«أرشيف بيكيا»: «ضرورة التنسيق» بين المؤسسات الثقافية لدولة الوحدة
في 11 يوليو عام 1960، أرسل وزير الثقافة والإرشاد القومي ثروت عكاشة خطابا إلى الرئيس جمال عبدالناصر بخصوص اجتماع أجراه مع وزير الثقافة والإرشاد القومي السوري ثابت العريس. يتحدث عكاشة عن الإجراءات التي اتفق عليها مع نظيره السوري. ومنها فتح المعاهد الفنية المصرية للطلاب السوريين، وتبادل الفنانين والمحاضرين والفرق المسرحية بين الإقليمين. وتنسيق النشر بين الوزارتين حتى لا تتكرر الكتب والترجمات المتشابهة، توفيرا للجهود المادية والبشرية في الطباعة. والإجراء الأهم الذي ورد في الجواب هو اعتماد اسم “وزارة الثقافة والإرشاد القومي” على جميع مطبوعات الوزارتين، دون النص على مكان النشر المحدد في الإقليم الشمالي أو الجنوبي. حتى تتمكن الوزارة السورية من توزيع المواد المصرية دون إعادة طبعها والعكس بالنسبة للمنتجات الثقافية السورية في مصر.
**
رغم أنه يبدو قرارا بسيطا، إلا أن توحيد أسامي الوزارتين يمحي التباين المادي بين الوزارة المصرية والوزارة السورية. فقد تمتعت القاهرة بأجهزة وموارد بشرية ومؤسسات ثقافية أكبر حجما وأكثر تأثيرا على الصعيد الكمي والكيفي. سواءً كان في مجال الطباعة أو السينما أو التسجيل الصوتي أو غيرها من مجالات الإنتاج الثقافي المُميكن. ومن البديهي أن رجلا إداريا ماهرا مثل ثروت عكاشة يقترح استخدام البنية التحتية الموجودة قبل الوحدة لصالح دعم الإقليم السوري بدلاً من إنشاء بنية تحتية كاملة جديدة خاصة بسوريا. ولكن تتغاضى تلك السياسة التعاونية عن الإفصاح عن الصراع الضمني الدائر بين الإدارة المصرية والإدارة السورية، وهو صراع حول التحكم في مرافق الدولة المتحدة.
رغم أن وزارتي الثقافة والإرشاد القومي المصرية والسورية تشكلا جزئين من نفس الجهاز الثقافي في حكومة الوحدة نظريا. إلا أن التباين المادي بينهما يضع وزيرا مثل ثروت عكاشة في محل القوة واتخاذ القرار الأخير بالنسبة لنظيره السوري. يُظهر عكاشة في جوابه حسن نية تامة بخصوص التعاون بين الإقليمين، ولكنه يتحدث بنبرة من الشفقة والتعاطف مع زملائه السوريين لا تأتي إلا من تعالي ضمني على إمكانياتهم الإدارية والثقافية. بما أن الوزارة المصرية تتمتع بالقدر الأكبر من الموارد المادية والفنية والبشرية. فهي التي تحل محل الأخ الكبير الذي يعطي العيدية إلى أخيه الصغير، ولاشك أن هذا التعالي أدى – بين أسباب أخرى – إلى انفصال الإقليمين في نهاية المطاف.
**
يستوقفني في هذه الوثيقة تعبير “ضرورة التنسيق”، وهو تعبير يبدو عابرا ومنطقيا في سياق جواب يتحدث عن تعاون وزارتي الإقليمين. إلا أن دلالته البيروقراطية الفعلية أعمق بكثير في تاريخ الدولة المصرية الحديثة. عندما يعرب ثروت عكاشة عن توجيهات الرئيس جمال عبدالناصر بخصوص التنسيق بين إدارات الإقليمين، إنه يبرز لنا ضمنياً الوضع المعتاد داخل دهاليز الدولة وهو وضع من عدم التنسيق العام. لا أعني هنا أن الدولة مُفككة ومُشتتة بشكل فوضوي كما يزعم حديث المقاهي والموظفين المتشائمين. وإنما أعني أن العمل الإداري العمودي – أي العمل التراتبي بين الوزير ومديري الإدارات والموظفين مثلاً – يتميز بدرجة أعلى بكثير من التناسق الداخلي عن العمل الإداري الأفقي – أي التعاون بين وزارة وأخرى، أو التعاون بين إدارات عامة داخل نفس الوزارة مثلا. ويزداد إجراء التنسيق تعقيدا حينما يضطر إلى عبور الصحاري والجبال بين مصر وسوريا. في ظل غياب آليات إدارية روتينية للتنسيق،لا يحدث التنسيق إلا عبر اجتماعات القمة التي يوجهها الرئيس ووزرائه.
يوثق خطاب عكاشة للحظة ناجحة نسبيا من العمل الثقافي المشترك، ولكنه كما يؤكد للرئيس. قد لا يحدث هذا العمل أساسا دون توجيهاته المباشرة حول ضرورة التنسيق. بمعنى آخر، لا يحدث تنسيقا في دولة يوليو إلا إذا كان ضروريا بحسب أقطابها – الرئيس في المقام الأول ثم وزرائه ومديريه العموم وموظفيه. يثير هذا الوضع عدة تساؤلات حول العمل الإداري اليومي بين وزارات الوحدة: أولاً، هل كانت هناك آليات أخرى للتنسيق بين وزارتي الثقافة والإرشاد القومي بخلاف اجتماع الوزيرين بعضهما ببعض؟ وفي حال عدم وجود آليات للتنسيق. كيف كانت تتواصل إدارات الجمهورية العربية المتحدة بعضها ببعض عبر الحدود الإقليمية؟ وهل كان للأدباء والفنانين والمثقفين المصريين والسوريين دور فعال في إحداث وحدة ثقافية رسمية بين الإقليمين. أو بمعنى آخر، هل كانت تمثل تحركاتهم آلية بديلة للتنسيق الحكومي؟
اقرأ أيضا:
«أرشيف بيكيا»: «أرفعُ هذا التقرير» من ثروت عكاشة إلى جمال عبدالناصر