«أحمد بهاء الدين».. سنوات التغيير في الكويت

في مطلع الخمسينيات كان تعليم الفتيات في الكويت مقتصرا على المرحلة الابتدائية فقط. وبعد ذلك فتح في إحدى المدارس فصلان ثانويان، وعندما ازداد عدد البنات الراغبات في التعلم افتتحت لأول مرة مدرسة ثانوية للبنات. وقتها كان مجتمع الكويت لا يزال في بداياته وحتى عام 1956 كانت في الكويت مدرسة ثانوية واحدة للبنات. كانت خريجات الدفعة الأولى للمدرسة سبع طالبات فقط. وهنا بدأت المشكلة، لم يكن في الكويت جامعات، فقررت دائرة المعارف في الكويت- وهي الهيئة التي تمثل وزارة التربية والتعليم – إرسال الفتيات إلى القاهرة ليلتحقن بالجامعة. وجاءت أول بعثة من الكويتيات إلى جامعة القاهرة في عام 1956.

صباح الخير تجري حوارا مع الطالبات السبع

وقتها كان أحمد بهاء الدين يعمل رئيسًا لتحرير مجلة “صباح الخير” والتي كانت وليدة لم يتجاوز عمرها بضع شهور. أرسل بهاء ليجري حوارا مع الفتيات السبع وكانت الحوارات تتسم بالجرأة ونقد مجتمع الكويت المنغلق. فقالت إحدى الطالبات وتدعى “ليلى محمد حسين”: “لما جاء الخطاب من دائرة المعارف لأختار البلد التي أريد التعلم في جامعتها وافق أبي. ولكن جمعية الإرشاد الإسلامية في الكويت كانت العثرة في طريق علمنا. وكان الأعضاء يرسلون الخطابات لأولياء أمورنا ليمنعونا من السفر لمصر وكانوا يكتبون أن السفر إلى مصر حرام لأننا سنسير سافرات وسنختلط بالطلبة في الجامعة. وبالرغم من رفضهم حضرنا وتقدمت لكلية الآداب”.

وقالت طالبة تدعى “نورة مبارك الفلاح”: “التحقت بقسم الاجتماع لأني أنوي بحث الحالة الاجتماعية في الكويت وبالخصوص حالة المرأة. فأول شيء مشكلة الحجاب التي أريد أن أقضي عليها. ومشكلة الزواج فقهم يخطبون للبنت ويزوجونها دون أن يعبئوا برفضها أو قبولها ولا ترى زوجها إلا ليلة الزفاف”.

أثار هذا التحقيق ضجة كبيرة في الكويت لما به من آراء كانت تبدو متحررة وقتها بالنسبة لمجتمع منغلق كالكويت. وقبل هذا التحقيق بأسابيع نشرت مجلة “صباح الخير” أيضا خبرا عن فتيات مصريات يعملن في الكويت وقررن أن يسرن دون حجاب. فكانت ضجة في الكويت، وكان أن اقتدت بهن بعض الفتيات الكويتيات. ويومها تلقى أحمد بهاء الدين من الكويت خطابات عنيفة. فريق منها يقول إن الفتيات في الكويت يخرجن بلا حجاب قبل وصول أي مصرية إلى هناك. وفريق ينفي أن الفتيات الكويتيات قررن أن يسرن دون حجاب كالمصريات. وكانت هذه التحقيقات هي أول صلة أحمد بهاء الدين بالكويت بل أول صلة المجتمع المصري بالكويت.

بنات الكويت في مصر
بنات الكويت في مصر
الزيارة الأولى للكويت

في إبريل 1957، وبعد نشر حوار طالبات الكويت بعدة أشهر، تلقى بهاء دعوة لزيارة الكويت موجهة من لجنة الأندية. وكان النشاط العام في الكويت وقتها يتبلور في شكل أندية سياسية وثقافية واجتماعية. ولهذه الأندية لجنة عليا تسمى “لجنة الأندية”. عندما هبطت به الطائرة إلى مطار الكويت كان في انتظاره مندوبون من لجنة الأندية الكويتية. وانطلقت به السيارة إلى قلب المدينة، كان إحساسه الأول أنها مدينة ضربت بالقنابل. إذ أن عمليات الهدم فيها كثيرة جدا، والمباني الحديثة في قلب المدينة ليست كثيرة ولكن الشوارع كانت حديثة وعريضة.

ولم يكن بالمدينة فنادق جيدة وقتها، ولذلك نزل بهاء في بيت ضيافة يطل على الخليج العربي مباشرة والمشرفة على البيت كانت إنجليزية والخدم جميعهم هنود. استغرب بهاء من أن جميعهم ينادونه بحضرة الباشمهندس. وعندما سأل عن السبب عرف أن معظم نزلاء بيت الضيافة كانوا مهندسين وفنيين لأن الكويت وقتها كانت في مرحلة بناء وتعمير.

ومنذ اللحظة الأولى لوصول بهاء إلى بيت الضيافة، بدأت الزيارات تتوالى عليه من أبناء الكويت. وقد أصابته الدهشة عندما وجد كل التيارات السياسية وكل ألوان الوعي موجودة. قوميون عرب وبعثيون وشيوعيون وإخوان مسلمون. وكل التيارات السياسية التي يعرفها العالم العربي وجد لها هناك من يمثلها ويؤمن بها.

ألقى بهاء الدين عدة محاضرات في الكويت، والتقى برجال كبار في السن قالوا له إنهم في سنوات 1924 و1925 عاشوا أحداث مصر بعقولهم وقلوبهم. حتى كان بينهم أنصار لسعد زغلول وأنصار لعدلي يكن. وقد لفت انتباهه أيضًا أن الصحف والمجلات المصرية هناك توزع أرقاما ضخمة بالنسبة لعدد سكان الكويت وقتها. والتقى هناك بالشيخ جابر الأحمد الصباح، حاكم منطقة الأحمدي وقتئذ وحاكم الكويت الأشهر لاحقا، والذي عاصر غزو العراق عام 1990. وقابل أيضا الشيخ صباح الأحمد وعبدالله الجابر، الذي كان من أشهر أمراء الكويت في مصر بسبب امتلاكه برج سكني كبير على النيل.

أسبوع في الكويت
أسبوع في الكويت
بهاء يكتب عن الكويت لأول مرة

استمرت رحلة بهاء إلى الكويت مدة أسبوع، عاد وكتب مقالين في مجلة “صباح الخير” عن تلك الزيارة. وكانت مقالات بهاء عن الكويت تعتبر التعريف الأول للقارئ المصري بهذا المجتمع وهذه البلدة الصغيرة. وتحدث عن أوضاع المرأة هناك قائلا: “عندما سافرت إلى الكويت قالوا لي قبل أن أذهب إن الحجاب هناك مضروب على كل النساء. وأنك إذا رأيت امرأة واقفة في الطريق فلن تعرف وجهها من ظهرها بسبب العباءة السوداء التي تغطيها تماما وتجعلها أشبه بهرم متنقل”.

ويحكي أيضا أنه كان يتمشى ذات مساء في شوارع المدينة فوجد أمام محل لبيع المثلجات ثلاث نساء يجلسن على مقاعد ويأكلن الجيلاتي. كن يحاولن أكل الجيلاتي دون أن يرفعن الحجاب، بإدخال الملعقة بصعوبة بالغة إلى الفم تحت الحجاب. وفي نفس الجولة توقف عند بعض الفاتيرنات فوجدها تعرض أحدث الأزياء النسائية من فساتين السهرة العارية. فسأل مرافقه، فضحك مرافقه وقال له إن بعض المدرسات الكويتيات قررن أن ينظمن مقابله خاصة ببهاء كي يعرف المرأة الكويتية على حقيقتها.

وبالفعل تمت المقابلة في بيت مدرس كويتي، زوجته مدرسة أيضا. وكان معها بعض المدرسات يلبسن أحدث خطوط الموضة، وعلى الشماعة الموجودة بجوار باب الخروج كانت هناك عباءات سوداء بعدد الحاضرات.

