أميرة هويدي تكتب: مديري هاني شكر الله
لا أتذكر اول لقاء لى مع هانى شكرالله، مديرى الاعلى خلال فترة عملنا سويا بجريدة «الاهرام ويكلى» لاكثر من 12 عاما. أبحث في ذاكرتى لكنها مظلمة: لا يوجد مشهد لقاء ولا انطباعات اولى. و كأن أثر هانى فى تكوينى الصحفى امر ادركته كواقع، مثل المسلمات الكبرى التي نوعى عليها في حياتنا، قبل ان نستوعبها.
أتذكر اول مقابلة مع مؤسس الجريدة و رئيس تحريرها حسنى جندي، في مكتبه بمبنى الاهرام الرئيسى، و انا لا زلت طالبة ادب إنجليزي تبحث عن فرصة تدريب.” أستاذ حسنى”، كما تعودنا ان نخاطبه، فتح لى قاعات «الاهرام الويكلى»، تلك الصحيفة الناشئة التي أسسها على أرضية شديدة الاختلاف عن جريدة «الاهرام»، بتوجهاتها و لغتها التي تخاطب “القارئ الأجنبي”، مما استثناها من حدود سقف معايير الرقابة الذاتية السائدة آنذاك في أوائل التسعينيات. و خصها الأستاذ حسنى -المحرر الوقور بقسم الشؤون الدولية بالاهرام- بدعم من رئيس تحرير و رئيس مجلس إدارة الاهرام إبراهيم نافع- بميزانية كبيرة تضاهى مرتبات وكالات الانباء الأجنبية في مصر، لتمويل مشروعه الصحفى الجاد و غير المسبوق، أنذاك، في قطاع الصحافة القومية، و الصحافة المصرية الحديثة بشكل عام.
انطلقت الجريدة اثناء غزو العراق للكويت في 1991 بفريق تأسيسي كبير تضمن مرسى سعد الدين، محمد سلماوى و منى انيس، آنذاك طالبة الدكتوراه بجامعة اسيكس البريطانية. و هو الفريق الذى تغير بعد عامين، عندما استقدمت أنيس صديقها اليسارى، هانى شكر الله، الذى كان أيضا طالب دكتوراه بنفس الجامعة، ومراسل لنشرة يومية تصدر من لندن. بدأ هانى عمله في «الويكلى» كمحرر بالديسك، قبل ان يعينه الأستاذ حسنى مديراَ للتحرير في 1993. و مع منى انيس، مساعد رئيس التحرير، تكون ثالوث حجر أساس «الاهرام ويكلى» الذى شكل هويته و استمر في إدارة دفته حتى رحيل و ابعاد كل منهم عن الجريدة.
ازعم ان هذا الثالوث تألق معاَ، و بشكل استثنائي في اطاره. برحيل حسنى جندي عن الحياة في 2003 ، فقد الثالوث احد أهم ركائزه التي حافظت على التوازن الدقيق بين الإدارة الناجحة، المهنية الصحفية التي احترفت التحايل على الخطوط الحمراء، و التوجه السياسى الذى تشكل، ثم نضج في وعاء انصهار وطنى، عروبى، قومى، يسارى، ليبرالى، محافظ، خاص به. خلف هانى الأستاذ حسنى كرئيس تحرير “تنفيدى” – أي مؤقت و غير معتمد رسمياَ- حتى 2005 عندما اقيل من الاهرام، لتنتهي الحقبة الذهبية في تاريخ «الاهرام ويكلى».
بعد تخبط بين اقسام مختلفة في بداية عملى بالجريدة، استقريت في تغطية الشأن المصرى و ذلك في فترة صعود عنف الجماعات الإسلامية قبل منتصف التسعينات، و هي المرحلة التي يظهر فيها هانى في ذاكرتى، و التى ادرك الان انها أيضا مرحلة تشكيل نواة وعيي الصحفى. فتعلمت منه مبكراً التفكير النقدى و وزن الكلمة التى نكتبها، نحن العرب في هذه الحالة، للقارئ الأجنبي، الغربى تحديداً. فيقرر هانى اننا لن نتبنى بعض المصطلحات التي كانت تطلقها وكالات الانباء الغربية لوصف جماعات الإسلام السياسى، لأنها تعكس جهلا غربيا -سواء متعمدا ام لا- بالجنوب، او لأنها معبأة سياسياً. فكان يوصى، مثلا، ان نكتب “جماعات المقاتلين” (militant groups) و ليس “إرهابيين إسلاميين” المعتمدة في نشرات الوكالات. و يحذرنا من عبارة “الدولة اليهودية” التي يحلوا للصحافة الغربية استخدامها. “اسمها إسرائيل!”، كان يقول.
لم أكن على دراية بخلفية هانى اليسارية و النضالية في بداية عملى. و ذلك لأنه لم يكن يتحدث عنها او يستحضرها. ليس لأنه كان يخفيها، و لكن لأنه كان مستغرقاً تماماً في تطوير الصحفى و الكاتب بداخله مع دوره الحديث كمدير تحرير «للاهرام ويكلى». و لأنه كان كاتباً موهوباً و فصيحاً، باللغتين العربية و الإنجليزية، فرضت بلاغته و حماسه لإدارة دفة العمل بالجريدة دوره المحورى الذى بات امر واقع، و ليس قراراً فوقياً. و هو الدور الذى عززته شخصيته الودودة، و توظيفه لخبرته السياسية في صياغة هوية الجريدة، مع قيادتها المشتركة، و المساهمة في تحديد بوصلتها السياسية التي كانت تتفاعل و تتشكل مع الاحداث في مصر و خارجها. لم تكن «الاهرام ويكلى» في تلك الفترة مجرد صحيفة تقدم الاخبار بـ«رؤية مصرية»، كما يقول شعارها، و لكنها كانت اشبه بمشروع سياسى-صحفى-بحثى، يتحرك في المساحة التي يتمكن منها، بفضل الثالوث الذى اغدق عليها من جعبته و علاقاته (ارتبط اسم الجريدة بإدوارد سعيد الذى كان ينشر فيها بفضل علاقته بمنى انيس مثلا)، لتحقيق تلك الرؤية المركبة لهذا المشروع شديد الخصوصية، آنذاك.
كانت قدرات هانى العفوية فى التواصل مع الاخرين بطريقته الخاصة في الانصات لجليسه- باعثاً على الشعور بوجود علاقة مميزه معه- احد أسباب شعبيته. و شجعنا باب مكتبه المفتوح دائما و ترحيبه (او تهليله) بنا، التردد عليه بكثرة لمناقشة أفكار او طلب نصيحة (او حتى بعض الالهام)، فيترك ما يفعله، موجها اهتمامه المطلق لزائره، غير مبال بتعطيل نفسه او التردد في بدء جلسة عصف ذهنى اينما ارتأى ذلك. و كان هذا الباب المفتوح عنوانا لشخصيته، سهلة الكلام، كريمة العطاء، خاصة في مجال التشجيع.
صحيح انه كان يصيح «ممتاز!» (“brilliant!”) لكل من يقدم له مادة صحفية تسره، لكنه كان يميز الموهبة و الجهد الشاق. فيسند مسؤوليات تحريرية و صحفية ثقيلة لمن يستحقها. و رغم بعض اخفاقاته الإدارية، كان هانى عادلاً في تقييمه لنا، فلم يغدق على احد دون وجه حق. و كان تشجيعه يتجسد في دعمه للأبداع و أفكار خارج الصندوق. و الأهم، انه كان ينأى بنفسه عن نسب نجاحاتنا -التي ساهم في تحقيقها- لنفسه. فكانت لنا تماما.
كان هانى الشخص الوحيد في الجريدة الذى يشمر عن ساعديه و ينهال على لوحة مفاتيح الكمبيوتر، ليمارس سحره في الارتقاء بالمادة التي تصله، بعد مرورها عبر كافة المحررين المحترفين، فتتبدل في نسختها النهائية قبل ارسالها الى المطبعة. كان يشغلنى الاطلاع على موضوعى، لأرى كيف جعلنى هانى أبدو اكثر ذكاءً وعمقاً، لمجرد انه وضع لمساته في العنوان، في المقدمة، في تهذيب جملة او فكرة. في إضافة بُعد تاريخى او سياسى. لكن الأهم من ذلك، كنت انتظر ردة فعله لما اكتب أولا. فاذا لمعت عيناه و قال لى مبتسما: «الله ينور»، ضحكت الدينا في وجهى.
اكن لهانى عرفاناً لا يعرفه لأنني ادركته متأخراً، بعد رحيله. فلم انس ابداً يوم ان قال لى انه كان يتابعنى عن بعد في أولى سنواتى بالجريدة، حتى تحولت من طالبة حديثة التخرج، الى صحفية. فخصنى بثناء احتفظ به لنفسى، لكنه كشف لى انه كان يرانى، قبل ان أرى نفسى. فلم يكن من السهل على و انا «ابنة فهمى هويدى»، ان أٌبصر لذاتى في مجال الصحافة. لكن هانى رأنى. فمنحنى، ثقة لا اعلم كيف استدعيتها و انا في مطلع العشرين. و لم اكن لأنمو دون الخبرات التي منحت لى في مجالات متعددة بالجريدة طوال عقد كامل من الدعم و التشجيع.
نزل علينا خبر اقالة هانى من منصبه فى ٢٠٠٥ كالصاعقة. فخسرت «الاهرام ويكلى» ضلعها الثانى، بعد وفاة مؤسسها قبل عامين. فلم يتبدل عالمنا فحسب، بل اضيف اليه شعورا باليتم، على الأقل فيما يخصنى. لم يفسر القائمين على الأمور بالطبع، عن أسباب إزاحة هانى من الجريدة، و لكن النميمة المتداولة تحدثت عن “توجهاته السياسية”، و احياناً عن ظهوره في مظاهرة مناهضة لغزو العراق، او عن صورة “وثقت” حضوره فى مسيرة لدعم الانتفاضة الفلسطينية الثانية (و هي ذات المظاهرة التي شارك فيها الأستاذ حسنى عند جامعة القاهرة قبل وفاته)، و كأن الرجل كان يدير خلية شيوعية في الاهرام. لم تكن أيا من هذه الأسباب مقنعة، نظراً لانه كان صحفياً و كاتباً متفرغاً للمهنة، و لوظيفته في «الاهرام ويكلى». لكن هانى كان بالذكاء ليشعر بالقلق بعد رحيل الأستاذ حسنى، نظرا لإدراكه انه، في الأصل، من خارج المنظومة.
استمر هانى بعد ان طوى صفحة «الاهرام ويكلى» في القيام بالشيء النادر في مصر-و العالم العربى- و هو نشر مقالات رأى باللغتين العربية و الإنجليزية بتمكن، و تأسيس عدة كيانات صحفية، لكنه لم يستقر طويلا في أيا منها. و كان اخرها موقع «اهرام اون لاين» الذى شاركته، مع فؤاد منصور رئيس تحرير« الاهرام ابدو» تأسيسه و اطلاقه فى ٢٠١٠. و استمر هانى في رئاسة تحريره حتى اقيل في ٢٠١٣، بسبب موقفه الناقد للاخوان.
لا اذكر متى بدات نوبات هانى الصحية، و لكنها سبقت اقالته من الاهرام ويكلى، و كان يعود منها للعمل بطاقة تحدى، راميا عرض الحائط بتحذيرات الأطباء. فكان يدخن سيجارته، التي باتت ضمن ملامحه المستقرة: تماما كشعره المموج، نضارته المستديرة، و شاربه الكثيف الذى يلامس اطرافه بشكل تلقائى اثناء استغراقه في الحديث. و رغم تكرار ازماته الصحية، و عودته مجدداً بنفس طاقة التحدى، مع سيجارته بالطبع، استقر في ذهنى ان هانى، حتى و هو يجازف بحياته، سيظل عنيدا امام الموت. لكننى كنت على يقين ايضاً ان هذا الرجل المتفرد ظُلم، و لم ينل حقه ابداً في الصحافة المصرية، و انه كان يعلم ذلك.
لم اصدق نبأ رحيل هانى صباح يوم ٥ مايو ٢٠١٩. و لم اصدق و انا اسير في جنازته. وانتظرته ان ينضم الينا في التجمع البشرى الجلل يوم عزائه، بين تلاميذه و محبيه و أصدقائه، ليقول شيئا ذكيا ًو ساخراً. افتقد مديرى و استاذى و صديقى، هانى شكر الله، و اشعر بالندم لأنه لا تجمعنا سوى صورة واحدة فقط. عزائى اننى تشرفت بالعمل معه، و انه رآنى.