أكرم يوسف يكتب: «إبدأ من جديد» لهاني شنودة.. أن تسبق زمنك في اللحن والكلمة
مشهد أول – ذكريات (توقيت عام)
النصف الثاني من الثمانينات. طفل صغير يعيش بمدينة محلية بأحد محافظات مصر البعيدة عن ضوضاء وصخب العاصمة. تفتح وعيه وتربى في طفولته على مجموعة من الأعمال المميزة المقدمة للأطفال في نفس عمره، والتي كان يشاهدها عبر شاشتي القناة الأولى والثانية بالتليفزيون المصري، في وقت كانتا هما القناتين الوحديتين اللتين يتابعهما جميع المشاهدين في مصر، وربما من خارج مصر إن أرادا معرفة أى شيء عنها.
يُعجب هذا الطفل بمجموعة من الأعمال المميزة، مثل “أوبريت اللعبة”، “شجرة الحواديت”، و”بندق وبندقة”، و”فرفشة”، و”أجمل الزهور”، وغيرها من الأعمال المميزة. يُطالع هذا الطفل بما استطاعت لديه قدرته على القراءة في هذا الوقت عناوين هذه الأعمال التي يحبها فيجد دائما اسم متكرر أمامه لشخص يقوم بعمل الموسيقى لهذه الأعمال وهو اسم هاني شنودة.
أيضا، يجد الطفل هذا الاسم يتكرر في العديد من الأعمال التي عادة يحب والداه أن يتابعاها في التليفزيون. مثل أغنية ماشية السنيورة برسوماتها المتحركة المميزة التي أبدعتها العظيمة شويكار خليفة، أو برنامج الكاميرا في الملعب بتتره المميز الذي استعمل أحد تراكات هاني شنودة السابقة، أو فيلم شمس الزناتي بموسيقاه المميزة. ومن هنا أصبح اسم هاني شنودة محفورا في ذاكرة هذا الطفل سواء من خلال أعمال أحبها هو، أو من أخلال أعمال أحبها والداه وتابعاها.
مشهد ثاني- استكشاف (توقيت عام)
يناير 2011 وما بعدها. مع بداية العقد الثاني من الألفية الثانية، كبر هذا الطفل وأصبح شابا في نهاية العشرينات من عمره. ومع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وتطورها مع الأحداث المهمة في تلك الفترة مثل ثورة 25 يناير 2011، بدأ يُعاد الكلام مرة أخرى عن من كانوا علامات مؤثرة في وجدان الجميع في فترتي الثمانينات والتسعينات.
وبدأت حالة من الاستعادة لأعمالهم وعرضها مرة أخرى. وتذكر من كان صغارا وربما مراهقين في هذه الفترة كيف كانت هذه الأعمال تسعدهم وتدخل الفرحة إلى قلوبهم. وعلى الفور، استعادت ذاكرة هذا الشاب اسم هاني شنودة وبدأ في تذكر أعماله وقت ما كان طفلا. وسعد للغاية أنه وجد الكثير يشتركون معه في حب موسيقى هذا الرجل سواء كانوا أطفالا في سنه أو كبارا عنه.
وسعد أكثر وأكثر أنه وجد كل هذه الأعمال التي أحبها وهو صغير، بالإضافة للأعمال التي كانت يتابعها من هم أكبر منه سنا. وعرف هذا الشاب أن هاني شنودة في هذه الفترة التي كان فيها صغيرا كانت له فرقة مميزة اسمها فرقة المصريين، وبعد أن تابع أعمالها سواء التي كان يعرفها أو أعمال أخرى مع أعمال فرقة أخرى معاصرة لها أسسها عمار الشريعي اسمها فرقة الأصدقاء. واقتنع هذا الشاب أن هاتين الفرقتين قد صنعتا علامة مميزة في تاريخ صناعة الأغنية المصرية، وأنهما كانتا نقطتين انتقاليتين في هذه الصناعة بين ما كان معروف عنها قديما وما تطورت إليه حديثا.
**
في غمرة بحث هذا الشاب في تلك الفترة عن فرقة المصريين وأعمالها، يقع تحت يده بالصدفة البحتة تدوينة تعود لعام 2010 في مدونة أغاني من الذاكرة تستعرض بمزيد من التحليل والإعجاب لأحد أغاني فرقة المصريين وهي أغنية “هزني”. وكيف كانت لحنا وكلاما عملا مميزا بكل المقاييس.
وعليه، يدفع انتقال هذا الإعجاب لدى الشاب بالبحث عن بقية أغاني الألبوم وهو ألبوم (إبدأ من جديد). ويكتشف حينها أن هذه الحالة من التفرد سواء من حيث الألحان أو الكلمات المختلفة عن تلك الفترة من بداية الثمانيات لا يقتصر على أغنية بذاتها، ولكنها حالة تسيطر على كافة أغاني الألبوم.
الكلمات التي وضعت فيه كألبوم كاسيت يوزع تجاريا تسبق زمنها الذي غنت فيه- وربما زمننا الحالي- من حيث الموضوعات التي تتناولها، من ثورة على الموروثات القديمة والأفكار المتجمدة، إلى دعوة لحرية المرأة وتميز شخصيتها، إلى حب النهار وبشاير ضوءه، إلى دعوة للتفاؤل بعد كل موقف صعب، حتى المحبوبة يتم الغناء لديها بطريقة مختلفة تماما عما كان متعارف عليه.
أما الألحان، فهي – وكما تعودنا من أعمال هاني شنودة- لها مذاق وتركيبة موسيقية مختلفة تماما ومميزة جدا. وهنا، يقتنع هذا الشاب أن هذا الموسيقار هو شخص غير عادي ليس فقط لموسيقاه وأغانيه المميزة، ولكن لما لديه من قدرة عالية وجموح منقطع النظير على التطوير والابتكار في عمله.
مشهد ثالث- صوت وصورة (ليل داخلي)
نوفمبر 2017. أصبح هذا الشاب رجلا في منتصف الثلاثينات، ولازمته موسيقى وأعمال هاني شنودة في تنقلاته، وإن كان جذوة إعجابه بألبوم (إبدأ من جديد) لم تنطفأ بعد. بل في كل مرة يستمع فيه لأغاني هذا الألبوم يزداد إعجاباُ به.
وبينما هو يطالع الفيس بوك، يجد صديقته العزيزة (دعاء كامل/مدير الموسيقى والغناء بإذاعة البرنامج العام بالإذاعة المصرية) تعلن علي صفحتها أن غداَ الخميس ستستضيف الفترة المفتوحة (ساعة فرحة)، والتي تعدها على هواء البرنامج العام، الفنان الكبير هاني شنودة للحديث عن مشوار أعماله. وهنا، وعلى الفور، هرول هذا الرجل ناحية هاتفه واتصل بصديقته قائلا وبدون أى مقدمات:
– ألو… إزيك يا دعاء …أنا بجد نفسي أوي أوي أبقي معاكي بكرة إن شاء الله وأنتم بتسجلوا مع أ. هاني شنودة!!
ولأن دعاء، الدارسة للموسيقى والسينما، تعرف مدى حب هذا الرجل لهاني شنودة. وكم من مرة حدثها بإستفاضة عن إعجابه بفنه وبتجربته الموسيقية،ردت قائلةً:
– خلاص يا أكرم… على بركة الله… هعمل حسابي إنك تكون معانا بكره… هعدي عليك بكره ونفوت على أستاذ هاني ونطلع على ماسبيرو… وبالمناسبة… هو ساكن جنبنا في الجيزة.
وفرح “أكرم” فرحا شديدا. أخيرا، سيلتقي وجها لوجه مع واحد ممن شكلوا وجدانه وذائقته السمعية منذ أن كان طفلا صغيرا.
مشهد رابع- اللقاء (نهار خارجي)
وقفت منتظرا قدوم دعاء لاصطحابي للذهاب مع هاني شنودة إلى ماسبيرو، ربما قبل الميعاد بنصف ساعة أعد خلالها الدقائق وأتصور ماذا سيحدث عندما أقابله. تأتي دعاء في الميعاد المحدد، وتتجه إلى منزل شنودة وهو بالصدفة قريب من منزلي. ولسذاجتي، توقعت أن يكون منزلاً في عمارة فارهة تبدو عليها مظاهر الغنى والثراء. ولما لا، وشنودة وموسيقاه دائما ملء السمع والأبصار.
ولكن وللمفاجأة وجدته منزل جميل في منطقة هادئة وجميلة ولكنه لا يختلف في شكله عن منزل أي فرد من أبناء الطبقة الوسطى أو فوق الوسطى الميسورة الحال نسبيا. وقتها، تذكرت عبارة قالها شنودة في حوار مع الصحفي والناقد آدم مكيوي: (لما أموت مش هتلاقي حاجة تكتبها عن قصة حياتي يا آدم. أنا أخلصت للمزيكا وبس).
وها هي أمامي أحد علامات الإخلاص. هاني شنودة الذي اتخذ من الأسرة المصرية أهم مستمعيه ليقدم لها ما يسمى بالأغنية الاجتماعية، هو نفسه ينتمى للطبقة الوسطى أو فوق الوسطى اللتين كانتا تشكلان وقتها نسبة لا بأس بها من المجتمع المصري، واللتين للأسف شبه اندثرتا الآن. ولعله يعيش نفس نمط معيشتهما بأحلامه وهمومه. ولعل هذا أيضا أحد أسباب صدق تجربة فرقة المصريين وما قدمته من أغاني وألحان أحبها الجميع من عموم الأسر المصرية.
**
المهم، بعد فترة انتظار قصيرة، انضم إلينا شنودة، وبعد السلام والترحيب الجميل منه بنا انطلقنا جميعا إلى ماسبيرو. وبمجرد تحركنا وجدت نفسي أسأله وبدون سابق مقدمات:
شوف بقى يا مايسترو؟ أنا مستعد دلوقتي أنزل من العربية دي حاليا. بس أنا فعلا نفسي أعرف: أنتم إزاي سنة 1983 عملتم ألبوم (ابدأ من جديد) اللى مختلف تماما عن اللى كان سائد وقتها في سوق الكاسيت؟ وإزاي تحديدا جت لكم الجرأة تعملوا أغنية (هزني)؟ وإزاي محسن جابر، وهو منتج يهمه أولا المكسب والربح، وافق إنه يعمل لكم ألبوم زي ده هو عارف إنه ممكن ميبيعش؟؟؟
وهنا رد علي شنودة بخفة دمه المعتادة وقفشاته (الحِرشَة) قائلا:
طب ما أنا لو جاوبتك هتنزل من العربية، وأنا مش عاوزك تنزل!!!!
وضحكنا، ثم بدأ شنودة يحكي. ولم يقطع سرده وحكاياته سوى رده للتحية على سائقي السيارات العابرين بجوارنا، وسائقي التاكسي تحديدا الذين في كل مرة يشاهدونه يصيحوا قائلين: كل سنة وأنت طيب يا فنان…… ربنا يخليك لينا.
مشهد خامس- الحكاية (نهار خارجي، ثم نهار داخلي)
يقول شنودة: هناك خطأ في المعلومات المتداولة على الإنترنت. ألبوم (إبدأ من جديد) تم إنتاجه سنة 1981 وليس سنة 1983 كما هو مكتوب عنه. وفي هذا الألبوم، كرس لنا محسن جابر منتج عالم الفن كل الإمكانيات المادية والتقنية من استوديوهات وعازفين وآلات حتى يخرج الألبوم بهذه الصورة وهذا الشكل لأنه في الأساس أعجب جدا بكلمات الألبوم وموسيقاه.
وهنا طغت عليه نزعته الفنية عن كونه رجل تاجر صاحب شركة يهمه المكسب، وعمل جابر على الألبوم بحماس منقطع النظير. ولكن مشكلة الألبوم الرئيسية من حيث التوزيع والبيع إنه نزل الأسواق يوم 6 أكتوبر 1981 يوم اغتيال الرئيس السادات، يعني في الوقت الذي كان فيه الموزوعون يسلمون نسخ الألبوم إلى بائعي شرائط الكاسيت في وقت الظهيرة حدث حادث المنصة.
