«أحمد بهاء الدين»: سيرة عن الأم والزوجة والابنة

في عام 1955، سافر أحمد بهاء الدين إلى روسيا وبدأ في نفس العام في نشر حلقات كتابه «شهر في روسيا» بمجلة روزاليوسف، وفي مقدمة الكتاب كتب بهاء: “إهداء إلى نورية إسماعيلوفا، التي رأيتها في طشقند في تلك البلاد التي خرج منها التتار يوما لينشروا الدمار في العالم، هي صحفية شابة وصورة من الجمال في أوزبكستان، القد الصغير، والوجه الأسمر المستدير، والعيون الوادعة، وغمازتان تضيئان في خديها إذا ضحكت، وبدت في ثغرها سنة من الذهب”.

ثم يتابع: “عندما وقفنا نتصافح مودعين، فتشنا في جيوبنا عن تذكارات نتبادلها فلم نجد. اقترحت نورية أن تكتب لي كلمة “سلام” بلغتها وتوقع عليها، وأن أكتب لها كلمة “سلام” بلغتي وأوقع عليها، وأن نتبادل الكلمتين. وكانت هذه البطاقة أجمل ما عدت به من الرحلة من تذكارات”.

بهاء والمرأة

وفي عام 1961، أجرت مجلة الجيل حوارا مع أحمد بهاء الدين بعنوان “بهاء من غير سياسة”. كان الحوار عن علاقة بهاء بالمرأة ورأيه فيها، وقد تطرق الحوار إلى ” نورية إسماعيلوفا” التي كتب إليها بهاء إهداء كتابه “شهر في روسيا”. فقد أحس القراء أن هناك شيئا ما بين بهاء ونورية، وأجاب بهاء: “إذا كنت تقصد أنه كانت بيننا علاقة غرامية، فهذا غير صحيح. المشكلة هي أن الكاتب أو الصحفي، إذا كتب عن فتاة التقى بها في أي مكان، يظن الناس أنه كانت هناك علاقة غرامية بين الاثنين، وهذا بالطبع غير صحيح.

يرجع هذا الاستنتاج الخاطئ إلى سببين: الأول، أن كثير من الناس لم يتطوروا تطورا اجتماعيا كافيا بحيث يتصورون أنه من المستحيل قيام صداقة عميقة بين رجل وامرأة دون أن تكون لهذه الصداقة صلة بالعلاقات الغرامية. والسبب الثاني هو صحافتنا التي عرفت في كثير من الأوقات بكتابة المغامرات، والصحفي “الدون جوان” الذي يوهم القراء أن أي امرأة لا تصمد لمقاومته، سواء كانت هذه المرأة المسكينة في لندن أو باريس أو هونج كونج”.

الإهداء
الإهداء

وعندما سئل بهاء عن المرأة التي تعجبه، أجاب: “تعجبني المرأة ذات الجمال الهادئ، لا الصارخ. فأنا لا تعجبني المرأة التي يلفت جمالها النظر لأول وهلة بأشياء صارخة، مثل لون فاقع للشعر أو فم بارز كبير أو أي صفة أخرى مبالغ فيها. أنا تعجبني المرأة التي اكتشف جمالها كلما تأملت فيها. وذوقي يفضل المرأة الصغيرة الحجم، التي تكون أشبه بتمثال دقيق الصنع لا بتماثيل الميادين، وأعجب بالمرأة الذكية بشرط واحد، ألا تحاول إثبات ذكائها في كل دقيقة”.

بخلاف قصص الحب المتخيلة في حياة بهاء، هناك العديد من النساء في حياته، كتب عنهن أو أدلى بآراء حولهن في حواراته، وهذه الآراء تصلح دستورا للتعامل في الحياة.

الابنة

في عام 1957، وقبل أن يتزوج بهاء بعدة سنوات، كتب خطابا متخيلا إلى ابنته وتخيل أنها في السادسة عشرة من عمرها، وهو العمر الذي تبدأ فيه مرحلة الشباب والاتصال المباشر بالحياة.

كتب خطابا طويلا على مساحة صفحتين كاملتين، وكان الخطاب يعكس أفكار بهاء المستقبلية في تعامله مع أبنائه القادمين. يقول بهاء إلى ابنته المتخيلة:

“عزيزتي، عندما وصلت مكتبي وجدتني أزيح كل أوراقي جانبا لأكتب لك هذا الخطاب. أنني منذ سنوات أكتب لكل الناس، أكتب عن القضايا التي تخص الملايين ولكنني شعرت اللحظة بالحاجة إلى أن أكتب عن شيء خاص بي وإنسان خاص بي هو أنتِ. هل أعتذر لك عن سلوكي معك؟ لقد تعودت أن تريني دائما إنسانا مشغولا أغلب الوقت. تذهبين إلى مدرستك في الصباح وأنا مازلت في فراشي أقرأ الصحف، متجهما أتأمل أحداث العالم، فلا نتبادل سوى تحية سريعة.

أعود من عملي في الليل وأنت نائمة بعد أن انتهى يومك. ساعة الغذاء فقط كنا نلتقي فيها فأسألك أسئلة عابرة أو تسأليني، وأحيانا ألتهم طعامي مسرعا مطرقا لأذهب إلى موعد هام. ولست أدري سبب تقصيري هذا بالضبط. أهو طبيعة عملي الذي يتابع هموم العالم أينما ظهرت؟ أم هي طبيعيتي الشخصية العاجزة عن تنظيم أوقات للعمل وأوقات للراحة؟ أم هو اعتمادي الكامل وثقتي المطلقة في أمك، الملاك التي تدير حياتي وحياتك منذ ستة عشر سنة في بشر وشغف وأمان؟”.

***

وفي موضع آخر من الخطاب يقول: “كنت دائما أكره أن أكون أبا لا عمل له إلا أن يصدر الأوامر والتحذيرات ويلقي المواعظ والحكم. وكنت أكره أن أكون أبا يختار لابنته نوع مستقبلها ويفرض شخصيته أكثر مما يجب عليها، مفضلا أن تختاري أنت حياتك كما تشتهين. ولم تكن حيرتك تخفى علي، كم لاحظت أنك أحيانا تقلدينني وتختلسين نظارتي وتفتحين كتابا ضخما وتقرئين وقد انعقد حاجباك في جد. وأحيانا تقلدين أمك في عنايتها بالبيت واهتمامها بالتفاصيل وقدرتها على تجميل كل شيء، وأحيانا ثالثة كنت تشعرين بزهو حين أكلفك بتنظيم أوراقي وتسألينني: لماذا لا تجعلني سكرتيرتك بدلا من السكرتيرة الخاصة التي تعمل معك؟”.

خطاب بهاء الدين لابنته عن الحب والزواج
خطاب بهاء الدين لابنته عن الحب والزواج

ثم يحدثها بهاء عن الحب والزواج فيكتب: “ثم.. لابد أن أحدثك عن الحب والزواج. وصراحة، أنت مازلت صغيرة على الحب. كانت سن السادسة عشرة سن النضوج أيام زمان، عندما كان نضج المرأة يعني أن تجيد الطهي والصبر على الزوج وخدمته، لكن نضج المرأة الآن هو أن تعثر على شخصيتها المستقلة، أن تخالط المجتمع المعقد وتفهم وتحس بدورها، أن تتثقف وتتربى وتتسلح بأسلحة  تذود بها عن استقلالها الحقيقي. فلا تتعجلي ولا تسبقي الأيام. لن ألومك لو علمت يوما أنك تحبين، ولن أشترط عليك إلا أن يكون حبك جادا غير مستهتر. وألا تتصرفي فيه كما تتصرفين في كل شيء طبقا للقيم والمبادئ التي نؤمن بها. سواء انتهى الحب بالزواج أم تعثر ولم يظفر بالنجاح، فإنك إذا خسرت الحب واحتفظت بمبادئك فكأنك لم تخسري شيئا كثيرا. أما إذا خسرت مبادئك فقد خسرت كل شيء ولم تكسبي الحب”.

رد الابنة

لم تكن ابنة بهاء وقتها قادرة على الرد على تلك الرسالة لأنها لم تكن قد جاءت إلى الحياة بعد. وتمر السنوات، ويتزوج أحمد بهاء الدين وينجب ابنة هي ليلى بهاء الدين، والتي كتبت له رسالة مؤثرة. ولم يكن هو بدوره قادرا على الرد لأنه كان قد رحل إلى العالم الآخر، تقول ليلى بهاء:

“أبي أحمد بهاء الدين، لن أبكيك لأنك علمتني لغة أخرى غير البكاء.

من قلب مكلوم أكتب إليك كلمات ما كنت أتمنى كتابتها. منذ أن دق جرس التليفون في منزلي بواشنطن في الخامسة من فجر السبت ليعلن خبر وفاتك، وأنا غارقة في حالة أحار في توصيفها. حزينة أنا على فراقك الذي لا أصدق حدوثه، ولولا أن محدثي كان أخي وحبيبي زياد، لما صدقت أن الحكماء يرحلون.

هكذا يرحلون في صمت دون صخب ولا ضجة. تعرف أن رحيلك الصامت هذا أشبه باحتجاج أخرس على ما يجري. صمت السنوات السبع الأخيرة من حياتك، لماذا صمت كل هذه الأيام؟ وبعد هذا كله ترحل أيضا. تعرف أن حالتي الآن أشبه بغريق لا يعرف للشاطئ طريقا. كان مبكرا أن ترحل وتتركني وحدي. صحيح أنك عودتني الاعتماد على النفس، ولكن ما معنى الحياة بدون بابا بهاء؟ لن أبكيك تعرف لماذا؟ لأنك علمتني لغة غير البكاء، لغة الفكر والتأمل والتدبير”.

وفي نهاية الرسالة تقول ليلى بهاء: “عندما سمعت بخبر موتك، تألقت في ذهني صورتك وأنت تزفني إلى زوجي، كل شوية تربت على كتفي وتقول: والله كبرتي يا ليلى.. نعم كبرت وأصبحت أما لبهاء الدين كما كنت ابنة لبهاء الدين وصديقة له”.

رسالة ابنتة بهاء الدين لوالدها
رسالة ابنتة بهاء الدين لوالدها
الزوجة

تحدث أحمد بهاء الدين عن زوجته وشريكة حياته السيدة “ديزي”، قائلا: “خرجت زوجتي من بيت أهلها ببلوزة وجونلة عليها فقط، فقد كان أهلها ضد زواجنا لاختلاف الدين، وهو سبب وجيه أفهمه جيدا. وهكذا كان علينا أن نواجه الحياة بقروش عملنا القليلة. لم يكن عملي قليلا، ففي الشهر نفسه الذي تزوجت فيه توليت أكبر منصب صحفي في مصر، رئاسة تحرير أخبار اليوم.

ولكن هذا لم يكن يترجم إلى رصيد مالي لدي. هكذا لم أكن قد تمكنت من الاستعداد لهذا الموقف إلا بشقة بالإيجار طبعا، من حجرة واحدة وصالة ومطبخ، لكنها كانت شقة جميلة في الدور الأخير من عمارة نظيفة تطل على حديقة واسعة. وبعد شهور، وعندما اقترب مولد ابنتي، بدأنا البحث عن شقة أكبر. وكنت في أمريكا حين عثرت زوجتي على شقة غالية، أربع حجرات وصالة.

يا للهول ماذا نفعل في هذا الملعب؟ قررنا أن نعيش بما لدينا، نقلنا ما لدينا من أثاث وتركنا باقي الشقة خالية، وعشنا في حجرة وصالة فقط، وقررنا أن نفرش الشقة الجديدة على مهل، وهي الشقة المزدحمة نفسها التي أعيش فيها حتى الآن منذ ثلاثين سنة”.

الأم

وعن أمه، يقول بهاء: “فقدت أمي وأنا في العاشرة، ولم تكن بالنسبة لي أما عادية. كنت ابنها الوحيد بين أخوات من البنات، وكأي امرأة شرقية في هذا الموقف، أفرغت كل حياتها وحنانها على الابن الوحيد. أحلامها وهمومها وقلقها وفرحها وعملها، كل هذا كاد يكون مقصورا علي. وكان من الطبيعي بعد ذلك أن تملأ كأس حياتي إلى حافتها، فلا يبقى فيها مكان لشيء آخر سواها، فهي التي تعد طعامي وتلبسني وتمشط لي شعري وتشرف على مذاكرتي وتصحبني إلى السينما. كانت تخاف علي إلى درجة جعلتها ترفض أن أخرج مع أصدقائي أو ألعب في الشارع أو في فناء البيت.

فمرت طفولتي ومر صباي دون أن أعرف ما يعرفه الأولاد من ركوب دراجات ولعبة الاستغماية وما إلى ذلك. كانت ألعابي كلها في البيت، أقص الصور التي تنشرها الصحف وأصنع مراكب وطائرات من الورق وأقرأ الروايات. فهذه كلها وجوه للتسلية واللعب أستطيع أن أمارسها في البيت وتحت رعايتها.

اللحظات الوحيدة التي كنت أفترق فيها عنها هي تلك التي كنت أقضيها في المدرسة. وكانت تحسب موعد خروجي منها بالدقائق التي يستغرقها الطريق من المدرسة إلى البيت، فإذا تأخرت عن عودتي دقائق جاءت بنفسها إلى المدرسة تبحث عني. ثم ماتت فجأة وأنا في العاشرة، أما هي فقد كانت فوق الثلاثين بقليل وكانت أصغر أخواتها”.

أقرأ أيضا:

«أحمد بهاء الدين».. سنوات التغيير في الكويت

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر