أغاني الحجيج: البوابات الباطنية وسر «القناوي»
الأغاني واحدةٌ من عناصر الطقوس الشعبية الخاصة بأداء شعيرة الحج. وهي العنصر الاساسي في زفِّة الحاج أثناء الوداع وعند الرجوع. وتكشف نصوص تلك الأغاني عن تصورات الجماعة لمفهوم الزيارة المقدسة، وآدابها، والطبيعة الروحية للمكان.
في واحدة من أشهر أغاني الحجيج يقول النص الشعبي:
فاطمة يا فاطمة
يابتِّ التُهامي
افتحي البوابة يا فاطنة
أبوكي دعاني.
في هذا المقطع البسيط تتفاعل مجموعة من الرموز، وتختزل تصور الجماعة الشعبية لمفهوم الزيارة المقدسة، وتلك الرموز هي “فاطمة” “البوابة” “الدعوة أو التصريح السري”
الزهراء خازنة الرحاب المحمدي
مكانة السيدة فاطمة الزهراء لا تحتاج إلى توضيح، و الأغنية تكرِّس لتلك المكانة من خلال تكرار اسمها ثلاث مرات، وفي كل مرةٍ يحمل الاسم نغمة ودلالةً مختلفة. النداء في المرة الأولي، والتدليل، في المرة الثانية، والرجاء، في المرة الثالثة. أي أن اسمها يحتل ثلث مساحة المقطع بشكل مباشر، كما أنها تحتل ثلث المقطع بشكل غير مباشر. من خلال صفتها “بنت التهامي”، و “أبوكي”، وهنا تظهر الزهراء كنموذج مثالي لالتحام الروحي بالجسدي، يؤهلها لوظيفة خازن الرحاب المحمدي، وحامل مفتاح الباب الباطني.
رمزية البوابة الباطنية
لا تصح الزيارة قبل طرق الباب، والاستئذان من سيدة البيت فاطمة الزهراء، ولا يمكن أن تتم الزيارة إن لم تقم بفتح الباب، كل المسافات لا معنى لها إن لم تُفْتَح البوابة الباطنية التي لا تبصرها العيون.
تقوم رمزية البوابة على الطرح الديني للعالم الآخر كما يظهر في رمزية الجنة والنار، كما تقوم على أساس ثقافي يتمثل في خبرة الناس الخاصة بمفهوم الباب، والبيت بشكل عام، ونحن نعرف تلك المرحلة الطويلة والمخيفة التي عاش فيها الإنسان دون أن يعرف البيوت. كما نعرف المرحلة التي عشنا فيها داخل الكهوف التي لا أبواب لها، ثم عرفنا الأبواب لنصل إلى ذروة الشعور بالطمأنينة ونحن نعيش في قلب الطبيعة بوحوشها المفترسة، وهكذا أصبح المسكن رمزا للسكينة الدنيوية.
في الثقافة الإسلامية تتجلى رمزية الباب عبر مظاهر كثيرة، فالجنة لها أبواب لا تُفْتح إلا من خلال حارس أو خازن، وفي الحديث الشريف: “آتي بابَ الجَنَّةِ يَومَ القِيامَةِ فأسْتفْتِحُ، فيَقولُ الخازِنُ: مَن أنْتَ؟ فأقُولُ: مُحَمَّدٌ، فيَقولُ: بكَ أُمِرْتُ لا أفْتَحُ لأَحَدٍ قَبْلَكَ.
لدخول الجنة آداب هي الاستفتاح، والوقوف أمام الخازن، والدخول لا يتم وفق أحقية القادم بعد الحشر، والحساب، والمرور على الصراط ، وغيرها فقط، بل بناء على تصريح مسبق من الذات الإلهية.
**
وللجنة أبواب كثيرة، مثل باب الجهاد، وهو المخصص أهل الجهاد في سبيل الله، وباب التوبة، وهو المخصص للتائبين. وباب الصلاة، وهو المخصص لأهل الصلاة. وباب الريا ، وهو المخصص لأهل الصيام. و باب الصدقة وهو المخصص لأهل الصدقات. وباب الوالد وهو المخصص للذين يبرون والديهم. وباب الفرح، وهو المخصص للذين يُدْخلون السرورَ والفرح على الأطفال، وباب الضحى، وهو المخصص للذين يصلون الضحى.
ورضوان في الثقافة الإسلامية هو خازن الجنة، واسمه مشتق من الرضا، ومالك هو خازن النار، واسمه مشتق من المُلك وهو القوة والشدة، وقد ورد ذكره في القرآن الكريم، ولم يكن وحده فهناك تسعة عشر آخرون، كما جاء في سورة المدثر.
وتأتي فكرة أبواب جهنم من شرح المفسرين لقوله تعالى “عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ” أي أبوابها مطبقة عليهم، فلا يفتح لها باب، ولا يخرج منها غم، ولا يدخل فيها روح آخر”.
وتربط أبواب جهنم بفكرة الطبقات، أو الدركات، فلكل وارد طبقة تخصه، وقد وقف المفسرين على تلك الطبقات من خلال أسماء النار الواردة في القرآن الكريم وهي “جهنم، لظى، الحطمة، السعير، سقر، الجحيم، الهاوية”.
رمزية الرحاب المحمدي لا تنفصل عن رمزية الجنة والنار، و هو الآخر له باب أساسي، وأبواب فرعية، ولا بد من الاستفتاح والوقوف أمام الخازن الأساسي وهو فاطمة الزهراء.
رمزية التصريح السرِّي
ارتباط الزيارة بالدعوة أو التصريح واحد من الأفكار السائدة في الفكر الشعبي، فلا أحد يذهب إلى زيارة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بدعوة سرية، وبدون تلك الدعوة تتعطل الرحلة لأي سبب من الأسباب، ونفس الأمر بالنسبة لزيارة الأولياء الصالحين.
لفكرة الدعوة قيمتُها الإيجابية بالنسبة للحاج، لأنه يشعر بنوع من الاصطفاء، فالزيارة للمدعوين، وليست فقط “لمن استطاع إليه سبيلا”، وقد ساهمت تلك الفكرة في إضفاء صبغة القداسة على لقب (الحاج)، لكنها تحمل قيمة سلبية بالنسبة للذين لم تسمح ظروفهم بالزيارة، فلماذا لم يتم اصطفاؤهم رغم طيبتهم أو شوقهم؟
الفكر الصوفي لا يسمح بتلك المشاعر السلبية، بل يعالجها، ويعالج موقف العجز عن الاستطاعة، فالرحاب المحمدي له بوابة أساسية تهيمن عليها الزهراء، وله بوابات فرعية كثيرة بعدد أبنائها، أولياء الله الصالحين الذين يتواجدون في كل مكان.
الأولياء أيضا حراس على بوابات متنقلة ومنتشرة في أرض الله الواسعة، ولكل بوابة خازن، يسمح للمدعوين بالزيارة، وهكذا تكون زيارة الأولياء بديلا روحيا لهؤلاء الذين لم تسمح لهم الظروف بالذهاب إلى الحجاز، فكل مشتاقٍ يمكن أن يُصْطفَى ويدخل الرحاب المحمدي مهما كان المكان الذي يعيش فيه.
شال الحاجة ورمزية الرفعة
لا تقتصر وظيفة الأولياء على تحقيق الزيارة البديلة، بل زيارتهم تعتبر جزءا من طُرُق الباب المحمدي، إنهم الطرق التي تؤدي إلى الزهراء، وكل حاج يبدا الاستفتاح بزيارة خازن المنطقة التي يعيش فيها، وتظهر تلك الفكرة في واحدة من أشهر أغنيات الحج، والتي يقول نصها:
رايحة فين يا حاجة
يا أم الشال قطيفة
رايحة أزور النبي محمد
والكعبة الشريفة
… … …
رايحه فين يا حاجة
يا أم الشال سماوي
رايحه أزور النبي محمد
وارجع ع القناوي.
ونلاحظ الدقة في اختيار الشال الذي يشبه وشاح الشرف، وكلمة “شال” في اللغة تعني رفع، كما نلاحظ خامته القطيفة الناعمة، ولونه السماوي الروحاني. كما نلاحظ الدقة في كلمة (رايحة) وتكرارها، لأنها تستدعي موقفا شبيها قوامه الروح والريحان، وهو رحلة المؤمن إلى الجنة، والتي تبدأ بلقاء المولى عز وجل عبر الموت، “فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ” (سورة الواقعة: 88، 89)
وأصل الروح في كتب التفسير من النسيم، و قولهم: وجدت روحا: إذا وجد نسيما يستروح إليه من كرب الحرّ، وهو يرمز إلى الراحة والرحمة والفرح، والريحان يرمز للرزق والجنة، ولم يكن أحد من المقرّبين يفارق الدنيا، حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيشمه، ثم يُقبض.
الحج وسر القناوي
يظهر “القناوي” في الأغنية كمحطة أساسية في طريق العودة، وهو من الأولياء الذين يستمدون هويتهم من المكان، بخلاف البدوي والدسوقي والرفاعي والشاذلي وغيرهم، وارتباط “القناوي” بالمكان يعتبر في تقديري واحدا من أهم الأسرار التي صنعت مكانته الكبيرة.
الأغنية المذكورة ليست خاصة بأهل قنا وحدهم، بل تنتشر في كل الأقاليم، لأن زيارة “القناوي” تُعتبر جزءا أساسيا في رحلة الحج بسبب موقعه كمحطة أخيرة قبل التوجه إلى البحر الأحمر واستقلال المراكب إلى الحجاز.
تأتي أهمية الموقع من كونه أقرب مناطق وادي النيل إلى البحر الأحمر، حيث يتجه مسار النيل ناحية الصحراء الشرقية مشكلا تلك الحدوة المعروفة باسم ثنية قنا. ولهذا كانت أرض قنا موقوفة على سكان الحجاز على مدار ألف سنة، و كان الحجاج ينزلون في ساحة سيدي عبد الرحيم، ويقضون بعض الوقت قبل انطلاقهم في السكة الحجازية.
لكل ولي عيد، ولعبد الرحيم القناوي ثلاثة أعياد، و هذا سر من أسرار المكانة الكبرى التي يتمتع بها في وجدان المصريين بشكل عام، المكانة التي تقوم في تقديرنا على رمزية البوابة الباطنية.
**
في بداية شهر شعبان يبدأ الاحتفال بمولد القناوي، ويستمر حتى ليلة النصف، وهو التجمع الأكبر في الصعيد، ويحتوي على جميع العناصر التقليدية للموالد الكبرى مثل الزيارة، ومواكب أبناء الطرق الصوفية، و مجالس الذكر والمديح، و حلقات لعبة العصا، واستعراض الخيول المعروف باسم (المرماح)، وغيرها من المظاهر الاحتفالية التي تعرفها الموالد الكبرى.
العيد الثاني يبدأ في موسم الحج، حيث يتم زف الحاج بالأغاني، وتنطلق الزفة من بيت الحاج وتنتهي عند ميدان سيدي عبد الرحيم، هذا بالنسبة إلى سكان قنا. وبالنسبة للأماكن البعيدة فتبدأ الزفة من المرسى النهري حيث تتوقف المراكب القادمة من الشمال وهي تحمل الحجاج المصريين والمغاربة، أو من حيث تتوقف العربات في الوقت الحاضر، وتنتهي بزيارة القناوي، ويحدث نفس الأمر بعد عودة الحجاج.
أما العيد الثالث فيقام أثناء مولد أبي الحسن الشاذلي في حميثرة، حيث تبدأ الرحلة من ميدان “القناوي” وتنتهي عنده. وفي تلك الأيام يمتلئ الميدان بالهتافات، وسيارات النقل المكسوة بقماش السرادقات، والممتلئة بالزوار والحاجات الضرورية لبقائهم في صحراء حميثرة، مثل الماء والطعام والذبائح وغيرها.
وهكذا يكتسب “القناوي” أهميته الخاصة من موقعه الفريد، وهذا الموقع في الفكر الصوفي ليس من اختياره، لأن ارتباطه به كان نتيجة تكليف باطني. وأهمية الموقع كبوابة للحجاز، تدل على أهمية القناوي في عالم الأولياء، فبسبب مقامه الرفيع تم اختياره لذلك المكان، وصار مقامه واحدا من البوابات الباطنية الكبرى التي تؤدي إلى بوابة الرحاب المحمدي، حيث تقف الزهراء على بعد خطوة من اللقاء العظيم.
اقرأ أيضا:
نساء قوص يتذكرن: أغنيات عودة الحجاج زمان
الربابة والسماء: سيد سعد الدين ومهارة النحت بالشمس والماء