وفي نهاية تحقيقات بهاء عن الكويت، كتب أن الكويت بحاجة إلى صحافة محلية ومطبوعات ثقافية محلية وفنون، فكل هذه الأشياء لابد منها. وهي الأمنية التي تحققت بعد عام واحد من زيارة بهاء الأولى للكويت. حيث تأسست مجلة العربي في ديسمبر 1958 لتصبح واحدة من أهم المجلات الثقافية، ويشاء القدر أن يصبح بهاء هو واحد من أهم رؤساء تحريرها بعد ذلك بسنوات.

يوم حزين لكل العرب
يوم حزين لكل العرب
يوم حزين لكل العرب

في يوم 19يونيو 1961 قام الشيخ عبدالله السالم الصباح بإلغاء اتفاقية الحماية مع بريطانيا، وحصلت الكويت على استقلالها. ولكن بعد عدة أيام، عقد الرئيس العراقي عبدالكريم قاسم، مؤتمرا صحفيا يطالب فيه بضم الكويت للعراق. وأثار الدعاوي القديمة بأن الكويت جزء من العراق فصلها الاستعمار البريطاني.

وفي اليوم التالي 27 يونيو أذاع جمال عبدالناصر بيانا رسميا جاء فيه: “أننا نؤيد منطق الوحدة ولا نؤيد منطق الضم”. وعندما لم يستجب قاسم لكل الدعوات والمناشدات. عاد الاستعمار البريطاني مرة أخرى، وقامت بعملية إنزال لـ750 جنديا و12 طائرة و14 دبابة وظهرت مانشيتات الصحف المصرية بعنوان عريض يقول” يوم حزين لكل العرب”.

كتب هيكل مقال بصراحة بشكل استثنائي بعنوان” السويس بالمقلوب”، جاء فيه: “من حق كل عربي اليوم أن يتوجه بالسؤال إلى اللواء عبدالكريم قاسم. يقول له: ما الذي فعلته بنا؟ ما الذي فعلته بالأمة العربية؟ لقد انتهى بنا كل الذي فعله قاسم هذا الأسبوع إلى سويس أخرى ولكنها سويس بالمقلوب. كانت السويس الحقيقية رمزا لاستخلاص الحق العربي ورمزا للكفاح في سبيل هذا الحل. ثم جاءت السويس الجديدة، سويس قاسم .. الكويت”. وهكذا عاد الاستعمار البريطاني إلى قطعة من الوطن العربي، ولم يكن قد قضى على رحيله غير بضعة أيام.

***

ولم يكن أحمد بهاء الدين بعيدا عن الأحداث، فقد كتب سلسلة من المقالات ينتقد فيها ما فعله عبدالكريم قاسم. وبعقلانية شديدة يكتب في نافذته الأسبوعية “هذه الدنيا” مقالا بعنوان: “أزمة الكويت والعراق وثمانين مليون عربي”، جاء فيه: “لا شك أن هناك شيئا يسمى مصلحة الكويت، ولا شك هناك شيئا يسمى مصلحة العراق تماما. كما أن هناك أشياء تسمى مصلحة الجمهورية العربية المتحدة، ولكن لا شك أيضا أن هناك شيئا اسمه المصلحة العربية العليا”.

ثم يبدأ بهاء في مقاله تحليل الموقف، قائلا إن المطلب الرئيسي هو انسحاب القوات البريطانية من الخليج والحيلولة دون وقوع حرب أهلية. وإذا تبين أن الإنجليز يهدفون إلى إطالة بقائهم، فإن المطلوب في الدرجة الأولى هو إقناع العالم كله والرأي العام العربي بأن وجود القوات البريطانية لا مبرر له.

ثم كتب بهاء مقالا ثانيا بعنوان: “جانب جديد من جوانب المشكلة التي أثارها عبدالكريم قاسم”. إذ يشير إلى أن ما فعله قاسم سيجعل الدول الاستعمارية تتخذ حجة ومبررا لبقائها في المنطقة بدافع حماية دول الخليج من نفوذ الدول الكبرى التي تهددهم. وهو ما حدث بالفعل عام 1990، ولكن وقتها بهاء كان غائبا محاصرا بنزيف المخ.

بهاء يعود للكويت مرة أخرى

في ديسمبر 1958، صدرت مجلة “العربي” الكويتية تحت رئاسة تحرير الدكتور أحمد زكي. وعندما اختلف بهاء مع السادات، وجد أنه لابد أن يترك مصر حتى لا يتأزم الموقف أكثر مع الرئيس. عاد مرة أخرى للكويت عام 1976، بعد ما يقرب من عشرين عامًا من زيارته الأولى، ليترأس تحرير مجلة “العربي”، والتي كانت إحدى أهم أمانيه للمجتمع الكويتي أن تصبح لديهم مجلة ثقافية. ولا شك وقتها أن المجتمع كان قد تغير كثيرا عما كان عليه في عام 1957 وقت زيارته الأولى. ظل بهاء رئيسا لتحرير “العربي” من 1976 حتى عام 1982. واتسمت المجلة في عهده باتساع مساحة الكتابة السياسية. عاش بهاء في الكويت ست سنوات استطاع خلالها أن يكون محورا لندوات أدبية وفكرية. وكان منزله هناك ساحة لتلك الندوات والجلسات.

عندما عاد إلى مصر في يناير ،1982 بدأ بكتابة عموده الشهير “يوميات” في الأهرام، بالإضافة إلى رئاسته لتحرير “العربي” لفترة استمرت عدة أشهر. ليترك آخر تجاربه مع الكويت في يوليو 1982. وفي يوم 23 فبراير 1990، تعرض لنزيف في المخ، وكان ذلك التاريخ هو آخر ظهور لأحمد بهاء الدين في الصحافة.

وفي اليوم التالي نشرت صحيفة الأهرام في الصفحة الأخيرة خبرا يقول: “تعرض الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين لوعكة صحية نقل على أثرها مساء أمس الأول إلى مستشفى القاهرة التخصصي. والأهرام يعتذر لقرائه في مصر والعالم العربي عن غياب عمود اليوميات للكاتب الكبير حتى يتماثل في الشفاء”.

خبر تعرض أحمد بهاء الدين لوعكة صحية
خبر تعرض أحمد بهاء الدين لوعكة صحية
***

وعادت أزمة الكويت من جديد بعد سقوط بهاء صريع المرض بستة أشهر. ولم يكتب بهاء هذه المرة كما كتب في أزمة 1961. ولكن تحليلاته كانت حاضرة ومخاوفه تحققت كما كتب عنها في “أخبار اليوم” أثناء الأزمة الأولى. كان اختفاؤه عن أزمة الكويت الثانية برغم ارتباطه الوثيق بهذه البلد من عام 1957، منذ عرًف القارئ المصري بها للمرة الأولى. وبعد ذلك جعل القارئ المصري والعربي ينتظر مجلة “العربي” شهرا بعد شهر، مؤلما، للمثقفين العرب. حتى أن بعض القراء ظنوا أن بهاء وقع صريع المرض نتيجة الأزمة. وهي معلومة غير صحيحة، رغم أنه لو حضرها ربما كان سيحدث له ما هو أسوأ.

وهو ما دعا الأستاذ هيكل إلى أن يكتب: “اعترف أنني طوال أزمة وحرب الخليج لم افتقد رأيا كما افتقدت رأي أحمد بهاء الدين. وفي وسط الطوفان العارم الذي ساح فيه الحبر على الورق أكثر مما ساح من الدم في ميادين القتال. كانت كلمة أحمد بهاء الدين كانت هي الشعاع الوحيد الغائب في وهج النار والحريق.

كان الكل حاضرين، وكان وحده البعيد مع أنه كان الأقرب إلى الحقيقة والأكثر قدرة على النفاذ إلى جوهرها وصميمها. ولم يكن ابتعاده الاضطراري مجرد خسارة للعقل المتوازن في أزمة جامحة. ولكن الخسارة أكبر لأن معرفته ببؤرة الصراع كانت أدق وأعمق، بحكم أنه قضى خمس سنوات من عمره مهاجرا بعمله وقلمه للكويت. ومن هناك أطل على الخليج كله ورأى ودرس وفهم بعمق كما هي عادته”.

اقرأ أيضا:

عندما أنقذ أحمد بهاء الدين «صلاح جاهين» من السجن

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر