قديم من حيث تناوله في الخطابات اللاهوتية (الفقهية) الإسلامية. وفي تاريخ علم الكلام – الفلسفة الإسلامية- تراث من الكتابات اللاهوتية التي عبرت عن المواقف العقائدية للفكر الدوغمائي dogmatiques لبعض المذاهب الإسلامية، من حيث الإقرار أو نفى حرية الضمير، والتحول الديني الفردي من الإسلام إلى الأديان الأخرى أو إلى حالة عدم التدين.
سجالات لاهوتية كلاسيكية يعاد إنتاجها، وتبريرها في مصر الحديثة، وعالمها العربي والبلدان الإسلامية. وذلك لأسباب سياسية واجتماعية محضة من قبل السلطات السياسية والمؤسسات الدينية الرسمية، والجماعات الإسلامية السياسية والراديكالية. كالإخوان المسلمين، والقاعدة، وداعش وتنظيم النصرة، وبوكو حرام والسلفيات الجهادية السياسية.
**
إنها حالة معاصرة للصراعات السياسية على الإسلام، وبه في “الحياة السياسية” والاجتماعية والثقافية. إنتاج الجدل التاريخي حول حرية الضمير والتدين والاعتقاد، والتحول الديني من الإسلام إلى غيره، وراءه عديد الأهداف. وذلك بقطع النظر عن مدى دقة التفسيرات اللاهوتية لمصادر الشريعة الإسلامية القرآن والسنة النبوية المشرفة، والتفسيرات المقدمة لحد الردة- وحرية الضمير. وأن هذا الحد –الردة- لا يستند إلى نص قرآني. ويعتمد القائلين بهذا الحد العقابي، على حديث آحاد ضعيف، ومشكوك في مدى مصداقية قائله في نظر بعض كبار الفقهاء القدامى والمحدثين.
من هنا بدأت الحيرة تجتاحني هل من المفيد إعادة إنتاج هذا السجال الفقهي واللاهوتي القديم والحديث والمعاصر أمامكم. بدا لي أن هذا النمط من المقاربة اللاهوتية الكلاسيكية أو إنتاجها الفقهي المعاصر، لن يؤدى سوى إعادة طرح لأمور وجدالات معروفة في الفقه الإسلامي، والأديان المقارنة.
من ثم سيشكل هذا المدخل مقاربة فقهية، وفق مصطلحات أصول الفقه الإسلامي. والسؤال ما هو الجديد في هذه المقاربة اللاهوتية، التي ستعتمد على عرض بعض الآيات القرآنية. ومدى إقرارها الصريح لحرية الضمير، والعقيدة والتدين؟
ثم ثانيا: تناول الحديث النبوي من بدل دينه فاقتلوه، وإثبات أنه حديث آحاد وضعيف. وهنا ثار تساؤل ما الجديد؟ بعد طول تفكير رأيت أن أفضل هذه المقاربات المنهجية هي التنظير المباشر لواقع الحرية الدينية. مع الأخذ بالاعتبار المقاربات الأخرى، وذلك على نحو يفيد في الإجابة على الأسئلة التي طرحت على الباحث في هذا الصدد.
**
في البداية أود الإشارة إلى أن موضوع حرية الضمير والحريات الدينية معاصر. من حيث المعالجة الدستورية والقانونية السياسية والحقوقية. طرح إشكالية حرية الضمير حداثي بامتياز ارتبط ظهوره في إطار القانون الدولي العام بصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، 1948 في المادة 18 منه. ثم الفقرة الثانية من المادة 18 ثم المادة 19 الفقرة الثالثة من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.
بعد موافقة عديد من الدول العربية والإسلامية على الإعلان العالمي، والعهد الدولي، مع بعض التحفظات بخصوص الدين الإسلامي والشريعة كالسعودية. ظلت هذه الاتفاقات جزء من الالتزامات الدولية الشكلية، وتراكمت القيود على عديد من الحقوق والحريات العامة والشخصية لشعوب هذه البلدان. وبروز أشكال من القيود القانونية والسياسية، والثقافية الشعبية والدينية على حرية الفكر والتعبير السائد، والضمير، والتدين والاعتقاد، وممارسة الشعائر الدينية. هذا النمط من ثقافة القيود مصدره نمطي الدولة الشمولية والتسلطية الذي جاء مع الدولة الوطنية ما بعد الاستقلال وتوظيفاتها للإسلام في السياسة، في مواجهة بعض الجماعات الإسلامية السياسية.
اعتمدت الأطراف المتصارعة على الإسلام وبه في النزاعات السياسية الداخلية، والإقليمية، استنادًا على تأويلات لاهوتية/ فقهية متعددة، تم توظيفها سياسيا، وأيديولوجيا لحشد الجماهير الغفيرة، كل طرف لصالحه.
صراع التأويلات اللاهوتية والفقهية لم يقتصر فقط على العنف الرمزي والإيديولوجي. وإنما أمتد إلى العنف المادي والمسلح، من قبل الأنظمة السياسية التسلطية. أو من الجماعات الإسلامية السياسية جماعات الإخوان المسلمين، وحزب التحرير الإسلامي، وجماعة التكفير والهجرة -جماعة المسلمون- أو الجماعة الإسلامية والجهاد، والقطبيون في مصر. وصولا إلى عنف هذه الجماعات الرمزي والإيديولوجي بعد الانتفاضة المصرية في 25 يناير 2011 وما بعد. وقبلها القاعدة ثم تنظيم الخلافة الإسلامية داعش، والسلفيات الجهادية في المنطقة المغاربية، وبوكو حرام.. إلخ.
**
أحد أبرز ضحايا صراع التأويلات اللاهوتية، حرية الضمير والتدين والاعتقاد، الذي بات رهينا للشمولية والتسلطية السياسية والدينية، وعنف الجماعات الإسلامية السياسية، والسلفية والراديكالية، ودعاة هذه الجماعات.
من هنا أصبحت حرية الضمير والتدين والاعتقاد محاصرة سياسيا وقانونيا والأخطر مجتمعيا. كنتاج لبعض أنماط التدين الشعبي السائدة، وتدهور أنماط الحياة اليومية، وتديين اللغة اليومية، وترييف ثقافة المدن، وبعض أجهزة الدولة واختراق الجماعات الإسلامية كالإخوان المسلمين والسلفيين لأجهزة الدولة في مصر أساسا، وعديد من البلدان العربية، وخاصة بعد انهيار الدولة في العراق وسيطرة المذهبية السياسية في نظام ما بعد بريمر في العراق. وانتشار الحروب الأهلية في اليمن، والسودان، وليبيا.. إلخ، والتوترات المذهبية الإسلامية في البحرين، والسعودية.. إلخ.
السؤال الأول:
?The TheoLogical aspects of Conversion and apostasy- what the care of the question
الأبعاد اللاهوتية للتحول الديني أو الردة apostasy ما هو جوهر السؤال؟
نتناول الرد على هذا السؤال فيما يلي:
أولا: ثنائية المقدس واللاهوتي وحرية الضمير والمعتقد.
ثانيا: الانتفاضات الجماهيرية ووصول الإخوان المسلمين والسلفيين إلى السلطة في مصر: إكراهات الواقع المتغير.
ثالثا: التحول الديني: مشكلة وطنية أم مشكلة لاهوتية في البلدان الإسلامية؟
رابعاً: هل الإسلام وحرية الضمير يتوافقان؟ نعم يتوافقان.
أولا: ثنائية المقدس واللاهوتي وحرية الضمير والمعتقد: التراث الفقهي/ اللاهوتي الإسلامي المهمين على العقل الإسلامي النقلي الرسمي، والبنيات التأويلية حول المقدس والسنوي والسيري في التاريخ الإسلامي. هو أقرب إلى صراع التفسيرات والتأويلات السياسية والاجتماعية بين الأطراف والجماعات والطرق الإسلامية، ومذاهبها تاريخيا. منذ التأسيس الأموي والعباسي للمدونات التأسيسية للإسلام ونظامه العقيدي، وشرائعه ومبادئه الأساسية التي كتبت في العصرين الأموي والعباسي. والتي من خلالها يتم التعرف على التفاسير المتعددة للقرآن الكريم، والسيرة والسنة النبوية المشرفة وتاريخ الإسلام.
هذا التراث الكتابي التأويلي حول الإسلام، يعاد إنتاجه، وشرحه عبر الزمن. من خلال المذاهب الدينية الكبرى السنة والشيعة، وداخل هذه الثنائية المذهبية. هناك مدارس فقهية لاهوتية متعددة، تعيد إنتاج مقولاتها الأساسية، وشروحاتها، وفق مدرسة الشرح على المتون والعنعنات، والاستثناءات التاريخية عديدة على هذا الاتجاه.
**
من ناحية أخرى شكلت المدارس الفقهية تاريخيا، ولا تزال أهم الإنتاج العقلي الإسلامي، وتجاوز الفقه/ اللاهوت، علم الكلام الذي ساد في الجدل، ومدارس الإسلاميين تاريخيا. ولم يتطور على النحو الذي كان يمكنه أن يرفد العقل الإسلامي الوضعي التاريخي بديناميات، ومفاهيم للتطور.
خضع علم الكلام/ الفلسفة الإسلامية، إلى الصراعات السياسية والمذهبية، وإلى السلطات السياسية التي تدخلت بحسم هذه الاختلافات السياسية، على نحو ما تم إزاء المعتزلة، والأشعرية والماتاردية.
من هنا نستطيع القول أن قضايا الإيمان والكفر، والحلال والحرام، وحرية العقيدة والضمير، لم تكن قط مسألة دينية محضة. وإنما سياسية ومذهبية وصراعية، في كل المراحل التاريخية. وحتى المرحلة التاريخية المعاصرة منذ نظام يوليو 1952 في كافة مراحله. وحتى حكم الرئيسين الأسبقين السادات الذي تم اغتياله ومبارك. وإلى أعقاب الانتفاضة الجماهيرية في 25 يناير 2011، والمراحل الانتقالية الثلاث، بما فيها حكم الإخوان والتحالف مع بعض الجماعات الإسلامية السياسية الراديكالية، والسلفيين. وصولا إلى أحداث 30 يونيو 2013، وعزل الرئيس الأسبق محمد مرسى الإخواني.
استخدامات سياسية ودينية ومذهبية لمفاهيم الكفر والردة والإيمان في ثنائيات ضدية حادة. أي استخدام المفاهيم الفقهية اللاهوتية كجزء من الأسلحة الرمزية في الصراع السياسي الديني والمذهبي. وفي مواجهة السلطة السياسية الحاكمة، ومعها المفكرين، والمثقفين الأحرار، أو ذوي النزعة العلمانية المؤمنة أو الملحدة، أو تجاه الشيعة، أو الآخر الديني المسيحي أو اليهودي أو الأديان الأخرى. أو الجماعات غير المؤمنة من اللا إدريين وفق المصطلح الفقهي، والملحدين.
**
حرية الضمير مفهوم حداثي ومعاصر، ويرتبط بالتطورات التاريخية والسياسية للدولة/ الأمة، ولا يزال وافدا ومستوردا، من التقاليد الغربية السياسية والحقوقية الدستورية والقانونية الغربية، كجزء من الهندسات الدستورية والقانونية الغربية التي تم استعارتها في أثناء بناء الدولة الحديثة في مصر في عهدي محمد على باشا الكبير، وابنه إسماعيل باشا.
ثم تطورت هذه الهندسات الإيطالية الفرنسية اللاتينية في المرحلة شبه الليبرالية 1923-1952. ثم مع نظام يوليو 1952، وإلى الآن، من خلال النصوص الدستورية، والقانونية التي تقرر مبدأ حرية العقيدة الدينية، كمبدأ عام، ولكن تضع ضوابط على حرية الضمير والتدين والاعتقاد. والحق في ممارسة الشعائر الدينية –أيا كانت الديانة والمذهب والعقيدة والطقوس.. إلخ- هو جزء لا يتجزأ من الحقوق والحريات العامة والشخصية في الدولة الديمقراطية الحديثة – الدولة / الأمة.
