أمة في المعرض
أما زلنا نتيه بالفرجة التي لم تغادرنا بعد؟ أما زلنا الوافد الأبدي للمعرض ولم نرحل بعد؟ فحين حاصرتني تلك التساؤلات، أسعفني فحص دفتر أحوال تاريخنا الذي كشف عن تشخيص حالنا المتمثل دوما لم ورد من أعراض وأوبئة استوطنته. دون أن يعبأ بالخطر ودون أن يستنفره نبذ المراجع حتى استعذب الفجيعة دوما.
لم أحار طويلا، عرفت أنه في العام 1899، شيد الفرنسيون المعرض العاملي حيث مثل الجناح المصري شارعا متعرجا من شوارع القاهرة موسوما ببيوت وأبنية أشبه بأكواخ مهشمة، تميزه الفوضى والعشوائية. حيث كان “فرنسيون يرتدون ملابس شرقية، يبيعون العطور والخمور والطرابيش”. فضلا عن ذلك “استوردوا من القاهرة خمسين حمارا، حيث كان يمكن ركوب الحمير ذهابا وإيابا في الشارع لقاء فرنك واحد”.
ومشهد آخر، لمسجد وبمجرد أن تدخل من بابه تكتشف “قهوة جعلت لراقصات مصريات وعبد ترقص ودراويش تدور”. حدث ذلك “عندما سافر الوفد المصري إلى المؤتمر الدولي الثامن للمستشرقين. والذي عُقِد في ستوكهولم في صيف عام 1889”. أثار ذلك ازدراء الوفد المصري “المعروض” أيضا وسخرية الأوربيين.
**
وفي معرض برلين في العام 1790، أشار “مبعوث عثماني” جاء كل من الرجال والنساء في عربات وعلى ظهور الجياد، وسيرا على الأقدام، تتطلع إلينا وللفرجة علينا. وأن أعضاء بعثة طلابية مصرية أُرسِلَت إلى باريس في عشرينات القرن التاسع عشر. لم يكن يسمح لهم بالخروج إلى الشوارع إلا كل ثاني أحد. حيث وجدوا أنفسهم موضوعا للمحاكاة الهزلية الساخرة في المسارح الباريسية.
وفي العام 1846، زار إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا مصانع ومعارض ببرمنجهام ليشاهد عرضا لهيكل حوت ضخم وسرعان ما تعرف عليه العارض. ثم كان “المعرض الكبير لأعمال صناعة جميع الأمم”. في العام 1851 “معرض قصر كريستال” بهدف “تحويل العالم إلى الإنتاج والتبادل الرأسماليين الحديثين”.
برهنت تلك المعارض على ذيوع الفوضى والعشوائية في سائر بلدان الشرق – مصر نموذجا. وأن سحر الشرق الذي روجته بعض الأدبيات الأوروبية لم يكن سوى محض أوهام زائفة، وشهدت كتابات “إدوارد لين” و”نيرفال” و”فلوبير” بذلك الاضطراب في كافة سبل الحياة حيث دونت “إيقاع الواقع” وأنماط الاضمحلال ومظاهر السلوك والعادات آنذاك.
ومن اللافت للنظر، أن سادة السياسة والصناعة، اكتشفوا الإرهاصات الأولى لمشروع غزو الرأسمال في السوق، السلع والآلات. مما يفسر نشوء شكل جنيني للرأسمالية في بقاع ضعيفة، هشة، وطرائق الخضوع والسيطرة الطوعية، الإنتاج، التبادل، استنزاف الموارد البشرية والطبيعية.
وما أفضى أيضا إلى نشوء المستعمرات عبر الغزو الاستيطاني والاحتلال الذي برر تكريس السلطة لإحلال النظام والانضباط والتحديث محل الفوضى. ولنشهد معرضا آخر، ربما يجسِّد “تسليع” القيمة والمشاعر الإنسانية بأسرها.
مصادر
المعلومات الموثقة مستقاة من كتاب “استعمار مصر” لـ”تيموثي ميتشيل” – ترجمة: بشير السباعي – أحمد حسان.. دار سينا للنشر.