«أسوان».. خلف السد
بطبيعة الحال فإن النيل هو المحدد الرئيسي لطبيعة الحياة في صعيد مصر، لذا كان هو المسار الذي يمكن من خلاله فهم طبيعة الحياة والتاريخ. نحو الجنوب أكثر عبر هذا النهر الخالد في التاريخ، تحديدا خلف سد أسوان، تقع العديد من المعابد التي نقلت من مواقع أخرى. تحتل تلك المعابد مواقع مميزة على جزر نيلية ترسم شكل الحياة والطبيعة عليها. كأنها لوحة مرسومة بإتقان تؤرخ لمصر في عصور سالفة. فبداية من جزيرة إجيليكا التي تضم واحدا من أجمل المعابد المصرية في تاريخها، ووصولا إلى معبد أبو سمبل أجمل معابد مصر قاطبة، مرورا بالعديد والعديد من المعابد المهمة، مثل معبد كلابشة الذي نقل من موقعه القديم، ومعبد السبوع والدكة وعمدا حيث موقعهم على بحيرة السد العالي. كل تلك المعابد تضم بين ثنايا صخورها تاريخا طويلا ممتزجا بين الحضارة المصرية وحضارة النوبة.
كانت تحتل تلك المعابد مواقعها القديمة منذ فجر التاريخ في ثبات تام دون أي اختلاف. لكن وبسبب مشروع السد العالي الذي قامت به الدولة المصرية في ستينيات القرن الماضي والذي تسبب في ارتفاع منسوب مياه النيل. اضطرت الدولة إلى نقل تلك المعابد التي ستغمرها المياه في بحيرة السد العالي. فناشدت الدولة المصرية منظمة اليونسكو سنة 1959 وبدأت حملة تبرعات دولية لإنقاذ كل تلك الآثار والمعابد الهامة في تلك المنطقة التاريخية. ومن حينها بدأت منظمة اليونسكو بالتعاون مع الدول الأعضاء بنقل تلك المعابد من أماكنها إلى أماكن أعلى وأكثر أمانا من المياه. ومنذ تلك اللحظة وأخذت تلك المواقع الأثرية في نسج فصل جديد من تاريخها الطويل والممتد عبر التاريخ. معابد كثيرة ومتفرقة كانت ولا تزال ترسم ملامح هامة في تاريخ مصر القديمة.
فيله
من ضمن تلك المواقع معبد فيله، الذي يقع خلف السد مباشرة. كرس هذا المعبد لعبادة الإله أوزيريس، وسبب تسميته هكذا أنها نقل من جزيرة فيله. أما الموقع الذي يضمها الآن فهو جزيرة إجيليكا. يظهر هذا المعبد الأنيق بمنظر مبهر وأخاذ، ولا تصل إليه بطبيعة الحال إلا عبر أحد المراكب النيلية التي تقف على الشاطئ بالقرب من سد أسوان. يرجع تاريخ هذا المعبد إلى الحقبة البطلمية. يظهر هذا المعبد بشكل أنيق عبر ضخامة مبانيه، ودقة فنونه التي نقشت على جدرانه. كل هذا مع مياه النيل العذبة التي تصور صورة المعبد المنعكسة عليها.
أما خلف السد العالي، فتقع جزيرة أخرى تضم العديد من المعابد المبهرة في تفاصيلها، والغنية بتاريخها ونقوشها المميزة، في تناغُمٍ مزج بين الإرث النوبي والمصري في آن واحد. تخطف نظرك تلك المجموعة المميزة من بعيد. فيمكنك أن تراها وأنت على مدخل السد العالي، لكنك لن تصل إليها إلا عبر مركب نيلي صغير، يأخذك عبر بحيرة السد العالي أو بحيرة التماسيح كما يسميها البعض، وستكون محظوظا بالتأكيد إذا كان المراكبي نوبيا. حيث يسرد لك تاريخ البحيرة قبل أن تتغير ملامحها وتاريخ أسرته وملاعب صباه قبل أن تغمرها مياه السد.
أما معبد كلابشة الذي يحتل الصدارة على تلك الجزيرة والتي سميت باسمه. وهو أول ما يستقبلك منها، قد نقل من جزيرة كلابشة التي كانت تبتعد نحو 50 كيلو من هذا الموقع. حيث كان مخصصا لعبادة الإله ماندوليس إله الشمس عند النوبيين. ويعتبر هذا المعبد الذي شيد في عهد أغسطس أكمل معابد بلاد النوبة من حيث عناصره المعمارية المميزة وأكبرها كذلك. وأهم ما يميز هذا المعبد الضخم واجهته التي تتشابه مع الأسلوب المعماري المميز للعصر البطلمي والروماني.
رمسيس الثاني
لرمسيس الثاني توقيع هنا، لكنه على شكل معبد، عرف معبد رمسيس الثاني الذي كرس لعبادة الإله آمون وحورس وخنوم على تلك الجزيرة الصغيرة باسم معبد بيت الوالي. يظهر رمسيس الثاني مصورا نفسه على جدران المعبد وهو يقدم القرابين والتحيات. بالإضافة إلى نقوش أخرى تؤرخ انتصاراته التي تعود على تدوينها على جدران المعابد التي تحمل اسمه. بالرغم من صغر حجم هذا المعبد إلا أنه أنيق المظهر والهيئة، خاصة إطلالته على بحيرة ناصر.
لم يكتف رمسيس الثاني بهذا التوقيع المميز بل وقع أيضا على الناحية الأخرى من نفس الجزيرة بمعبد آخر أطلق عليه معبد جرف حسين، والذي نقل من نفس المنطقة التي سمي باسمها. يظهر المعبد ببهو فخم يشتمل على تماثيل ضخمة له في هيئة تعبدية. وربما يفسر وجود العديد من معابد رمسيس الثاني على مجرى النيل الطويل ناحية النوبة على أنه كان تواجدا عسكريا لتأمين حدود مصر الجنوبية. ويظهر هذا بوضوح تام برؤية شاملة لمواقع تلك المعابد على النيل.
لم يبح النيل بكل أسراره بعد. فبين ثنايا الصخور المتراكمة على ضفافه، تلمح بعض النقوش الهيروغليفية المختلفة والمتفرقة في أماكن كثيرة، والتي تُفَسر على أنها دعوات الصيادين الذين كانوا يصلون إلى شواطئهم بأمان بعد رحلات الصيد والتجول في النيل. فكانوا يدونونها عرفانا منهم بفضل النيل الذي حفظهم من الغرق ونقلهم إلى منازلهم بأمان. أيضا بعض المقاصير التي تغمرها المياه في أوقات زيادة المنسوب. كل تلك الآثار الباقية والنقوش المختلفة تحدثنا عن كثيرٍ من أسرار هذا النيل العظيم.
أبو سمبل
أقصى الجنوب بين تعرجات النيل وصخوره الملتحمة في أحضان التاريخ تصل إلى أشهر المعابد وأفخمها على الإطلاق، ألا وهو معبد أبو سمبل. هذا المعبد الضخم الذي يقع أقصى جنوب مصر بالقرب من السودان، والذي يعد واحدا من أجمل وأضخم المعابد المصرية وأكثرها فرادة في التاريخ. فلقد نحت كله في الصخور، ينفرد بموقعه وتفاصيله وضخامة بنائه.
حالة فريدة تفوقت على مثيلاتها في العالم كله، يعكس رغبة الملك المصري العظيم رمسيس الثاني في تثبيت نفوذه في بلاد النوبة عبر معبد مكرس لانتصاراته في بلاد الشام. وتحديدا انتصاره الشهير في معركة قادش، وهي معركة لم تنتصر فيها القوات المصرية بشكل حاسم على قوات مملكة الحيثيين. لكنها قادت إلى أول معاهدة سلام مسجلة بين المملكتين، فالمعبد المكرس لعظمة رمسيس الثاني يحكي صفحة من أبرز صفحات الإمبراطورية المصرية القديمة.
يستقبلك هذا المعبد المهيب عبر أربعة تماثيل ضخمة لرمسيس الثاني منحوتة بشكل بارع واحترافي، تحفها النقوش الهيروغليفية ومناظر الآلهة من كل جانب كأنها تحرس مملكته. وعند أقدام التماثيل نحتت تماثيل أصغر لزوجة الملك نفرتاري وأمه وعدد من أولاده وبناته، تدخل من بينهما نحو بهو المعبد الرئيسي الذي يضم بين جنباته العديد من تماثيل رمسيس في هيئة أوزيرية تعبدية.
نقوش مميزة
يضم المعبد بين كنفه العديد من النقوش المميزة، حيث يصور آمون وهو يضرب الأعداء، رسالة فحواها أن الرب آمون يساعد الإله رمسيس في حربه ضد الأجانب والأعداء. وعلى الجانب الآخر يصور رمسيس في منظره الشهير. وهو يركب فوق عجلته الحربية برشاقة وخفة لا نظير لهما، يوجه سهامه نحو قلعة الأعداء الحيثيين، الذين يقعون واحدا تلو الآخر من فوق المباني المرتفعة. لكنك إذا دققت النظر أسفل تلك النقوش ستجد أحد رعاة الغنم المحليين يشير إلى رمسيس الثاني بيده لكي يتوقف عن مهاجمته. وبالفعل لا يتعرض له رمسيس الثاني بأي أذى أو ضرر. ويعكس بهذا المنظر أنه يراعي الأخلاق الحميدة في الحروب والمعارك التي يخوضها. وينفذ وصية الآلهة المصريين بقولهم: “لا تقتل عنزة ولا تقتل راعي”. وبالفعل يتمثل رمسيس لتلك النصيحة ولا يتعرض لأي أحد منهم بأذى.
وبعد تلك المعركة الدامية التي تسجل انتصار رمسيس على جدران المعبد. يرجع في منظر مهيب وهو محاط بالأسرى والغنيمة ليقدمها لآمون في منظر رائع يعكس قدسية الآلهة المصريين عند ملوكهم. بالإضافة إلى النقوش الدينية العديدة التي تمثل رمسيس وهو يقدم القرابين لآمون. ومشاهد حميمية بين رمسيس الثاني وأولاده وزوجته المحبوبة نفرتاري الذي أنشأ لها معبدا كاملا بجانبه عرفانا منه بجميلها عليه في حياته.
ولا يتميز هذا المعبد الجميل بتلك النقوش فقط. بل يتميز كذلك بتوقيع النحات الذي قام بعمل هذا المعبد الضخم وهو “بيا” نحات رمسيس الثاني ومحبوب آمون. كما أحب أن يدون اسمه على هذا المعبد الخالد. ليؤرخ بهذا النقش والتوقيع حالة فنية رفيعة المستوى لا يوجد لها نظير في المعابد المصرية القديمة على الإطلاق. لكن ما قصة تعامد الشمس على وجه الملك يوم مولده ويوم توليه العرش في كل سنة؟
قصة التعامد
ترجع القصة إلى سنة 1874 حيث زارت مصر أميليا إدواردز الروائية وعالمة المصريات الإنجليزية الشهيرة بتكليف من المتحف البريطاني. وبسبب إقامتها الطويلة في أبو سمبل حيث أقامت ستة أشهر ترصد وتتابع الأعمال داخل المعبد. لاحظت أن الشمس تخترق قدس الأقداس في وقت معين في السنة، فقامت بتدوين تلك المعلومة المهمة في كتابها.
فسر عدد من المؤرخين بعد ذلك هذا الأمر وعلاقته بيوم مولد الملك رمسيس الثاني ويوم توليه العرش. لكن تلك الظاهرة تتنافى تماما مع الدلائل التاريخية المختلفة، فلا يوجد في العقيدة المصرية القديمة ما يسمى بتعامد الشمس على وجه الملك في يوم ولادته أو يوم توليه العرش. بالإضافة إلى موقع قدس الأقداس الكائن دائما بعيدا عن أعين الناس في الظلام الدامس. بالإضافة إلى أن مثل تلك الطقوس التي لها علاقة بالشمس لا تتم في قدس الأقداس. أما يوم مولد رمسيس الثاني فليس معروفا ولم يكن مدونا في التاريخ. لكن بقيت تلك الظاهرة لتؤرخ الحالة الرائعة التي يعيشها الناس يوما بعد يوم مع معبد رمسيس. يمكن ملاحظة العدد الهائل من الناس في يومي 22 فبراير و 22 أكتوبر في زيارة جماعية لمعبد رمسيس في أبو سمبل لتبرز حالة الشغف التي يعيشها الناس مع المعبد.
نفرتاري
بجانب هذا المعبد الضخم، معبد آخر أنشأه رمسيس الثاني لزوجته الأثيرة الملكة نفرتاري والذي كان مخصصا لعبادة الإلهة حتحور رمز الأمومة. “للزوجة الملكية العظيمة محبوبة موت نفرتاري التي تشرق الشمس من أجلها”. تستقبلك تلك النقوش التي نحتت على مدخل هذا المعبد الفريد. وحيث تقف نفرتاري على مدخل المعبد الأنيق جنبا إلى جنب مع رمسيس في تماثيل منحوتة، تحيطها نقوش بالهيروغليفية من كل جانب.
تجد نقوشا كرست لعبادة الإلهة حتحور داخل المعبد، نقشت على جدرانه باحترافية بالغة، لا زالت تحتفظ بغالبية ألوانها حتى الآن. ولا تختلف نقوش المعبد كثيرا عن رمسيس الثاني نفسه فلقد أرخ للفترة التاريخية الفريدة في عهد رمسيس الثاني من انتصارات عسكرية وحماية للحدود المصرية.
نقل المعبد
في سنة 1964 ميلاديا بدأ المشروع الضخم والتاريخي في نقل معبدي أبو سمبل من مكانهما القديم إلى مكان أكثر ارتفاعا حفاظا عليهما من مياه نهر النيل. تم إنجاز هذا العمل الجبار بفضل تعاون دولي كبير مدعوم من منظمة اليونسكو. بعد أن تلقت طلبا رسميا من الحكومة المصرية سنة 1959 بشأن الحفاظ على تلك الآثار الخالدة ونقلها من أماكنها القديمة. جرت عملية النقل بمنتهى الدقة والإتقان عن طريق تفكيك المعابد القديمة وإعادة تركيبها مرة أخرى. وكذلك مع مراعاة الاتجاهات وأماكن تواجد المعابد. ولم يسمح بأي خطأ هندسي مهما كلف الأمر. وفي النهاية كان إتمام العمل بعد أربع سنوات من العمل الشاق والمبهر بشكل لا يصدق. والجدير بالذكر أن عملية التعامد تغيرت قليلا بسبب نقل المعبد فبدل أن كانت يومي 21 من شهر فبراير و21 كذلك من شهر أكتوبر أصبحت بعدها بيوم واحد.