ومن ثم العودة إلى البحث في أصول دينية وعقائدية ومذهبية لمواقف الأنظمة الدينية الكبرى منها. هو محاولة لمعرفة العقبات العقائدية إزاء هذه الحريات والحقوق في بعض المجتمعات غير الغربية، لاسيما الدول والمجتمعات ذات الأغلبية المسلمة من المسلمين، وتوجد بها مجموعات دينية أخرى، أو مجموعات لا إدرية، أو ملحدة أو متحولة دينيًا وتعانى من التمييز أو الاضطهاد أو العنف الرمزي أو السياسي أو الاجتماعي إزاء وجودها أو حقوقها الدستورية والقانونية في إطار التعامل مع الدولة وأجهزتها. أو في العلاقات الاجتماعية كمواطنين لهم من الحريات والحقوق الدستورية والقانونية، مع المواطنين الآخرين من الأغلبية المسلمة.
**
ازدادت أهمية مسألة حرية الضمير في ظل التوترات والنزاعات الطائفية في منطقة الشرق الأوسط المتعدد والأديان والمذاهب. سواء في ظل الأنظمة الشمولية، أو التسلطية، منذ عقد منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وحتى اللحظة الراهنة. وفي ظل المخاطر التي هددت الوجود المسيحي في المشرق العربي لاسيما في لبنان أثناء الحرب الأهلية وما بعدها. وفي سوريا والعراق أثناء الحروب الأهلية، وإلى الآن. وفي السودان قبل انفصال جنوب السودان عن شمال في ظل حزب المؤتمر الوطني الإسلامي حتى سقوط حكم الرئيس السابق عمر حسن أحمد البشير. ومع ذلك لا تزال هناك مشاكل تتعلق بالحرية الدينية في بعض المناطق كولاية شمال كردفان.. إلخ، والصراع بين أنماط التدين الشعبي الإفريقي السائدة في إقليم دارفور، وبين التدين الشعبي السائد في قبائل الوسط النيلي الحاكم للسودان منذ الاستقلال وإلى الآن.
تزايد الاستخدام السياسى لمفهوم التكفير الديني من قبل غالبية الجماعات الإسلامية السياسية إزاء القوى والجماعات السياسية المدنية الأخرى، وضد النخب السياسية الحاكمة. سلاح رمزي استخدم. ولا يزال لنزع الشرعية السياسية والدينية عن بعض الأنظمة السياسية والنخب الحاكمة، وبعض من المفكرين والمثقفين المستقلين والليبراليين، واليساريين والقوميين العرب، والناصريين.
**
التكفير أداة لنزع الشرعية عن أيديولوجيات، وأفكار، وآراء ومواقف بعض هذه المجموعات المختلفة في محاولة لعزلهم من دائرة المسلمين المؤمنين. والتشكيك في إيمانهم بقطع النظر عن أن غالبيتهم الساحقة الماحقة من المؤمنين بالإسلام كديانة. ويرفضون الربط الكلى بين الدولة والنظام والسياسة، وبين الدين ومنظوماته، وهندساته العقائدية والطقوسية.
استخدمت بعض الجماعات الإسلامية التكفير في مواجهة خصومها السياسيين، وذلك كسلاح رمزي، وأداة للتعبئة الدينية والسياسية تجاههم. من خلال إقامة حواجز بين النخبة ونظام الحكم والمثقفين والسياسيين المدنيين، وبين الجماهير وأنماط تدينها الشعبي والفلكوري.
تم توظيف ثنائية الكفر/ الإيمان كأداة للتجنيد السياسي للجماعات الإسلامية المتشددة في مصر، من حزب التحرير الإسلامي، إلى جماعات الجهاد والجماعة الإسلامية، والقطبيين. واستخدامه من بعض رجال الدين الرسميين من الأزهر الشريف كالمشايخ محمد الغزالي، ومحمود المزروعي، ومحمد عمارة- خريج كلية دار العلوم والماركسي السابق- وبعض أساتذة جامعة الأزهر. ممن شكلوا ما سمى بجبهة علماء الأزهر، والذين أفتوا بكفر وقتل المثقف المصري فرج فودة. تزايدت النزاعات التكفيرية في تطور الجماعات السلفية الجهادية. وتنظيم الدولة الإسلامية داعش، ضد المسلمين. والمسيحيين كما حدث مع قتل بعض الأقباط المصريين في ليبيا.
اقرأ أيضا
متاهة القبح في مصر: عقل المقاول وعقل المعماري(1/2)