«الأبدية».. من نصوص جمال الغيطاني
كان المصري ومازال يهتم بمثواه الأبدي أكثر من بيته في الحياة الدنيا
ذات ظهيرة، زمن طفولتي، أجلس إلى أمي فوق سطح المنزل بالقاهرة القديمة، الزمن شتوي، نتلمس الدفء من أشعة الشمس التي تنفذ من بين فرجات الغيوم فتمتد في زوايا مائلة، متجهة باستقامة إلى الأرض، هرم من الضوء هابط من الفراغات العُلي.
أهذا ما يمكن أن نعتبره أصل ذلك الشكل الهندسي العبقري، الهرم، المثلث، اختزال الاختزال. هذا الهرم الضوئي يتكرر ظهوره، نزوله من السماوات العُلي بدءًا من الخريف وحتى انتهاء الشتاء، أحاول رؤيته بعيني المصري القديم في الوادي، لم تكن المدن مزدحمة كما هي الآن، زحام يبتلع النجوم والشمس والقمر. كانت السماء أقرب إلى ما نراه في الريف القصي الآن القائم علي الحافة، عند حدود الصحراء. في الخريف المصري يرق الطقس ويشف، إنه ربيعنا الحقيقي، فزمن الربيع تهب فيه “الخماسين”، تلك الرياح الناعمة، القادمة من الصحراء. لكن الخريف هادئ الرياح، لا أتربة فيه، تتوالى الألوان على السماء، ومع قرب الشتاء تظهر الغيوم، تنفذ أهرامات الضوء من الأعالي.
***
دائمًا أحاول رؤية الأشياء بعيني الإنسان في زمن لم أعرفه، لم أسع فيه، لكن، عند أي زمن أتوقف؟
أهو الوقت الذي كان الإنسان يحاول فيه مصارعة الطبيعة، أي فيضان النهر وما ينتج عنه من غمر ودمار ثم حياة؟
أهو العصر الذي بدأ الإنسان فيه يتأمل، ويرى الصراع بين قوي الدمار وقوي البناء. هكذا توفرت اللبنة الأولى لقصة الصراع بين إله الخير والزرع والنماء، أوزير، وإله الشر ست؟
أهو العصر الذي بدأ الإنسان يرصد فيه دورة الفلك؟ يلحظ تلخيص مراحل الحياة في رحلة الشمس، بدءًا من ميلادها، إلى غيابها؟ ثم اجتهاده لتخيل الساعات الاثنتي عشرة لرحلة الشمس غير المرئية؟
أي عصر؟
الحقيقة أنني لفي حيرة، غير أنني أتساءل: لماذا أحاول إيجاد التناقض بين هذا كله؟ إنها مراحل، يفضى كل منها إلى الآخر، اكتشاف الزراعة أتاح الفرصة للتأمل، الهادئ، العميق. ومن هذا التأمل العميق بدأ التكوين الروحي للبشرية، اكتمال الرؤية الأساسية التي اعتبر كل ما تلاها من معتقدات مجرد نسخ للأصل الأول. في وقت ما أدرك البشر المتأملون، المنتظرون نمو الزرع أو نزول النقطة الأولى في فيضان النهر، أدركوا صلة وجودهم المحدود باللامحدود، بالكون الفسيح، بالسماء اللانهائية، بحركة الأفلاك. صلة هذا كله بحياة الفرد المحصورة بين قوسين، الميلاد والموت، إنها نفس دورة الشمس، مصدر الحرارة والحياة. نفس دورة النهر الذي تنزل فيه أول نقطة ماء إيذانًا بالفيضان الذي يصل شيئًا فشيئًا، لا يجيء بغتة، لا يصل مرة واحدة، إنما يبدأ بنقطة ماء، ومن هذه النقطة يبدأ النهر والبحر ومحيطات الدنيا.
