أمل دنقل: اللص الفاشل والخائن العميل
يستقر أمل دنقل في الذاكرة الأدبية بوصفه رمزا من رموز الوطنية والأصالة الشعرية، إلا أن هناك من يذهب إلى عكس ذلك، هناك من يحاول ترسيخ صورته بوصفه لصا فاشلا وخائنا عميلا.
لسنا ضد مراجعة أي تجربة من التجارب الأدبية الكبيرة، نحن مع نقد كل التجارب نقدا قاسيا، هذا واجب نشجعه بمنتهى الحماس، شريطة أن يكون النقد موضوعيا، أما التشويه بلا حجة فهو جريمة لا يجب الصمت عليها.
**
كتب أحد أساتذة الجامعة بالحرف الواحد قائلا:
“هل لأمل دنقل كلمة واحدة لم يسرقها؟ جميع المنسوب إليه سرقة وخير نماذج ذلك (لا تصالح)، تعرف حضرتك أنها ثلاثون بيتا (على نغم الرمل) من عيون الشعر العربي، نفثها الأمير (كليب) على صخرة بإصبعه مغموسة في دمه المتدفق من طعنة (جساس)، يوجه كل بيت فيها إلى أخيه (المهلهل)، استغل اللص الفاشل هزيمتنا في يونيو ٦٧؛ ليبث في (الدهماء) احتياجهم نفسيا إلى دلالتها بعد إفساده شكلها في (الشِّحْر العُر) الذي لا يحسن سواه.
كلام الأستاذ يحمل أخطاء علمية شنيعة، فالحُكْم الصارم، والتعميم المطلق بأن “جميع المنسوب إلى أمل دنقل سرقة” ، يكشف عن عقلية لا تفهم معنى العلم أساسا، والحقيقة أن كتابات الرجل الأخرى تكاد تختزل “العلم” في حفظ ألفية ابن مالك في النحو، وقواعد العروض، وغيرهما من محفوظات الطلاب في جوامع القرون الوسطى، وأقول محفوظات لأن في طلاب القرون الوسطى من يمتلكون من الوعي والفهم والمنطق أكثر مما يمتلكه بعض أساتذة الجامعات في القرن الواحد والعشرين.
البؤس الفكري للأستاذ يرتبط بألعاب بهلوانية توحي كذبا بدرايته ووعيه ووقوفه على أرضية ثابتة، مثل الإيهام بوجود أدلة علمية على كلامه رغم عدم وجودها، وهو ما يظهر في قوله “خير النماذج الدالة على أن جميع المنسوب إلى أمل دنقل مسروق هو قصيدة” لا تصالح “.
أما الدليل على ذلك فهو كما يقول: “تعرف حضرتك أنها ثلاثون بيتا (على نغم الرمل) من عيون الشعر العربي، نفثها الأمير (كليب) على صخرة بإصبعه مغموسة في دمه المتدفق من طعنة (جساس)، يوجه كل بيت فيها إلى أخيه (المهلهل).
**
هذه هي الحجة! أين الدليل؟، لا يوجد بالطبع أي دليل، لقد سكت تماما عن كل ما يتعلق بالتفاعل النصي مثلا، ولم ينشر ولو بيت شعري واحد من القصيدة القديمة ويقارنه بشعر أمل دنقل حتى يقدم لنا دليلا على السرقة، بل راح يوهم تلاميذه ومحبيه بأنه قدَّم اكتشافا عظيما عندما ذكر قصيدة الأمير كليب، رغم أن ديوان أمل دنقل اسمه “أقوال جديدة عن حرب البسوس” أي أن الأستاذ لا يلتزم بالأمانة في العرض، بجانب إيهام تلاميذه بأشياء ليست حقيقية.
التناقض ـ الذي يصل إلى حد التخريف أحيانا ـ عنصر أساسي في كلام الأستاذ، يقول: “استغل اللص الفاشل هزيمتنا في يونيو ٦٧؛ ليبث في (الدهماء) احتياجهم نفسيا إلى دلالتها بعد إفساده شكلها”.
هنا لم يعد شعر أمل دنقل مسروقا بالكامل كما قرر في البداية، بل هناك على الأقل مساحة نجحت في تلبية حاجة (الدهماء) نفسيا بعد هزيمة 67.
يفشلُ الأستاذ في تقديم دليل على كلامه، لكنه ينجح في تقديم دليل على جهله، لأن القصيدة مكتوبة بعد حرب أكتوبر، وتحديدا في نوفمبر “تشرين الثاني 1976 م” وقد اكتسبت قيمتها من أجواء اتفاقيات كامب ديفيد، لا من استغلال هزيمتنا في 67.
**
من هم (الدهماء) الذين احتفوا بقصيدة (لا تصالح)، إنهم صفوة العالم العربي من المثقفين الأحرار، وكي يثبت الخطأ في حفاوتهم بالشاعر لا يناقش بشكل علمي، بل يشتم، وما داموا (دهماء) فهذا دليل على أن الشاعر سارق فاشل، وهكذا يفشل الأستاذ في تقديم دليل على عتاده العلمي، وينجح في تقديم دليل على عقليته الخرافية.
