«أمهات متوازيات» لألمودوفار: عندما يلتقي حسن الإمام بأوليفر ستون!
ملحوظة أولية: المقال التالي حول فيلم ألمودوفار الجديد، يحتوي على كشف لبعض تفاصيل الفيلم. ولذلك أنصح من يرغب في مشاهدة الفيلم ويزعجه القراءة عن الأفلام قبل مشاهدتها بتأجيل قراءة المقال والمسارعة بمشاهدة الفيلم البديع أولا.
“لا وجود لتاريخ صامت، فمهما حاولوا محوه أو حرقه أو تزويره. فإن التاريخ البشري يرفض أن يصمت”.
بهذه العبارة المقتبسة من الأديب الأورجواني إدواردو جاليانو الراحل، يختم بها المخرج الإسباني بيدرو ألمودوفار أحدث أفلامه “أمهات متوازيات” parallel Mothers.
ألمودوفار الجديد
كان جاليانو، صاحب “شرايين أمريكا اللاتينية المفتوحة” وثلاثية “ذاكرة النار” أديبا وصحفيا ومناضلا سياسيا في سبيل الديمقراطية وحقوق السكان الأصليين لأمريكا، أما ألمودوفار، الذي يعد من كبار مبدعي السينما الأحياء على مدار العقود الأربعة الماضية. فقد عرف عنه عشقه للميلودراما الاجتماعية وتفكيك وتخريب الثوابت حول الذكورة والأنوثة والجنس والتقاليد الدينية والعائلية السائدة. وهو يروي في فيلمه “مجد وألم” ( آخر أفلامه قبل “أمهات متوازيات”)، بعضا من سيرة طفولته وشبابه تبين طبيعة تكوينه وتفكيره.
يبدأ “أمهات متوازيات” على طريقة جاليانو حول مصورة صحفية. اسمها يانيس، تلعب دورها بينلوبي كروز. تجري حديثا مع عالم أنثروبولوجي متخصص في الحفاظ على الذاكرة التاريخية. وتخبره عن قريتها التي توجد بها مقبرة جماعية من أيام الحرب تضم رفات بعض المعتقلين السياسيين ومنها والد جدها.
أمهات متوازيات
يشير هذا المشهد الافتتاحي إلى الحرب الأهلية في زمن الديكتاتور فرانكو خلال ثلاثينات القرن الماضي، والتي راح ضحيتها مئات الآلاف بين قتلى ومفقودين. ومنهم شاعر إسبانيا الأكبر فيدريكو جارسيا لوركا الذي تم إعدامه ولم يعرف موقع جثته إلى الآن. كما يشير إلى الجدل الدائر إلى الآن بين أنصار دفن الماضي والنظر للمستقبل فقط، وأنصار الحفاظ على الذاكرة وضرورة معرفة الحقائق وتصفية الحسابات مع الماضي أولا، وهو الجدل الذي يمكن أن نجد مثيلا له في بلاد أخرى ضربتها الحرب الأهلية مثل لبنان وصربيا والبوسنة وغيرها، جدل يمكن أن نعثر عليه في أفلام الأمريكي أوليفر ستون أو اليوناني كوستا جافراس، جدل سنعود إليه في مشهد لاحق من الفيلم.
أحداث الفيلم
بعد المشهد الافتتاحي القصير سرعان ما يدخل الفيلم إلى عالم الميلودراما الألمودوفارية المعتادة في قصة تذكرنا بأفلام حسن الإمام: تحمل المرأة من أستاذ الأنثروبولوجي المتزوج وتصر على الاحتفاظ بالجنين وفي المستشفى تلتقي بمراهقة عزباء حبلى أيضا وتنجب الاثنتان معا في يوم واحد. ثم يحدث بعد شهور أن تكتشف يانيس أن الطفلتين تم استبدالهما بالخطأ في المستشفى. وأن طفلتها ما هي إلا طفلة الفتاة المراهقة. وتحاول أن تهرب من مواجهة هذه الحقيقة الصادمة، لكنها تلتقي الفتاة بالصدفة وتعلم أن ابنتها ماتت، وتدعوها للإقامة في بيتها، وتدخل الاثنتان في علاقة عاطفية. ثم يأتي صديقها عالم الأنثروبولوجي ليخبرها أن الجمعية وافقت على التنقيب عن المقبرة الجماعية. وأنه أخبر زوجته عن علاقتهما وأنهما انفصلا. إلى هنا تسير الميلودراما الاجتماعية في طريقها المعتاد نحو ذروة الأزمة، حيث تبدو كل الطرق مسدودة وكل الحلول مؤلمة.
عالم الأنثروبولوجي
في الصباح التالي يدور الحوار بين يانيس وصديقتها التي تشعر بالغيرة حول زيارة عالم الأنثروبولوجي. وعندما تخبرها حول مشروع التنقيب عن المقبرة الجماعية تقول الفتاة الساذجة: “يجب أن ننظر إلى المستقبل وإلا ستنتهي حياتنا بإعادة فتح الجروح القديمة”.
تثور يانيس عليها: “من الذي أخبرك بذلك، والدك؟” (هذا الوالد السيء الذي كان يشار إليه عابرا في الفيلم قبل ذلك، يعيش في غرناطة، المدينة التي شهدت أكبر مذبحة خلال الحرب الأهلية، والتي راح ضحيتها لوركا، ووالدة الفتاة المراهقة، الممثلة، التي عثرت على فرصتها في التمثيل أخيرا. ذهبت في جولة لشهور لعرض مسرحية “بيت برناردا ألبا”، إحدى أشهر وأجمل أعمال لوركا. هكذا تبدأ الخطوط تتجمع في هذا المشهد المفصلي).
تواصل يانيس حديثها للفتاة: “حان الوقت لتفتحي عينيك على البلد الذي تعيشين فيه. يبدو أن أحدا في عائلتك لم يخبرك عن بلادنا. هناك أكثر من مئة ألف مدفونون في خنادق وعلى أطراف المقابر يرغب أحفادهم وأبناء أحفادهم في دفنهم بشكل لائق كما وعدوا أمهاتهم، وإلى أن يحدث ذلك لن تنتهي الحرب”.
حوار عنيف
بضربة ريشة سريعة يعيدنا ألمودوفار في لوحته السينمائية البديعة لمركز اللوحة الذي بدأ به الفيلم، لينتقل الفيلم، وعيوننا بعد ذلك، إلى مزيد من التفاصيل وإلى إعادة قراءة أحداث الفيلم بطريقة سياسية: يكشف هذا الحوار العنيف بين يانيس وصديقتها عن الكذبة التي عاشت فيها شخصيا، وإخفاء حقيقة الطفلة عن أمها، وأنها هي أيضا حاولت أن تستولي على طفلة، أو بلد، ليست من حقها، وأنها حاولت أن تخفي هذه الحقيقة عن الجميع وعن نفسها. وكالعادة تبدو الحقيقة هي الطريق الوحيد الذي يجب أن نمر به نحو المستقبل.
كثيرة هي الأعمال التي تدمج بين الميلودراما الاجتماعية والسياسة، ولكن “أمهات متوازيات” واحد من أجملها وأكثرها ذكاء.
اقرأ أيضا
مذيع الكرة..وتحولات الماتريكس الجنسية