***
إنه التدرج، التغير المتمهل، مع التدرج يكون الارتقاء، هذا ما انعكس على البنيان. يصعد الهرم إلى أعلى شيئًا فشيئًا، يبدأ من سطح الأرض، ثم يتوالي التدرج صوب نقطة تلتقي عندها كافة الزوايا، وسائر العناصر، عند بلوغها يكتمل البناء، يكتمل الشكل، ويكون الفناء أيضًا، النهاية، عند ذروة الهرم. تلك النقطة حيث اللاشيء، يوجد كل شيء، تمامًا مثل نقطة الماء الأولى التي تحوي النهر كله، الفيضان كله، بدون النقطة لا يكون النهر ولا البحر وبدونهما لن تكون النقطة.
إنه التدرج، تأمله البشر في بزوغ الشمس المتمهل في بدايته، المتسارع، المستقر ظاهريا عند بداية الأفق. حتى ليظن المرء أنه سيدوم هكذا أبدًا، لكن حركة الظل تنبئ بحركة الكون. من هنا جاءت فكرة المسلة، إنها إشارة من الحجر إلى أعلى، إلى المركز، السماء دائرية، ولكل دائرة مركز، الدائرة أدق تعبير عن الكون، لأنه شكل مكتمل. لا بداية له ولا نهاية، يمكن دخوله من أي نقطة. كما أنه يعني البداية والنهاية، معًا، فأي نقطة يمكن أن تكون بداية ونهاية معًا، إنها الحياة، إنه الوقت، في اللحظة نفسها يصير وصولاً ورحيلاً.
الدائرة رمز للبداية والنهاية، موجودة في الرموز المصرية القديمة، في اللغة في مفردات الأبجدية، عند واجهات المعابد. منها ينطلق الجناحان المحلقان، تحيطها يدان فهي القوة المحركة، مصدر الحركة الخفي وراء دورة الأفلاك، الدائرة عنصر أساسي في الزخارف المصرية، قبطية أو إسلامية أو يهودية. في المساجد المصرية المملوكية خاصة التي عادت فيها الثقافة إلى جذورها البعيدة مع الاستقرار والابداع. أرى الشمس بنفس اللون الأحمر الجرانيتي، المصدر واحد، الصخور والأحجار هي، هي، والرمز يسفر في عصر، ويتحول إلي شفرة في زمن آخر. تطالعني الدائرة في قبة السلطان حسن (القرن الثالث عشر الميلادي)، في مدرسة وخانقاه برقوق، في المساجد والكنائس والمعابد سنجد الدائرة، وما تتضمنه من إشارة إلى الكون.
***
المسلة إشارة إلى المركز، مركز الدائرة إشارة إلى القوى الخفية المحركة. إنها المرجعية المعمارية والفنية لبرج الكنيسة وللمئذنة، في صعودها إلى أعلى تتحول إلى هريم ينتهى أيضًا بنقطة. كل شيء يصير إلى تلاش، إلى الأبدية ليعود مرة أخرى، شروق، غروب، فيضان يبدأ بنقطة ويصير إلى جفاف.
التدرج الدافق المنبئ بالحركة، بالزيادة التي ستصير إلي نقصان، أحد أهم معالم الرؤية المصرية. ما من شيء مثل العمارة تودع فيه الذاكرة، في البداية تكون الاستجابة لعوامل البيئة والمناخ. ثم تضفي الرؤية الروحية والفكرية مضامينها، كل المعابد المصرية لا يتم الوصول إليها فجأة، إنما عبر ارتقاء متمهل علي درج عريض غير محسوس، أو طريق ممهد يرتفع صوب المدخل. هذا ما نجده في معبد سيتي الأول بأبيدوس، معبد الدير البحري، معبد سيتي الأول بالأقصر، معبد رمسيس الثاني. كافة المعابد تقوم على التدرج، تدرج في الطريق المؤدي، المدخل المهاب، الشاهق، الذي يفضي إلى قاعة فسيحة، مغطاة بسقف تتخلله فتحات تصل الأرض بالسماء، تصل المحدود، المؤطر باللانهائي، وتؤدي وظيفة الإنارة في نفس الوقت.
القاعة التالية أضيق، وأعتم، لا يدخلها إلا الخاصة، حتى إذا وصلنا إلى قدس الأقداس. حيث تمثال الإله، غير مسموح إلا لكبير الكهنة والملك بالدخول، قدس الأقداس، أصبح المذبح في الكنيسة، الهيكل في المعبد، المحراب في المسجد. كما هو الأمر في الأهرام، إذ يتناقص كلما ارتفع حتي ينتهى إلى نقطة أيا كان حجمه أو ضخامته. كذلك المعبد في امتداده فوق الأرض، مراحل، تنتهي إلى قدس الأقداس، حتى الزخارف تتبع التدرج، زهور اللوتس في الساحة الأمامية متفتحة، في القاعة الوسطي تتقارب أوراقها، حتى إذا بلغنا المرحلة الأخيرة نجدها متضامة.
***
لا شيء يولد مكتملا، لا شيء يوجد فجأة. إنما لابد من تمهيد، لابد من إشارة، ألا ينبعث الضوء غير مفصح عن مصدره قبل ظهور قرص الشمس، ألا يبقي قليلاً بعد غيابها؟ التدرج في العمر، في الخطو، في الوقت، الوجود مراحل، سفر، البداية من لا شيء والنهاية حيث لا شيء. الشكل الهرمي معبر عن هذه الرؤية، إنه البناء الذي يبدأ من قاعدة عريضة تواجه الجهات الأربع. ثم تقل مع الارتفاع المائل إلي أن ينتهي هذا التكوين كله إلي نقطة، يتلاشى عندها كل شيء ويبدأ كل شيء.
التدرج والثنائية، فلا يوجد شيء إلا بنقيضه، ضده، هذا أمران نتاج التأمل، أطول وأعمق عملية تأمل ربما في مسار البشرية. من الثنائيات عمليتا الهدم والبناء، لذلك أقبل المصريون علي البناء، الوعي بزوال الأشياء مع حركة الكون حاد. لكن كل فناء يولد منه وجود جديد، لذلك رفضوا الموت، رفضوا الفناء إلى الأبد، كما تخيلوا رحلة الشمس عبر مغبيها حتي ولادتها من جديد. تخيلوا رحلة الميت في عالم آخر، يعد امتدادًا للوجود الملموس، هكذا اخترع المصريون العالم الآخر حبًا وتمسكًا، بما هو قائم، شغلهم أمر البقاء في اللاوجود.
الوسائل التي اتخذوها عديدة، في مقدمتها البناء، بناء قبر يحتوى على رموز الوجود ومفردات الحياة ويكون على صلة بالجهات الأصلية والفرعية، القبر محطة بين عالمين، بين وجودين. لذلك كان المصري ومازال يهتم بمثواه الأبدي أكثر من بيته في الحياة الدنيا. ما تزال القبور لها أماكنها الخاصة في المدن، دائمًا عند الأطراف، نص مواز، كثيرًا ما تأملت مقابر الأقباط، ومقابر المسلمين، ومقابر اليهود المحدودة مساحة وعددًا في القاهرة والإسكندرية. هذا الهدوء، هذا التخطيط الجيد للشوارع، بعض المراقد تحف معمارية. ذلك الحرص علي كتابة الاسم مسبوقًا باللقب وأحيانًا الوظيفة التي كان يشغلها الراحل، ثمة حوار صامت بين الراحل والساعين في الحياة الدنيا، بعضه يكتب على قبره صراحة، يطلب من الأحياء أن يترحموا عليه أن يذكروه بالخير، أن يعتبروا فمصيرهم إلى رقدته.