وبالتالي، وفي موقف حرج مثل الذي تمر به البلاد في تلك الفترة، من هو هذا الشخص الذي سيكون لديه الرغبة لشراء أي ألبوم كاسيت وأضف إلى ذلك ألبوم غير تقليدي كهذا الألبوم. لذلك، عندما عملت مع محسن جابر في الألبوم التالي لهذا الألبوم وهو ألبوم (ماشية السنيورة) كنت أعمل بأقصى جهدى، وأحارب لأن أقدم أحسن ما عندي حتى أعوض لمحسن جابر خسارته في الألبوم السابق مع أنه لم يوجه لي أى لوم أو عتاب بسبب ضعف بيع ألبوم (إبدأ من جديد).
ولكن إحساسي بالمسؤولية وبحجم ما قدمه لي محسن جابر هو ما دفعني إلى العمل بكل دأب على الألبوم التالي (ماشية السنيورة)، والذي، ولله الحمد، نجح نجاحا باهرا وعوض خسارة محسن جابر في ألبوم (إبدأ من جديد).
هزني
واحدة من أجرأ وأقوى الأعمال الفنية لحنا وكلمةً للموسيقار هاني شنودة. الأغنية أشبه بدعوة للثورة والاحتجاج على كل الموروثات القديمة والأفكار المتحجرة التي لم تعد تناسب العصر الحالي. كما أنها كانت مفتاح التعارف بين هاني شنودة والشاعر هاني زكي، ليس فقط على المستوى الفني بل حتى على المستوى الإنساني، الذي يمتد حتى وقتنا هذا بعد أن ترك هاني ذكي المجال الفني وهاجر إلى الولايات المتحدة ليعمل طبيبا نفسيا ومديرا لأحد مراكز الصحة النفسية بها.
يقول هاني شنودة عن هذه الأغنية:
“بينما أنا في أحد الأيام أقوم باصطفاف سيارتي، وجدت أمامي شابا نحيلا يرتدي قميص وبنطالا بشكل كلاسيكي وكذلك نظارة طبية وعرفني بإسمه “هاني ذكي”. وأنه يدرس طب في القصر العيني وأنه يغني ويعزف ويكتب شعرا ويطلب مني إن كان لدي وقت أن أسمعه. وأنا بطبعي لا أرد أبدا من يأتي إلي إذ ربما يكون شخصا موهوبا ويستحق الاهتمام به.
قمت بإصطحابه لمنزلي بالأعلى للاستماع إليه. قال شعرا فلم يشد انتباهي، طلبت منه أن يغني فلم يحسن الغناء، طلبت منه العزف فلم أجده موهوبا في العزف. وهنا، اعتذرت له بكل لباقة، وطلبت منه التمرين والمحاولة أكثر فأكثر وحينما يشعر بالتغيير فسيجد بابي مفتوح له في أي وقت. وبينما أنا اصطحبه لباب المنزل استوقفني قائلا: عندي حاجة آخيرة عاوز أسمعهالك يا أ. هاني.
فرديت بنفاد صبر: اتفضل يا سيدى… سمعني!!!
وهنا، وجدت ذكي يقول لي: هزني… هزني من جوا… هز بقوة… غير كل خرايط الكون… غير مواعيد وساعات اليوم.
هزني… هزني من جوا… هز بقوة… غير ترتيب أيام الشهر… غير ألوان السما والبحر.
كسر أصنامي… علمني اتمرد على أوهامي… علمني أثور على يأسي وعلى أحزاني… وأهرب من الخوف وأحب.
**
يقول شنودة: هنا، تسمرت في مكاني مندهشا مما أسمعه، وجذبته للداخل مرة أخرى بكل قوة، وسألته بمزيد من الدهشة والاستنكار في وقت واحد: أنت ليه مسمعتنيش الكلام ده من الأول خالص وقعدت تضيع وقتي كل ده!!!
فرد: أصل أنا خفت لحسن ميعحبكش الكلام ده.
فوضح له شنودة أن هذا الكلام وهذا الأسلوب هو بالضبط ما يريد تقديمه من خلال فرقته. وطلب منه أنه كلما كتب كلمات بها نفس هذه الأفكار وهذه اللغة يأتي إليه على الفور بدون تردد. وطلب منه استكمال هذه القصيجة والعودة له بأسرع وقت ممكن.
يستكمل شنودة، قررت عمل هذه الأغنية بأي شكل ممكن وسأحصل على موافقة الرقابة على هذه الكلمات بأي شكل حتى لو على جثتي (على حد وصفه). ولأني واجهت مثل هذا الموقف في عدة أعمال لي مثل (حرية) و(حظ العدالى/ وكلمات الأغنية مثل اسمها ذات معني مزدوج). فأنا عادة أقوم بإتباع حيلة ذكية وهي تقديم الأغنية للرقابة ليس بالكامل ولكن جزء جزء، بحيث لا يستطيع الرقيب تكوين فكرة عامة عن الأغنية وبالتالي لا يستطيع أحد الاعتراض وتسير الأمور بسلام، وهو ما تحقق بالفعل.
لما كان البحر أزرق
كتب كلماتها أيضا هاني ذكي بنفس اللغة الشعرية المميزة التي كتب بها أغنية (هزني). والأغنية هي وصف لحوار حالة حب بين محبوبين، يقوم بدور المحبوبة المطربة الصاعدة وقتها رندا والتي اختفت من الساحة الغنائية مع بداية التسعينات. بينما يقوم بدور المحبوب الكورال الغنائي المصاحب للأغنية.
بجانب حالة الحب التي تتعرض لها الأغنية، يصف شنودة أنهم من خلال هذه الأغنية دعوا إلى أهمية استقلال المرأة وحريتها في اتخاذ قراراتها (وهو ما يعرف حاليا بتمكين المرأة Woman Empowerment). فالمحبوبة في هذه الأغنية لكي تشعر بحلاوة الحب لابد أن تشعر بأهمية ذاتها وكينونتها لا بتبعيتها للرجل. وهو ما عبرت عنه كلمات الأغنية قائلة:
كنت عايشة مابين إيديك… كنت السراب تحت سماك… وكان هناك البحر أزرق…
لكن في يوم كان لازم أبدأ... أعيش حياتي وأخلق لذاتي كيان
تاهت ملامحي بين ملامحك… حتى أفكاري وخيالي… حتى أحلامي وإرادتي… كنت نور وكنت ضلك
واكتشفت من تجاربك اللى يوم علمتها لي… إنى لازم أكون (أنا) علشان أحبك (أنت).
وألمس (بنفسي)… إن لون البحر أزرق…
الصبحية
أهو راح إمبارح أهلا بيك يا نهار يا جديد… هات لنا وياك أفراح في إيديك وأغاني وعيد
أنوارك طلعت ع الدنيا بسلام وأمان… ونهارك على وش المية صورة بألوان
ما أجمل أن تبدأ يومك بهذه الكلمات الجميلة ليكون يومك مملوءا بالطاقة الإيجابية. عادة، أحب سماع هذه الأغنية في فترة الصباح وأنا ذاهب لعملي لأعطي لنفسي دفعة من الطاقة الإيجابية في بداية يوم عمل ربما سأواجه فيه بعض الصعوبات. وليس غريبا على شاعر فذ بحجم الإذاعي الكبير عمر بطيشة أن يكتب مثل هذه الكلمات الخفيفة ليسعد مستمعي هذه الأغنية. ولما لا، فهو أيضا إذاعي بارع يجيد اختيار كلماته أمام الميكروفون، ويعرف كيف يسعد مستمعيه بأبسط وأحلى الكلمات.
عرفتيني
هي الأغنية المميزة التي كتبها الشاعر الفذ عصام عبدالله والتي مرت بمراحل متعددة في اللحن والكلمات، حتى استقرت في النهاية في بداية التسعينات عند إيمان البحر درويش لتصبح واحدة من أهم الأغاني التي غناها في مشواره. بدأت هذه الأغنية مع ألبوم (إبدأ من جديد)، وفيها يصف الشاعر حالة حبه لحبيبته.
ولكن مع عصام عبدالله، الذي كانت بدايته في نفس هذه الفترة من بداية الثمانينات كشاعر غنائي متجدد، الكلمات مختلفة والأسلوب متميز. فالتعبير عن الحب لا يأتي عن طريق تشبيه المحبوبة بتشبيهات مباشرة كأنها الشمس والقمر مثلا، ولكن التعبير يكون للحالة التي يسببها الحب للحبيب بصورة شعرية غاية في الابتكار اللغوي والشعري… (راسم لك في تكاويني… ملاك حبه مدفيني). وكلمة تكاويني جمع كلمة تكوين، في إشارة لأن حبه لحبيبته له أكثر من صورة وليست الصورة المادية فقط، وفي كل صورة ملاك حبه لحبيبته حاضر يدفء قلبه متملكا لكل كيانه.
**
وفي هذه الأغنية قدم شنودة لحنا موسيقيا متميزا لعبت فيه الوتريات بكافة أنواعها سيمفونية من الجمال غاية في الروعة. ومع ذلك ربما لما تلاقي هذه الأغنية في ألبوم (ابدأ من جديد) مثل ما لاقته من نجاح عندما غناها إيمان البحر درويش في ألبومه (شمس ودفا).
ليس فقط لعدم التعود على مثل هذا النوع من الكلمات، ولكن لأن ممدوح قاسم رحمه الله بصوته الرخيم ربما لم يكون مناسب لحالة العاطفة الجياشة في أغنية عاطفية مثل هذه الأغنية. مقارنةً بالصوت المطرب لإيمان البحر درويش الصاعد والهابط عبر ألحان الأغنية المختلفة.
وهذا لا يمنع ولا يقلل من تميز فرقة المصريين بأنها علمت صانعي الغناء أن الغناء الجيد لا يشترط بالضرورة أن يكون صاحبه (مطرب) بل يكفي أن يكون (مؤدي) جيد للحن وكلمات مميزة. والدليل هو نجاح ممدوح قاسم نفسه في غناء مجموعة من أشهر أغاني فرقة المصريين مثل أغنية (مسألة السن). بل إنه حتى اليوم، تتميز العديد من الفرق الموسيقية بأنها ناجحة غنائيا وموسيقيا مع إن المغنيين الرئيسيين بها (مؤديين) أكثر منهم (مطربين)، مثل أمير عيد وفرقة كايروكي.
ابدأ من جديد
“اتنين لما ماتوا حسيت إني فعلا اتيتمت… صلاح جاهين وعبدالرحيم منصور”.
بهذه الجملة وصف لي شنودة مدي حبه وعلاقته باثنين من أهم الشعراء الغنائين في مصر. فمن خلال كلماتهم قدم أحلى أعماله. وصلاح جاهين تحديدا له الفضل الأول في دعم فرقة المصريين فنيا وخروجهم للنور وتشجيعهم على المواصلة فيما يقدمونه فنيا خاصةً في بداياتهم.
لذلك نجد أن أهم أغنياتهم قد كتبها صلاح جاهين مثل (حرية) و(ما تحسبوش يا بنات) و(الشوارع حواديت) و(ماشية السنيورة)، وغيرهم. بل إن من هذه الأغاني ما كان الأغنية الرئيسية بالنسبة للألبوم، ومنها هذه الأغنية التي كتبها جاهين. حكى لي شنودة حكاية جميلة للغاية عن هذه الأغنية والحالة التي تدعو إليها من التغلب على الصعاب والبدء مرة أخرى من جديد إن فشل الفرد في تحقيق ما يتمناه. يقول شنودة:
“كانت فرقة المصريين في الثمانينات تقوم بعمل حفلات غنائية في الفنادق الفاخرة بالقاهرة. وفي مرة بعد الانتهاء من تقديم فقرتنا بأحد الفنادق، وكنا قد أنهينا فقرتنا بهذه الأغنية (إبدأ من جديد). فوجئت بشخص يقترب مني ويسلم علي بحرارة ويشكرني على هذه الأغنية التي غيرت مسار حياته وحياة ابنته. فابنته كانت في الثانوية العامة ورسبت واكتئبت وحزنت حزنا شديدا، فأراد هو أن يشد من أزرها فأحضر لها هذا الألبوم، وقد كان دائما يشغل لها هذه الأغنية ليحمسها ويعيد إليها ثقتها في نفسها. وبعد ذلك، نجحت الابنة نجاحا باهرا وحصلت على مجموع ودخلت كلية الطب”.
لما ابتدينا نغني
الأغنية الثالثة في هذا الألبوم التي كتبها هاني ذكي لفرقة المصريين. والأغنية ليس فيها تمجيد أو مديح من فرقة المصريين لأنفسهم. ولكنها شرح لفلسفتهم في الغناء والموسيقى، وكذلك المغزى من أن يغنوا بهذه الصورة لحنا وكلمة. بل، أيضا في هذه الأغنية يدعون من يأتي بعدهم أن يجدد وأن يغني بطريقته وأسلوبه، إذ يقولون:
ح تمر بينا سنين… تتغير الألوان… تتبدد الأوهام… يمكن نكون عايشيين… هيجوا ناس تانيين… نفس المكان واقفين… في ليلة تحت الضوء… هيغنوا حلم جديد… هيغنوا للعالم … على طريقتهم… ويعيشوا دنيتهم … دنيا من الأنغام… دنيا من الأحلام … وف وسط كون فرحان… هيغنوا للإنسان.
مشهد خامس- نهاية تنتهي بصدفة (ليل خارجي)
دخلنا مبنى ماسبيرو، واٌستقبل شنودة بحفاوة ومحبة لا مثيل لها من كل العاملين بدايةً من أفراد الأمن وصولاً لطاقم العمل نفسه. وسجل هاني شنودة مع صديقتنا العزيزة الإذاعية ميادة السعيد هذه الفترة وكعادته كان فيضا من البهجة والفرحة في حديثه.
ثم تهيأنا للعودة، وجلست أنا وهو ندردش في صالة الانتظار ريثما تحضر صديقتنا العزيزة دعاء سيارتها لنعود. وإن كان هناك ما يسمى بقوانين الصدفة، فأنا اعتقد أن ما حدث معي في هذه اللحظة ربما صدفة لن تتكرر مع أحد آخر بنسبة واحد في المليون. بينما أنا وشنودة نتبادل الحديث في هذه اللحظة دق جرس هاتفه الجوال، بنغمة فيلم شمس الزناتي، لتظهر أن المتصل رقم خاص Private Number وهو عادةً ما يعطي إشارة أن المتحدث شخص من خارج مصر. ورد شنودة، فإذ بالمتصل هو الشاعر الغنائي د. هاني زكي نفسه يتصل به، كما هي عادته، للاطمئنان عليه. طبعا، تفاجأت أنا وشنودة بهذا الموقف وهذه الصدفة وربما كنت أنا الأكثر تعبيرا بالمفاجأة على ملامح وجهي، لأن من كتب ومن لحن ومن غنى في لحظة واحدة أمامي الآن.
**
وحينها أول ما عرف شنودة أن المتصل هاني ذكي إذ به بكل حماسة يقول:
يا هانى… مش هتصدق والله… أنا لسه حالا النهاردة كنت بأتكلم مع حد قدامي، المهندس أكرم أهه، وقعدنا نفتكر أيامنا الحلوة مع بعض لما عملنا ألبوم ابدأ من جديد… خد … معاك أهه.
وأعطاني شنودة الهاتف للتحدث مع د. زكي، وأنا حرفيا كما يقول التعبير العامي (متلجم ومبلم) من المفاجأة والصدفة. تحدثت معه، ربما لمدة دقيقة. وكان صوته هادئا كعذوبة كلماته، وأنا لساني لا يردد سوى أنني لا أجد كلمات أقولها من هذه الصدفة التي تكاد تكون مستحيلة الحدوث.
وشكرته بتلعثم على كل أغنية جميلة كتبها، وهو بالمثل أعرب عن مدى سعادته إن هناك من هو لا زال يتذكره كشاعر رغم أنه غادر مصر من مدة تجاوزت وقتها الثلاثين عاما. ثم أعطيت الهاتف لشنودة الذي واصل حديثه معه، ولا زالت أنا في حالة الذهول من هذه الصدفة.
أثناء جلوسي مع المايسترو هاني شنودة في صالة الانتظار بمبنى الإذاعة والتليفزيون بماسبيرو، قبل لحظات من اتصال الشاعر د. هاني زكي به.
**
في طريق العودة من وسط البلد إلى الجيزة، تحدثت معه في موضوعات عدة، أبرز ما قاله فيها الآتي:
- هاني الأزهري شالني كتير جدا في شغل الباركشن والإيقاع، وحقيقي كان وجوده معانا طول مشوار الفرقة مكسب مهم لها. وهو اضطر للعودة للعمل كعازف موسيقى غربية لما الفرقة توقف نشاطتها لأن برضه هوه له التزامات وطموحات في المزيكا لسه عاوز يحققها.
- تجربتي مع فرقة لي بتى شاه Les Petits Chats كانت تجربة مميزة جدا. وأنا سعيد بعودتهم مرة أخرى للظهور وللغناء، وسعيد بأنهم لازالوا متذكرين أيامنا الجميلة مع بعضنا البعض. ونحاول كلنا أن نكون على تواصل مستمر، ولكن السن وظروف الحياة لا تساعدنا في أن نكون على تواصل بشكل منتظم.
- عمار الشريعي موسيقار فذ لن يتكرر مرة أخرى. وفي رأيي، بالرغم من كل النجاح الذي حققه في آلتي الكيبورد، إلا أنه لو كان ركز في العود مثل ما ركز في الكيبورد لربما وجدنا حالة موسيقية لن تتكرر مع العود مثل فريد الأطرش ورياض السنباطي.
- إحنا في أوبريت اللعبة مع نيللي عملنا كل اللي نفسنا فيه في المزيكا، عملت الإسبانيولي، والشرقي، والتكنو، وكل حاجة.
- حينما ذكرته بمسلسل الأطفال شجرة الحواديت، وأنا أحب هذا المسلسل جدا بكلمات أغانيه التي كتبها الشاعر الكبير فؤاد حداد، قام شنودة بدندنة أحد مقاطع أغاني المسلسل الشهيرة وهي “عد صوابعك كام“:
وأنت يا عمي وأنت يا خالي… يا ما سهرنا ليالي ليالي… لما بنينا السد العالي… وبنينا الأهرام… عد صوابعك كام.
مشهد سادس – خاتمة (نهار خارجي)
مارس 2023. تم تكريم الموسيقار هاني شنودة في مدينة الرياض في حفل كبير حضره أهم نجوم الفن والغناء، على رأسهم عمرو دياب ومحمد منير اللذان اكتشفهما وقدمهما للجمهور. وهي خطوة يُشكر عليها، من قام بها ويُحسب له اهتمامه بمشوار هذا الموسيقار المبدع الذي كان، ولازال، طويلا وحافلا بالتجديد والتغيير مقدما الكثير لصناعة الموسيقى والغناء.
ولكن، وبلسان شنودة نفسه بعد التكريم، التكريم الذي لا يضاهيه قيمة هو تكريم كل الجمهور له الذى أحب فنه وارتبط به. تكريم من هم في ظلال المشهد من بسطاء لا يعرفون عنه سوى أنه صاحب الألحان الجميلة التي أحبوها وتعلقوا بها، ومنهم سائقي التاكسي الذين التقينا بهم أثناء سيرنا، والذين قالوا له فور رؤيتهم له:كل سنة وأنت طيب يا فنان…. ربنا يخليك لينا.
اقرا أيضا:
هاني شنودة: الفن يحارب الإرهاب.. وهذا سبب تلحيني “صلوا على الرسول”