لا تتوقف محنة الأستاذ عند البؤس العلمي، بل تمتد إلى البؤس الأخلاقي والنفسي، حيث يكيل السباب للآخرين، ويلقي التهم التي تمس الشرف الشخصي والوطني بحماس يستحق الشفقة.
البعد الهذياني في كلامه واضح جدا، لقد أكد على أن الشاعر أمل دنقل من الذين استغلوا هزيمة 67 كي يكتبوا شعرا ضد النظام، رغم أنه في فاصل هذياني لا يستند على عقل أو ضمير، يعتبر شاعرنا واحدا من الذين ظهروا في الحياة الثقافية لأنهم قَبِلوا تبييض وجه النظام بعد النكسة، يقول بالحرف الواحد:
“بعد هزيمة ٦٧ أزاح النظام قصدا كبار وجوه الثقافة عن المشهد بعد أن رفض هؤلاء تبييض وجه النظام في أعين الجماهير، واتخذ النظام بدلا منهم في عدد من ميادين التثقيف مجموعة من (العواطلية)، (الفاشلين)، (المفسدين)، (أنصاف التعلم)، و (أرباع التثقف)؛ بيرم، جاهين، الأبنودي، دنقل، حجازي، عبد الصبور، السباعي، مكاوى،… ، وكذلك على مستوى منطقتنا العربية كلها (السياب)، (نازك)، (درويش)، (مطر).
ويقول في فقرة أخرى:
(منتجو الشِّحْرِ العُر) بحكم (عمق الجهالات) في أحسن الظنين، وإلا فإنها (العمالة)، (ليسوا من شعراء العربية)، بل هم (أعداء القصيدة العربية)؛ بثلاث الموجات (عبث التفعيلة) في يد (نازك) بُنية بغداد الفاشلة، ومن خلفها (السياب)؛ فتى البصرة الهزيل نفسا وبدنا، المتكرر رسوبه في دراسة (الأدب)، المحكوم عليه قضائيا بالسجن لتجسسه ضد بلاده، ثم (الهراء الحر) في يد (حجازي)؛ العدو اللدود للقصيدة العربية، ومن ورائه صلاح (القتيل)، ثم (مقصودة النثر)، المتعدد آباؤها في بيئتنا، ولا سيما (الماغوط) الراسب في (دبلوم الزراعة)، وخريج السجون في قتله (عدنان المالكي)…!
**
هكذا يلقي الرجل اتهامات ولا يقدم دليلا، يضع المبدعين في خانتين لا ثالث لهما وها: الجهالة والعمالة، يتركُ معجم المصطلحات العلمية ويتسلح بمعجم الردح، يهمل الحجة ويحتفي بالشتائم، يقول كلاما ونقيضه في نفس الوقت، يهذي باسم العلم، ويخدع باسم الشرف، يقتل الإبداع ويدعي الدفاع عنه، إنه نموذج للعقلية الخرافية، والوجدان المشوه، والضمير الأدبي المريض.
كلام الأستاذ في الحقيقة لا يستحق عناء النظر إليه، وتضييع الوقت في نقاشه، فهو فقير جدا، وفي كل سطر يمكن أن نجد مشكلة علمية أو منطقية، ومن الحكمة تجاهله تماما، لكن المشكلة في السلطة التي يمتلكها.
تشويه أمل دنقل، والإبداع الشعري في العالم العربي بشكل عام، ليس سلوكا فرديا عابرا، يقوم به أشخاص لا علاقة لهم بالأدب. بل يصدر عن متخصصين، ويقومون بتدريسه في الجامعات، ومن ثم فهم يحظون بثقة الجمهور العام والمتعطش دائما لفضح الخونة والعملاء، كما أنهم يحظون بتقديس طلابهم لهم، أو افتتانهم بهم، والتسليم بكل مقولاتهم دون تمحيص أو مراجعة بحكم قلة معلوماتهم، أو خضوعهم لسلطان الأستاذ الجامعي الذي يتحكم في مستقبلهم.
حديث الأستاذ عن أمل دنقل بوصفه لصا فاشلا وخائنا عميلا ليس جديدا في الحقيقة، نحن نسمع عنه منذ سنوات طويلة، لكنه لم يكن يغادر قاعة المحاضرات، ويبقى مخفيا في معظم الأحوال لأن الطلاب يخرجون من الجامعات وهم يكرهون الأدب أساسا، ولا تعنيهم صورة الشاعر سواء أكان مخلصا أو عميلا.
لم يعد تشويه أمل دنقل وغيره قاصرا على قاعات المحاضرات المغلقة، بل انتقل إلى المجال العام بعد انتشار وسائل الاتصال الحديثة، وصار الأستاذ الجامعي يؤثر في الجمهور العام، والغريب المرعب والمحزن، أن الفضاء العام الذي يخلو من سلطة الأستاذ الجامعي وتحكُّمه في أرواح الطلاب، يظهر هو الآخر بوصفه قاعة محاضرات مغلقة، فلا تجد فيه من يراجع الأستاذ الجامعي، أو يشكك في كلامه، بل نجد الكلام الفارغ التافه يتلقى الدعم والتشجيع والتصفيق والحفاوة الكبيرة من زملاء له، يشغلون مناصب جامعية عليا.
اقرأ أيضا:
سميح شعلان: مسحراتي بورسعيد في دراسة ميدانية