***
أتأمل ما يكتب على شواهد القبور آيات القرآن الكريم، الإنجيل. هذا التنوع في أشكال الشواهد، بعضها يبدو كأعمال فنية حديثة، مثل مقابر زاوية سلطان شرق النيل بمحافظة المنيا. أنصاف قباب متلاحقة كأنها أمواج بحر تجمدت، كذلك المقابر في صحراء الهِوَ القريبة من قنا والأقصر، منذ القدم وحتي الآن، رغم تغير الديانة واللغة. أهم ما يشغل المصريين وجود مثوي أبدي للجثمان، أن يذكر بعد الرحيل، في العصر المملوكي، كان السلطان بمجرد توليه الحكم يشرع في بناء مسجد، الحقيقة أنه يبني قبرًا، فالمسجد يضم قبة، والقبة تحتها ضريح ألهم المصري القديم بالبقاء حيث لا بقاء، فرض نفسه على الحكام ذوي الأصول الأجنبية، لكنهم جاءوا إلى مصر صغارًا وتشربوا ثقافتها ورؤيتها.
***
في العصر الحديث، بعد أن توفي عبدالناصر عام 1970 اكتشف المصريون أنه كان معنيا ببناء مثوي أخير له. كان مشتركًا في جمعية تعاونية شيدت المسجد الذي يرقد فيه الآن. أما الرئيس أنور السادات فكان مشغولاً ببناء قبر له في قرية ميت أبوالكوم، لكن القدر لم يمهله، إذ جري اغتياله فجأة عام 1981.
الحكام والأمراء شيدوا المساجد لكي يرقدوا فيها حتى يكونوا بين الأحياء. في مكان له صفة القداسة، ليستمدوا مشروعية أخرى لذكرهم، لكي يتردد اسمهم.
أن يذكر الاسم بعد رحيل صاحبه، يكتبه فوق جدران المقبرة، في أماكن يصعب اكتشافها. لعل ما أقدم عليه المهندس، الفنان العبقري سنموت من أكثر ما استوقفني على بذل المجهود والحيلة لبقاء الاسم. لقد شيد واحدًا من أجمل معابد مصر، المعروف الآن بالدير البحري، صممه وشيده بأمر من مليكته ــ الدلائل تشير إلي علاقة خاصة ربطتهما ــ حتشبسوت. لقد أقدم علي كتابة اسمه داخل المعبد في أماكن يصعب رؤيته. وخلف الأبواب بحيث يستحيل ترصده إذا فتح ليمر أحدهم، في مقبرته كتب اسمه ثم غطاه بطلاء. وكتبه مرة أخرى فوق الطلاء، كان يعرف بذكائه وحدة بصيرته أن وقتًا سيجيئ ربما يمحي فيه اسمه. بل ربما كان على يقين، ألم الملكة حتشبسوت تزيل اسم شقيقها تحتمس من المعابد والأنصاب. وسوف يقوم الأخ بعد تمكنه من الإقدام علي نفس الفعل باعتبار شقيقته مغتصبة للملك. حتى أن اسمها أسقط تمامًا من قائمة أبيدوس.
الاسم. من أوجده؟
هل سبق الاسم ظهور الكتابة أم أنه مواز أو لاحق لها، أم أنه قديم قديم. لنتخيل الوجود بلا أسماء، هل كان ممكنًا وجوده بالشكل الذي نعرفه. الاسم ترميز للواقع وتلخيص، استمراره يعني استمرار صاحبه حتى لو لم يكن حيا يسعى.أتوقف حائرًا، فياضًا بالأسئلة أمام معنى الاسم ومنزلته ومغزاه.
من كتاب «نزول النقطة: الاستمرارية والتغير في مصر».
اقرا أيضا:
ملف| جمال الغيطاني.. مقاوما الفناء
جمال الغيطاني.. استئصال ذاكرة المدينة
كان جمال الغيطاني يجيد قراءة الأثر من أحجاره
قاهرة جمال الغيطاني.. مدينة بنفس صوفي
جمال الغيطاني.. معاركه وكلماته
«سلام».. من نصوص جمال الغيطاني