أعتقد أن البشر يجب أن يكونوا نباتات

دراسة عن رواية هان كانج الأشهر «النباتية»

«النباتية» هي الرواية الأشهر لهان كانج، صاحبة نوبل هذا العام، وقد حظيت بإشارة خاصة في تقرير الأكاديمية السويدية حول جائزة نوبل. منذ نشرها في عام 2007، جذبت الرواية انتباه القراء ونجحت في بناء قاعدة جماهيرية للمؤلفة خارج كوريا الجنوبية. وبسبب أحداثها المثيرة، تمت ترجمتها في أكثر من 20 دولة، وكانت سببا في فوز هان كانج بالعديد من الجوائز.

النباتية: مفهوم مختلف في الثقافة الكورية

ظل الأدب الكوري بعيدا عن الجمهور حول العالم، على عكس السينما الكورية وموسيقى البوب ​​الكورية، المعروفة أيضًا باسم كيه بوب، والتي أصبحت مشهورة. بالنسبة إلى رواية «النباتية»، التي تحولت إلى فيلم لاحقا، فإن العنوان الكوري لرواية هان كانج مثيرا للجدل، فالكلمة الكورية التي تشير إلى “نباتي” تحمل معنى مختلفًا عن المفهوم المتعارف عليه في الإنجليزية. وتعني حرفيًا “الشخص الذي يأكل الخضراوات” أو “آكل النباتات”.

«أعتقد أن البشر يجب أن يكونوا نباتات»، ويُقال إن هذا السطر للشاعر الكبير يي سانج، الذي كُتب بالخط الكوري المحظور خلال فترة الحكم الياباني، كان له تأثير عميق على رواية “النباتية”. تعكس الرواية صورا تحمل طابعًا شبيهًا بالأحلام، بينما تتناول تصوير هان السريالي والرمزي لتمرد المرأة.

تدور القصة حول يونج هيه، التي تطاردها أحلام غريبة وتقرر التخلي أولاً عن اللحوم ثم عن الطعام بالكامل، في رفض جذري للقسوة البشرية والدمار. في مجتمع أبوي حيث يعتبر النظام النباتي نادرًا، تؤدي تصرفات يونج هيه في النهاية إلى وضعها في مؤسسة وإطعامها قسريًا. يُظهر هذا الاستكشاف العميق لهان لموضوعات العنف والإنسانية كيف يرتبط ذلك بجسد المرأة المعذّب بفقدان الشهية، مما يشكل صورة نفسية استفزازية تعكس سياسة التحكم بجسد المرأة.

وعنوان الرواية يتناقض مع المتعارف عليه في المطبخ الكوري، الذي كثيرًا ما يضيف الأسماك أو اللحوم إلى الخضراوات، ما يجعل هذه الأطباق غير نباتية. وبحسب دراسة نقدية عن الرواية نشرت عام 2021، فإن كونك نباتيا في كوريا الجنوبية ليس أمرا سهلا، بل يعتبر أن  الشخص النباتي مُهَمشا اجتماعيا.

وفي الثقافة الكورية، يعتبر النظام الغذائي النباتي غالبًا في سياق ديني، خصوصًا من منظور البوذية، حيث ينظر إليه كفعل روحي يتعلق بالتخلي عن الطعام العادي أو ممارسة إنكار الذات. ومع ذلك، فإن فكرة النباتية الأخلاقية بهدف عدم القسوة على الحيوانات ما زالت غير مفهومة في كوريا إلى حد كبير.

التمرد.. من حلم إلى واقع مؤلم

رواية «النباتية» ليست دعوة للنباتية أو اتباع نظام معين من الطعام، وفي رواية «النباتية» عندما تقرر يونج هيه، الشخصية الرئيسية في رواية هان كانج، التوقف عن تناول اللحوم لأسباب غير دينية، يجد من حولها أنفسهم في حيرة. وفي النهاية يُعتقد أنها تعاني من جنون.

يأتي تحولها للنباتية بسبب حلم سيء، وفي تلك الليلة تتخلص من كل اللحوم الموجودة في المنزل، مما يثير استياء زوجها. ولا نسمع صوت يونج هاي كثيراً في الرواية ـ فمعظم السرد يتم من قِبَل أفراد آخرين من الأسرة يتفاعلون معها أو من وجهة نظرهم. لم ينزعج من علموا بنباتية يونج هاي لأنها تفقد الوزن بسبب عدم أكل اللحوم. لكنهم انزعجوا أكثر من عجزها عن تفسير سبب عدم تناولها للحوم بأنها “رأت حلما”. وفي الرواية هم على استعداد لقبول تفسيرات مثل صحتها أو البيئة أو أي تفسير آخر منطقي.

بدات عائلتها وأفراد المجتمع في معاملة يونج باعتبارها غريبة الأطوار. وفي أحد التجمعات، عندما ترفض يونج هي تناول اللحوم، تصرخ أمها في وجهها قائلة لها: «إنه في هذا العالم إما أن تأكلي اللحوم أو أن العالم سوف يأكلك». وتتبع الأم مبدأ «إما أن تأكل أو تؤكل».

الضغط الاجتماعي

كيف يتفاعل الكوريون مع رواية “النباتية” إذن؟ خاصة أنها لا تروج للنظام الغذائي النباتي.

في دراسة نقدية نشرها الباحث “وون تشونج كيم” في الأدب المقارن والثقافة والصادرة عن جامعة بيردو. تحت عنوان “الأكل والمعاناة في رواية النباتية لهان كانج”، يصف رواية هان كانج نقدًا صارخًا للعنف الناجم عن ضغوط المطابقة الاجتماعية والقواعد السائدة.

ورغم أن هذه الضغوط موجودة في جميع المجتمعات، إلا أنها تبرز بشكل خاص في المجتمع الكوري. حيث يعطى المطابقة أهمية كبيرة وتعتبر توقعًا اجتماعيًا. فالتجانس الثقافي والاجتماعي يعتبر سمة إيجابية، سواء في كوريا الشمالية أو الجنوبية، وغالبًا ما يجد الكوريون شعورًا بالراحة في التشابه. كما يتضح في التصميم المعماري المكرر للمباني السكنية التي يقطنها الكثيرون.

لكن الحرص المجتمعي في الكوري على الالتزام بالتماسك له تكلفة كبيرة. فعلى الرغم من أن المجتمع الكوري يبدو منظمًا ومتماسكًا من الخارج، إلا أن الحفاظ على هذا التماسك يتطلب درجة عالية من العنف البنيوي. وهذا العنف يتجلى في العلاقات الشخصية والأسرية وعلاقات العمل. ولا يظهر إلا في اللحظات التي يتم فيها تحدي هذا التماسك أو تهديده.

الكاتبة الكورية الجنوبية هان كانج
الكاتبة الكورية الجنوبية هان كانج
العنف العاطفي في العلاقات الأسرية

وفي أحداث الرواية، عندما تقرر يونج هي أن تصبح نباتية، تجد نفسها تحت ضغوط فورية لتغيير رأيها. في أحد أكثر المشاهد المثيرة في الرواية، تغضب عائلتها بشدة من رفضها تناول الطعام الذي يأكله الجميع، لدرجة أن والدها يحاول إدخال قطعة لحم في فمها، مما يدفع يونج إلى قطع معصميها كاحتجاج.

تتضمن الرواية عنصرا من العنف العاطفي، إذ يهيمن زوج يونج هيه، على جزء كبير من الرواية، يستغلها لتلبية احتياجاته الخاصة. يقرر الزواج منها لأنه يجدها عادية بما يكفي ليشعر بعدم الحاجة إلى إرضائها أو القلق بشأن مظهره. وعندما تختار أن تصبح نباتية، يصبح اهتمامه منصبًا على نفسه فقط. سواء بسبب خوفه من الإحراج الاجتماعي إذا اكتشف الآخرون أن زوجته “المجنونة” نباتية، أو لأنه قلق بشأن كيفية تدبير أموره إذا رفضت طهي اللحوم له.

وعبر اتباع الطريقة نفسها، يستغلها شقيق زوجها، وهو فنان، لتلبية احتياجاته الخاصة. وينتهي استغلاله ليونج هيه إلى شكل من أشكال العنف العاطفي الذي لا يؤثر على يونج هيه فقط. بل يؤثر أيضًا على زوجته، التي هي أخت يونج هيه الكبرى. هناك أيضًا مسافة عاطفية بين يونج هيه وأختها الكبرى، والمشاعر العامة التي يتم تصويرها طوال الرواية هي أنه لا توجد علاقة شخصية واحدة لا تحتوي على عنصر من العنف أو الاستغلال أو القسوة. حتى مع كفاح كل شخصية لإضفاء المظهر الخارجي الطبيعي.

ومع ذلك، اختيار يونج هيه أن تصبح نباتية لم يكن نابعا من موقف أخلاقي صريح بل من حلم راودها. فرغبتها في عدم تناول اللحوم تتحول ببطء إلى رغبة في عدم تناول أي شيء على الإطلاق. ثم إلى رغبة في أن تصبح هي نفسها. وحتى في المستشفى النفسي حيث تنتهي، يحاول الأطباء إطعامها قسريا. وهو عمل آخر من أعمال العنف القسري الذي يتغلب على رغبة يونج هيه الشخصية في السيطرة على حياتها.

مقارنة بين “النباتية” و”مسألة شخصية” لكينزابورو أوي

قارنت الدراسة بين رواية “النباتية” لهان كانج، والنقد الذي قدمه الكاتب الياباني “كينزابورو أوي” في روايته «مسألة شخصية». في هذه الرواية، يمر بيرد، الراوي والشخصية الرئيسية، بنوبة من الحزن والتدمير الذاتي بعدما يخبره الأطباء أن ابنه وُلد بعيب خلقي شديد. يقترح الأطباء عليه ترك الطفل يموت. معتبرين أن الحياة غير الطبيعية في المجتمع الياباني ستكون أسوأ من الموت. وأن بيرد، كأب، سيتحمل عارًا اجتماعيًا كأنه هو المسؤول عن ذلك.

في النهاية، يجمع بيرد شجاعته ويقرر الاحتفاظ بابنه، متجاوزًا توقعات المجتمع. تشبه حالة يونج هيه في رواية “النباتية” التي تمتنع عن تناول اللحوم ويتم وصمها مجتمعيا. كما قارنت الدراسة بين الرواية وأعمال الكاتبة الفيتنامية “دونج ثو هونج”، التي تتناول رواياتها قضايا النقد للوسائل التي تصبح بها التقاليد والثقافة أدوات سلبية لإسكات المعارضة والاختلاف، وخاصة بالنسبة للنساء.

 الديانة الجاينية والثقافة السلبية

ايستكمل الباحث المقارنة بالإشارة إلى أن استخدام هان كانج للنباتية قد يكون كرد فعل وانتقاد للعنف المحيط بالبشر أو صعوبة تحرير أنفسنا منه،. مستشهدا بـ«الديانة الجاينية»، التي تعتبر في الأصل نباتية. يُنظر إلى «نذر الساليخانا».. وهو نوع من الصيام التدريجي حتى الموت. حيث يتعهد المريد بعدم تناول المزيد من الطعام أو السوائل، باعتباره طريقة راقية لإنهاء حياة المرء عبر تحريره من العنف، بحسب معتقداتهم.

اقرأ أيضا:

ملف| من هي «هان كانج» أديبة نوبل 2024؟

محمد نجيب مترجم روائية نوبل: لهذه الأسباب ترجمت هان كانج

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر