«أسوان».. مسك الختام

في اللحظة التي تخرج فيها من محطة أسوان ستدرك هذا التاريخ المركب والمعجز، الذي يختلط كله في مشهد واحد عبر النيل والصحراء وقبة الهواء، تلك القبة الفريدة التي تقع على قمة الجبل الغربي، والتي تعكس تاريخ أسوان المتراكم والمعقد. القبة تظهر ليلا ونهارا، فهي التي تخطف النظر بضوئها المشع في الليل، وهي كذلك التي تلفت انتباه زوارها في النهار بلونها الرمادي الداكن. بالرغم من أن الدراسات تشير إلى أنها استخدمت في مراقبة حركة المرور في نهر النيل، إلا أن الناس باتوا يتعاملون معها بصبغة صوفية، وهي بالمناسبة طبيعة تلك المحافظة.

يبدو المشهد المخيم على المحافظة كذلك، هو تلك القباب التي تحتل قمم الجبال المتراكمة على النيل. حيث كانت تستخدم كنقاط مراقبة للحملات العسكرية في أزمنة مختلفة. لكن الناس في أسوان صنعوا منها ما صنعوه في قبة الهوا. إذ تمثلوها أولياء تشرف عليهم بعين الحراسة والرعاية، وهو ما يجعلهم يتعاملون مع كل قبة فيها على أنها لولي من أولياء الله في أسوان. ولا عجب فأسوان إحدى المحافظات التي تنتشر فيها الطرق الصوفية والموالد بشكل كبير وملحوظ. يقال إن المحافظة تمتلك 365 مولدا، إذ يخصص كل يوم لمولد ولي من الأولياء. تم اختيارهم بعناية حتى لا يتعارض يوم هنا مع يوم هنا. يمكن فهم تلك الطبيعة بزيارة لجبانة أسوان.

***
أسوان
أسوان

جبانة أسوان التي يرجع تاريخها إلى العصر الفاطمي، وربما في تاريخ قبل هذا، تحتوي على كم هائل من المقابر والقباب التي تنسب إلى أولياء لم يزوروا أسوان ولم يدفنوا فيها. لكنها تعبر عن فلسفة الناس هنا مع الأولياء، ومع علاقتهم الوطيدة بهم. إذ أحبوا أن يضموا كل هذا الجمع الغفير من الأولياء في موقع واحد.

لا غرابة إذًا في أن تسمع أحد الزوار يحلف بها، أو يقسم على صاحبه باسمها. فيقول: “وحياة جبانة أسوان”، تلك القدسية التي يكنها الناس للجبانة ليست من فراغ، فكأنها لوحة يشكلها الناس حسب رغباتهم ومتطلبات حياتهم. فلا تفرض عليهم نصا تاريخيا معينا، فقط مجموعة من القباب مجهولة التاريخ والصاحب تُركت لبصمات الناس المختلفة كل على حسب حاجته. تلك الفتاة التي تأتي يوم عرسها من أطراف المحافظة لتزور أحد القباب التي تحولت مع الوقت لتكون مقاما لسيدي على أبي الحسن الشاذلي، فتلطخها بالحناء حتى يبارك لها الله في زواجها. وعلى الناحية الأخرى كذلك قبة منسوبة إلى سيدي إبراهيم الدسوقي، التي يتفاعل معها الناس بشكل كبير. حيث أقاموا حوله ساحة تسمى بالساحة البرهامية، ويقام له مولد وحلقة ذكر في نهاية شهر شعبان من كل عام.

يتعامل الناس هنا بسجيتهم الطيبة، وروحهم النقية البيضاء التي تتشابه مع ما يلبسون. فلباسهم هنا الأبيض، اللون الذي يتوافق مع درجات الحرارة المرتفعة. وهم هيئوا أنفسهم للتأقلم مع ظروف هذا المناخ القاسي في الصيف، لكن الشتاء هنا لا نظير ولا مثيل له. فالمدينة هي الوجهة الأولى في مصر في فصل الشتاء، إليها يأتي الناس من كل مكان، فالشتاء هنا لا يقارن بأي مكان آخر في مصر.

***
الطبيعة في أسوان
الطبيعة في أسوان

أما النوبة فتبدو وكأنها حلقة متصلة لا تنقطع من تاريخ أسوان القديم والحديث. فالجزء الجنوبي الذي يشكل بلاد النوبة لديه عاداته وتقاليده المتوارثة منذ فجر التاريخ. ففي المنطقة الواقعة بين خزان أسوان والسد العالي، تتواجد قرى هيسا وعواض وبجة وتنجار. فضلاً عن جزيرة سهيل بشهرتها السياحية. وإن كان تاريخها لا يتجاوز المائة وعشرين عاما إلا أنها صورة كاملة عن الحياة النوبية في إطار سياحي مميز. حيث تمتزج فيها البيوت النوبية بألوانها الزاهية على ضفاف النيل بالتقاليد القديمة والأزياء المبدعة لأهل النوبة.

وقرى أبوسمبل وتوشكى قرب الحدود المصرية السودانية. ففي هذه القرى النوبية تعيش التقاليد ذات البعد المصري القديم في التفاصيل اليومية، فحتى وقت قريب كان يتم تغطيس الطفل المولود حديثا في مجرى النيل، وهي عادة يقتنع الأهالي أنها تعود إلى العصور القديمة.

وصحيح أن معظم القرى هجرت من أماكنها بعد إنشاء السد.حيث أُنشئ مركز ناصر في كوم أمبو شمال أسوان ليحتوي هذا العدد الكبير من القرى. وأن الناس يعيشون في حسرة بعيدا عن أراضيهم التي كانوا يقطنوها قبل المهجر. ويمكن ملاحظة هذا من خلال سرد الحكايات التي يتغنون بها عن ماضيهم الطويل في حياة ما قبل السد. إلا أنهم ظلوا متمسكين بعاداتهم وأغانيهم التراثية في رونق بهي يعبر عن عمق حضارة كانت ولا زالت ابنة لحضارة مصر القديمة.

***

لقد كان النيل في النوبة هو الحبل السُّري، وكان كذلك الحبل الذي انقطع بينهم، فالقرى المهجورة ما زالت قائمة على ضفافه، تواجه الوحشة بين جدران بيوتها المهدمة، بين مئذنة مهجورة عرفت باسم مئذنة بلال كأحد أقدم المآذن الأثرية في النوبة. وبين بيت بني على طراز محلي نوبي لوحة نيلية مرسومة لقرى لم يعد لها مؤنس ولا مقيم. كانت عامرة بأهلها وزراعتها في زمن ما قبل السد، يمرون عليها الآن بنظرة يذكرون فيها ملاعب صباهم وطقوس أفراحهم. وأغانيهم التي كانوا يستقبلون فيها طمي النيل. يحكون هذا بلغتهم الأصيلة بحروفها القديمة التي تذكرك بماضي مصر التليد.

تختتم أسوان رحلتك نحو الصعيد، وهي مسك ختام تلك الرحلة الشيقة عبر المدن والمحافظات الطويلة، ففيها تشعر أنك براحة حتى مع طول السفر بالقطار. وإليها تركن بهدوء يتجاوب مع هدوء شوارعها وأزقتها. تختمها بزيارة للسوق، الذي ضم كل شيء، خاصة تلك التوابل التي اشتهرت بها أسوان.

وأسوان من المدن التي تجيء إليها مرة تلو الأخرى، فمن زارها مرة يتعود على تكرار زيارتها مرات عدة. وهي تترك في النفس أثراً طويل الأمد، أثراً من طيبها ورائحتها النقية وهدوءها الجذاب.

اقرأ أيضا:

«أسوان».. خلف السد

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر