أحمد عدوية: مارد الأغنية، مارق الطبقة

كان عدوية رائدا بمعنيين: الأول، لأنه مثَل ظهورا لصوت شعبي لم يكن له مثيل في إغراقه في الشعبية، وقتما لمع نجمه منذ حوالي خمسين عاما في مطلع سبعينات القرن العشرين؛ ولأنه تربع على عرش المبيعات الموسيقية بفضل حصته الهائلة من سوق الكاسيت، لا من عدد ساعات الحضور على شاشات السينما والتلفزيون وانعكاسها على مبيعات تذاكر الحفلات.

في زمن صعود الفنان أحمد عدوية، كانت المبيعات الموسيقية مرتبطة بالأساس بمنظومة الحفلات في المسارح المغلقة والمفتوحة، والظهور في الإذاعة والتلفزيون والسينما، دون حساب لما كان وقتها مجالا جديدا، خاصا لا عاما مرتبطا بمؤسسات الدولة، وهو سوق الكاسيت.

***

كان أحمد عدوية أيضا رائدا بمعنى ثانٍ، وهو أن الكلمات التي غنَاها -وإلى حد ما بعض خصائص الموسيقى التي “حملت” أغانيه- أعتبرها سلفا لأشكال موسيقية لها شعبيتها الجارفة اليوم في الطبقات الشعبية والوسطى معاً، لاسيما بين شرائح عمرية شابة نسبياً (تحت سن الخمسين، أي بين من وُلِدوا مع ميلاد نجومية عدوية). موسيقى الراب، والتكنو شعبي، والمهرجانات، قد نختلف أو نتفق على كونها سليلة الموسيقى التي ارتبطت بعدوية.

لكن لا أظن أننا نختلف حول ما أطرحه من أن أغاني عدوية -مثلا تلك التي كتبها الشاعر الريس بيرة- تعتبر كلماتها أحد الأسلاف المباشرين لكلمات أغاني المهرجانات. مَن مِن جيلي وأكبر قليلا ينسى الأغنية التي كتبها الريس بيرة، عام 1969 فيما يبدو. والتي ارتبطت بصوت عدوية: “السح الدح إمبو/ إدي الواد لأبوه“؟ بيت في منتهى البساطة يكاد يكون نثرا لولا أنه يلتزم الوزن، بإيقاع سريع، وشطرات قصيرة، كأنه كلمات راب، وبحس شعبي غير قريب من معجم الطبقة الوسطى المدينية، مثل كلمات أغاني المهرجانات.

مارد الأغنية، مارق الطبقة

على المستوى الاجتماعي، فظهور عدوية يمثل صعود صوت شعبي من خارج المؤسسة الرسمية لإنتاج الموسيقى والترفيه. أي من خارج دوائر الإذاعة والتلفزيون والذائقة التي مثلها تحالف عبد الوهاب وعبد الحليم، الذين كانا يتعاونان فنياً وإنتاجياً وصبغا السوق المصرية والعربية بذائقتهما كمعيار للجودة والتميز. يلاحظ الناقد الثقافي المدقق محمود هدهود في منشوره على فيسبوك يوم 30 ديسمبر 2024، أن عدوية كان من فناني “الشغيلة المصريين” -أي بعبارتي- أنه يمثل صوت الشغيلة والطبقة العاملة المصرية في عصره.

عندما ظهر أحمد عدوية في سبعينات القرن العشرين، سرعان ما صار نجما يسعى منتجو الأفلام التجارية إلى تقديمه في “فقرة” يغني فيها في مشهد أو اثنين، كثيراً ما كان مشهد فرح أو احتفال ما. وعادة ما كان عدوية في السينما يمثل صوتاً شعبياً غريباً على السائد في الثقافة “المعتمدة” منذ الخمسينات. أي مختلفا عن الشعبية “المدجنة” و”المهذبة” و”الملمعة” في إطار ثقافة تلفزيون وإذاعة الستينات. مثلما في أغاني محمد رشدي ومحمد طه. كان الطعم الشعبي لأغاني عدوية من حيث جماليات الغناء وبساطة الألحان. ومن حيث مخالفة الكلمات للسائد في الثقافة الشعبية في “عبواتها” الرسمية، طعما “غفلاً” ونقيا بهذا المعنى.

خرج عدوية على مؤسسة الغناء الاقتصادية على صعيدين: من الناحية الطبقية، ومن ناحية نموذج دفع الأعمال في السوق. فشعبيته صنعها سوق الكاسيت، بينما شعبية مغني مثل عبد الحليم حافظ صنعها دعم الإذاعة والتلفزيون والجماهيرية السينمائية. أي أن عدوية قد جاء على أسنة الكاسيتات. بينما جاء عبد الحليم  على أسنة الشاشات: وسائط مختلفة، تقنيات مختلفة، نموذج تسويقي مختلف، هذا ما يميز عدوية. وإن كان بالطبع قد تم استيعابه سريعا في المؤسسات المعتمدة. كما تفعل الرأسمالية دوماً، فسرعان ما صار عدوية ممثلا سينمائيا رغم افتقاره لموهبة التمثيل.

***

إن ظهور عدوية من خلال شركة كاسيت “صوت الحب” للمنتج عاطف منتصر، تعتبر نوعا من الدخول في مسار اقتصادي لم يكن قد “تمأسس” بعد في مطلع السبعينات. وتعتبر نوعا من المرور من الهامش إلى هامش المؤسسات المعتمدة، فسرعان ما صارت شركات الكاسيت الكبرى، ومنها “صوت الحب” مؤسسات هائلة، بحلول نهاية السبعينات. لكن يظل ارتباط عدوية بثورة الكاسيت كأداة غيرت توزيع المنتجات الصوتية يمثل علامة في تاريخنا الثقافي. يؤكد تلك الفكرة ملاحظة الناقد الثقافي المهم علي العدوي في منشوره يوم 30 ديسمبر 2024 على منصة فيسبوك: “تكنولوجيا الكاسيت خلقت أساطير الخوميني والشيخ كشك والشيخ إمام وعدوية بنفس القدر”.

كذلك صار عدوية عند نخبة المثقفين والفنانين علامة على انحطاط عصر الانفتاح الساداتي الذي بدأ منذ منتصف السبعينات، والذي واكبه صعود صوت المغني الفذ. أقوى نموذج لذلك التصور لدور عدوية الثقافي كان في فيلم “أنياب” من إخراج محمد شبل وإنتاج يوسف شاهين عام 1981. كان فيلم “أنياب” اقتباسا معاصرا ممصرا لقصة دراكولا، وكان فيلما غنائيا يضع علي الحجار وأحمد عدوية على طرفي نقيض: مصاص الدماء عدوية الذي يظهر في صورة سباك أو سائق تاكسي مستغل، في مقابل علي الحجار الشاب الواعد المتعلم.

كان عصر الانفتاح لم يزل يحمل نظرة الطبقة الوسطى الخارجة من التعليم الحكومي باعتبارها صاحبة القيم والممارسات “المقبولة” والمعيارية في المجتمع. بينما كان هناك استهزاء مبطن أو معلن بمهن حرفية، مثل السباكة وقيادة التاكسي. لذلك كان عدوية بحكم طبقته، وبحكم تعبيره عن ذائقة الطبقات الشعبية خارج “الفلتر” المؤسسي للتلفزيون. يمثل “المارق” طبقيا وثقافيا وموسيقيا على الطبقة الوسطى ناصرية المنشأ. وفي فيلم “أنياب” كان غناء عدوية -مثلا في أغنية “جهرشة”- يمثل نقيض غناء علي الحجار على ألحان مودي الإمام، في أغنية مثل “بنبص لقدام”. صوت شعبي غفل لكن قوي وسليم يصدح به عدوية. في مقابل صوت مصقول حنون يؤدي ألحانا بمسحة غربية وتحديدا بروح تحمل مزيجا من المذاق الشرقي عبد الوهابي وموسيقى الجاز الأمريكية، يغني به علي الحجار.

عدوية ونخبة من الممثلين
عدوية ونخبة من الممثلين
شعرية السح الدح إمبو

وقت ظهوره بقوة في الربع الأخير من القرن الماضي، كان عدوية كمطرب يمثل عصرا جديدا في الأغنية، بل ويتضح لنا اليوم أنه كان سابقا عصره بعقود. اليوم تسود موسيقى المهرجانات. وهي من حيث الكلمات والتيمات سليلة شعرية أغاني عدوية ونسخة مبتذلة منها. مع كل الاحترام لشعرية أغاني المهرجانات التي صار لها نفس بريق الراب والسلام والآر إن بي في الموسيقى الدارجة الأمريكية. ربما نتفق أو نختلف على علاقة الأبوة الموسيقية بين ألحان عدوية وأدائه وبين أغاني المهرجانات بأنواعها اليوم. لكن من حيث شعرية الكلمات والمجازات والمفردات لا شك عندي في أن خطًا يمتد من عدوية إلى مهرجانات اليوم.

عندما يغني عدوية للشاعر حسن أبو عتمان أغنية “كركشنجي دبح كبشه” بجناساتها المتتالية في مساحة حروفية وموسيقية قصيرة. فهو يفعل جماليات تتراسل مع جماليات سيد حجاب من ناحية (استخدام الجناس بكثرة في جمل قصيرة أو في الجملة الواحدة). ومن ناحية أخرى، تعلن عن جماليات تنتشر اليوم في أغاني المهرجانات وفي الراب والسلام المصريين.

في تلك الأغنية، يتواتر حرفا الكاف والشين بحيث يمثلان خمسة من أربعة عشر حرفا في جملة واحدة هي “كركشنجي دبح كبشه”. ويخلقان حالة موسيقية مع النواة الموسيقية لصوت “كش” الذي يستدعي كلمة وصورة “الكرش”. وكذلك “كش” بمعنى الهجوم كما في كش ملك، أو كش بمعنى كشر عن أنيابه. فتحضرنا بشكل لا واعٍ صورة بدانة الكبش وصورة المعركة اللازمة لعملية الذبح.

***

هذه الحيلة الموسيقية موجودة في واحدة من أولى الأغاني التي أطلقت شهرة أحمد عدوية: “السح الدح إمبو” للشاعر الريس بيرة. والتي يبدو أنها أنتجت عام 1969، ولكنها على كل حال قد اشتهرت في مطلع السبعينات. فنرى تواتر صوت الحاء وصوت “أوه” في أمبو. وفي نهاية الشطرة المكملة للبيت: “إدي الواد لأبوه” بين عدد قليل من الحروف تشكل شطرتين قصيرتين. هنا مشهد يومي وكأننا بإزاء إرهاصات بقصيدة تفاصيل يومية، أو قصيدة نثر: طفل يبكي وأب يراد له أن يحمله ليهدئه. لتهدئة الطفل، يستخدم الصوت الشاعر تعبير “الدح” ذا الأصول المصرية القديمة على الأرجح، والذي يعني شيئا طيبا أو حلوا. وربما كان الطفل ظمآنا، فيقال له “إمبو”، وهي كلمة مصرية قديمة بمعنى الماء أو طلب الشرب. ولم تزل كلمة “إمبو” تستخدم إلى اليوم في العامية المصرية، لاسيما في الطبقات الشعبية أو تلك التي لم تنس أصولها الريفية أو الصعيدية.

بهذا، يستخدم عدوية جماليات ذات أصل شعبي، وهي الجناس المفرط، وكذلك كلمات لم تزل حية قادمة من المصرية القديمة. وكل هذا في مشهد عن طفل يبكي وينصح الصوت المغني أن يسلم الطفل إلى أبيه لعله يهدأ. أي في مشهد يومي تفاصيلي خليق بقصيدة نثر، في لحظة كان شعر السبعينات في المشهد الأدبي والفني هو الصوت العالي بمجازاته الكثيفة ومعجمه المعقد وإحالاته الثقافية المتفذلكة.

لهذا وغيره كان عدوية حاملاً للحظة فورة وثورة طبقية وفنية، وأدبية وموسيقية في زمنه. ولهذا أراه قد سبق عصره واستشرف، بمعنى ما، عصرنا الذي تتمتع فيه موسيقى المهرجانات والراب باهتمام قطاعات عديدة من طبقات عديدة لا تقتصر على الطبقات الشعبية.

اقرأ أيضا:

ملف| «عدوية».. صوت القاهرة في زمن التحولات

التغني بتركة «عدوية» بين تبني الصوت الشعبي ورجم الثقافة؟!

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر