إذاعات الصعيد في رمضان: حكايات المكان وصوت الناس

لا تزال الإذاعات الإقليمية، مثل إذاعتي «جنوب الصعيد» و«شمال الصعيد» رفيقا دائما للكثيرين. فهما ليستا مجرد منصتين للبث الإذاعي فحسب، بل صوتا يعكس تفاصيل الحياة في صعيد مصر، لاسيما في شهر رمضان.. في هذا الإطار، نستعرض معكم كيف تتغير خريطة البرامج الإذاعية في شهر رمضان، بالإضافة إلى الذكريات التي يحملها المذيعون عن مواسم رمضان السابقة.
نشأة الإذاعات المحلية
بدأ المصريون التعرف على الراديو في عشرينات القرن الماضي، من خلال بث إذاعي غير رسمي كانت تقوم به بعض المحطات الخاصة، وكان ذلك بعد ظهور أول محطة إذاعية في العالم بخمس سنوات فقط. وفي عام 1934 انطلقت الإذاعة المصرية بشكل رسمي، بالتعاون مع شركة “ماركوني” البريطانية، وفي عام 1947 انتقلت إدارتها بشكل كامل إلى الحكومة المصرية.
توسعت الإذاعة المصرية بعد ذلك لتضم عدة شبكات وإذاعات متخصصة، وأصبحت واحدة من أهم الإذاعات ووسائل الإعلام في الوطن العربي. ومع تزايد الحاجة لإذاعات تقدم محتوى إعلامي يقترب بشكل أكبر للجمهور، بدأ التفكير في إنشاء الإذاعات المحلية لتكون إضافة لإذاعة الإسكندرية التي تأسست عام 1954، والتي لم يكن يوجد غيرها حتى عام 1980.
إذاعة شمال الصعيد
تم افتتاح إذاعة شمال الصعيد عام 1983، وكان مقرها محافظة المنيا. وبدأ تعيين المذيعين فيها من محافظات شمال الصعيد: الفيوم، والمنيا، وبني سويف، وأسيوط. وعن تأسيس تلك الإذاعة، يقول الدكتور هادي حسان، كبير المذيعين في إذاعة شمال الصعيد، والذي كان أول من تعين فيها منذ افتتاحها في 13 مايو 1983:
“جاء تعييني في الإذاعة نهاية عام 1982، وتم تدريبنا في ماسبيرو، وبعدها استلمت العمل في إذاعة شمال الصعيد، ومقرها المنيا، وكان إرسالها يغطي وقتها كلًأ من محافظتي أسيوط والمنيا بكافة مراكزهم والقرى التابعة لتلك المراكز، ويصل الإرسال إلى محافظتي الفيوم وبني سويف، لكن في المدينة فقط. ثم بعد ذلك بسنوات، أصبح هناك شبكات تقوية ومكتب واستديو للإذاعة بمبني محافظة الفيوم وبني سويف، ووصل الإرسال لكل الأماكن”.

شمال الصعيد في رمضان
وعن ذكرياته في شهر رمضان يقول هادي: “كان لشهر رمضان دورة إذاعية خاصة، يتم الإعداد لها من شهر شعبان، ويبدأ إعلان حالة الطوارئ، حيث يتم وضع الخطة حسب مقترحات وأفكار المذيعين، ويتم إرسالها للشبكة في القاهرة لأخذ الموافقة، ثم تكليف كل واحد منا بشغله الخاص خلال الشهر”.
ويكمل: “كان الاهتمام بشكل رمضان يستحوذ على الجميع، وخاصة أن جمهور الإذاعة ومستمعيها من الصعيد، فهم لهم عادات وتقاليد مختلفة وتراث شعبي خاص، وكانت الإذاعة موجهة لهم، وكانوا يهتمون كثيرًا بسماعها، وكنا نلبي مطالبهم. وأتذكر أنهم طالبونا من خلال رسائل المستمعين بإذاعة سيرة بني هلال، وهو ما قمنا بتلبيته على الفور، حيث أحضرنا الشرائط من إذاعة الشعب التي كانت تبث وقتها وتغطي الجزء الأكبر من الصعيد حتى أسوان. كانت حلقات السيرة من كلمات الأبنودي وأداء جابر أبو حسين، وكانت تذاع في الساعة الثامنة مساءً طوال شهر رمضان. وكان الأهالي يتجمعون حول الراديو أمام المنازل، وفي بعض الأماكن كانوا يستخدموا مكبرات الصوت”.
وتابع: من ضمن البرامج التي اعتز بها وكانت من تقديمي كان برنامج “صباح الخير يا صايم” الذي كان يذاع في الثامنة صباحًا، وهو عبارة عن بعض الصور الشعرية الزجلية، كان يكتبها الشاعر محمد عبد المعطي- رحمة الله عليه-، والشاعر عبد الكريم عبد الحميد، وهما من شعراء الفيوم، بالإضافة إلى مجموعة من كتاب العامية من أسيوط والمنيا، وكانوا يرسمون صورا شعرية بالعامية عن الحياة المصرية في رمضان.
ويستطرد حسان حديثه: كما قدمت برنامج “واحة الصعيد بالفيوم” وكان برنامجًا خاصًا بالعادات والتقاليد في الفيوم في شهر رمضان. كما اعتز ببرنامج كنت أقدمه في رمضان وهو “بالهنا والشفا” قدمت فيه 30 مشروبا لشهر رمضان من الأعشاب خلاف الشاي والقهوة، وذكرت فوائد تلك المشروبات. كما كان هناك برنامج “صيام الكائنات”، وفكرته كانت تدور حول أن جميع الكائنات لديها صيام خاص، واستعرضنا فيه كيف تصوم الطيور والحيوانات وحتى الكائنات الدقيقة والأشجار، وكنا نقوم باستضافة عدد كبير من المتخصصين.
سهرات رمضانية
لم تكن الوجبة الإذاعية لشمال الصعيد تقتصر على الجانب الديني أو الترفيهي، بل كانت تقدم الجانب الخدمي أيضًا لمستمعيها. حيث قدمت إذاعة شمال الصعيد العديد من السهرات الرمضانية، التي استضافت فيها العديد من المسؤولين والقيادات من المحافظين، تحاورهم فيها عن ذكرياتهم في رمضان وتنقل إليهم أيضًا مشاكل المواطنين. وكان يحضرها عدد من أبناء كل محافظة.
ويتابع هادي: على مائدة رمضان كل عام، كنا نتنافس على تقديم وجبة شهية. جميعنا كنا مذيعين على الهواء، وهي من الفترات الرائعة حيث التواصل المباشر مع المواطنين. وكنت ألمس هذا بنفسي عندما كنت أذهب في الصباح إلى الجامعة في المنيا أثناء دراسة الماجستير، ويقابلني العديد ممن يعلمون أني أعمل كمذيع، ويناقشونني أو يثنون على شغلنا في الإذاعة. فقد كان الأهالي يتابعونها بشكل منتظم حتى أنهم كانوا يشعرون أنها إذاعتهم الخاصة، فحين يشير شخص ما عن برنامج، يقول: “البرنامج الفلاني المذاع على إذاعة بلدنا” حتى لا يختلط الأمر، فقد كان لديهم تعصب شديد لإذاعة شمال الصعيد.
ويضيف، كانت في شهر رمضان تقام المسابقات “الفوازير” الدينية، التي كان يشارك فيها المستمعون من محافظات الصعيد في شهر رمضان. وكانت كل محافظة تشترك معنا في تمويل الجوائز، وكان مخصصا لكل محافظة 10 فائزين من أبناء المحافظة. وبعد اختيار الفائزين كانت تقام احتفالية لتوزيع الجوائز، كل عام بمحافظة مختلفة.
ويختتم هادي حديثه ويقول: “أفتخر كوني كنت من فريق إذاعة شمال الصعيد، في وقت كان الراديو يقدم خدمة ترفيهية وعلمية ودينية، وكان للراديو بريق خاص، وهو ما فقده الإعلام الإقليمي الآن بسبب نقص في الخبرات والموارد المادية”.
إذاعة جنوب الصعيد
بدأت إذاعة جنوب الصعيد البث بعد إذاعة شمال الصعيد بما يقرب من عشر سنوات، وهي موجهة لمحافظات الجنوب حتى أسوان. وحول برامجها الإذاعية وما تقدمه في رمضان، يقول خالد عبدالوهاب، المذيع في إذاعة جنوب الصعيد: “بدأت العمل مع الرعيل الأول لإذاعة جنوب الصعيد في أسوان. فقد تخرجت من كلية الإعلام جامعة القاهرة، وبدأت العمل مع بداية الإرسال الإذاعي بجنوب الصعيد في يوليو 1993. ثم تلاها بعامين بث قناة طيبة التلفزيونية. ويعد المذيع في الجنوب مذيعا شاملا يقدم برامجه سواء في الإذاعة أو قناة طيبة. وأنا الآن أعمل في الاثنين، سواء في تقديم البرامج المختلفة والمتنوعة أو قراءة نشرة الأخبار”.

خصوصية شديدة
وتابع عبدالوهاب: شهر رمضان في الإذاعة له خصوصية شديدة، وخاصة في الجنوب. فهناك البرامج الخاصة بالشهر الفضيل، التي تمتاز بأنها برامج خفيفة وسريعة ومتنوعة، وهناك برامج ثابتة تقدم مثل “يوميات صائم، دعوة على الفطار، دعوة على السحور.. وهكذا”. وظللت مدة عشر سنوات أقدم برنامجا ثابتا بعد الإفطار، كنت أقوم فيه باستضافة العديد من الشخصيات البارزة في كافة المجالات.
هذا العام أقدم برنامجا خاصا عن أهم الشخصيات الدينية في الجنوب، وتحديدا قراء القرآن الكريم، ونركز على مشوارهم وقصص حياتهم. حيث أن الصعيد يزخر بوجود العديد من الشيوخ نجوم قراءة القرآن مثل محمد رفعت، صديق المنشاوي، عبد الباسط عبد الصمد، الرزيقي، محمد عمران، النقشبندي، ونستعرض في البرنامج رحلاتهم وما تعرضوا له من صعوبات.
جمهور خاص
ويوضح، تخاطب الإذاعة في الجنوب جمهورا له خصوصية وطابع خاص على مدار العام، وليس في شهر رمضان فقط. نحن في الإذاعة نهتم بالتراث في منطقة الجنوب والصعيد بشكل خاص. ونهتم أيضًا بخصوصية المكان والسياحة الأثرية في أسوان وقنا وسوهاج. حيث نستعرض في برامجنا تاريخ الأماكن السياحية والقصص التي تدور حولها. كما نهتم في شهر رمضان بتقديم الوصفات والأكلات التراثية والشعبية المرتبطة بالشهر الكريم. مثل مشروب “الخمريت” الذي يقدم على الإفطار في أسوان، وهو مزيج من الحادق والحلو.
ويكمل عبدالوهاب: “رسالتنا في إذاعة جنوب الصعيد مرتبطة ارتباطاً وثيقًا بعاداتنا وتقاليدنا وتراثنا. فكلما كانت الرسالة قريبة من الناس وتتناول حياتهم، وصلت بسهولة ويسر. وعندما نتناول مشاكل المواطنين، تكون الرسالة أقوى”.
ويختتم الإذاعي حديثه ويقول: “الإنتاج الدرامي مكلف جدا، وبالرغم من أن الدراما والسهرات الإذاعية أقل تكلفة من التلفزيون. إلا أنها في النهاية مكلفة. ونناشد الهيئة الوطنية للإعلام وأحمد المسلماني بالعمل على إحياء الدراما الإذاعية مرة أخرى في إذاعات الصعيد. حيث كان قطاع الإنتاج ينتج كل عام العديد من البرامج والحلقات الدرامية الإذاعية سواء الدينية أو الاجتماعية”.
ونتمنى أن يعود الإنتاج الدرامي الإذاعي الإقليمي كما كان في السابق، وإنتاج دراما إذاعية تتحدث عن قصص المصريين القدماء المنقوشة على معابدهم بالصعيد.