أحمد برهام يكتب: قراءة الإسكندرية
تعلقي بالإسكندرية ورغبتي في استكشافها بدأ مع برنامج “بهنا الدراسي للفنون البصرية”، والذي التحقت به بحثا عن مساحة بديلة أكثر اتساعا من البحث العمراني. في فترة لاحقة انضممت لبرنامج بهنا الدراسي للكتابة والترجمة وخلال جلسة من جلسات البرنامج عن عرض الكتب. قررت أن يكون مشروعي الذي أسهم به في البرنامج عرضا لكتاب عن الإسكندرية. إلا أن الرحلة تشعبت وكلما قرأت عن الإسكندرية اكتشفت أني في حاجة للتجول بها. وكلما تجولت بها احتجت أن اقرأ عنها أكثر. وعندما تراكمت القراءات وتداخلت مع الجولات وكلما زاد التشابك اقتنعت أن مشروعي هو قراءة للإسكندرية بين الكتب والجولات.
“السير في الشوارع كان يشكل حياة بديلة… كانت هذه الحياة غائبة في الكتب التي نقرؤها…”
علاء خالد (متاهة الإسكندرية)
**
في محاولة مني للتعرف على الإسكندرية بدأت في القراءة عنها بثلاثية إبراهيم عبدالمجيد الأشهر عن الإسكندرية. وعندما قطعت فيها شوطا أكبر فهمت سبب شهرتها وخصوصا بين الجمهور غير السكندري. حيث استطاع إبراهيم عبدالمجيد أن يأخذنا في “لقطة عامة للمدينة من البحر تستعرض القوس الكبير الذي يحتضن البحر والعمارات الكلاسيكية وأشجار النخيل من قلعة قايتباي حتى قصر المنتزه.
الكاميرا تقترب من وسط المدينة. ترتفع وتتجاوزه إلى ميدان الشهداء، ميدان الجمهورية أمام محطة مصر، تصور البيوت القديمة المتساندة على بعضها. تمشي الكاميرا فوق المدينة. هواء الإسكندرية يحمله طائرا مع الكاميرا بسرعة. عابرا فوق شارع عمر بن الخطاب داخلا في شارع مسجد السلطان إلى البياصة إلى باب سدرة إلى شارع عمود السواري إلى كوبري كرموز طائرا فوق المحمودية..”.
ثم يهبط بنا في: “هنا مساكن السكة الحديد أمامها ترعة المحمودية. والمعدية التي تنقل الناس إلى محطة الترام وإلى كوم الشقافة. وخلفها خطوط السكك الحديد بالقباري التي حملت من معدات الإنجليز والأسرى الألمان والطليان.” (طيور العنبر)
لفت نظري في طيور العنبر أنها تحتفي بالهامش السكندري مثل القباري ومساكن السكة الحديد على النقيض تماما مما فعل في آخر جزء من الثلاثية الذي يمتلئ بالبكاء على الإسكندرية الكوزموبوليتانية، والتي يرى بعض من تحدث معهم صامولي شيلكه أثناء كتابته مقاله (أين تقع الإسكندرية) أن تلك الإسكندرية ماتت، وأن إسكندرية الحقيقية تقع في الشرق وامتداداته!
**
من خلال برنامج بهنا للكتابة والترجمة تعرفت على كتاب مغامرات سموحة. يجمع الكتاب بين شغفي بالعمارة والتاريخ الشفهي. ويشير الكتاب إلى أن مشروع مدينة سموحة كان متأثرا بنموذج المدينة الحدائقية ونموذج هليوبوليس، وتلك كانت ملاحظة خطرت لي أثناء قراءة الكتاب.
حيث إن المطور أجنبي والفئة المستهدفة من الأجانب والنخبة المصرية، ولكن الملفت في حالة سموحة هو أن مشروع التطوير تم طرحه في مسابقة عالمية. بعكس هليوبوليس والتي كان صممها معماري بلجيكي بتكليف مباشر من المطور البارون إمبان. من خلال فصول الكتاب يمكن تكوين صورة عن الحياة في الإسكندرية أو على الأقل في هذا الجزء منها حول بحيرة الحضرة والتي تم ردها لبناء تلك المدينة التي سميت باسم مطورها المصري اليهودي القادم من بريطانيا.
حيث كانت الحياة الرياضية والتي تتمحور حول سباقات الخيل ومسابقات الجولف هي المركز الذي تتمحور حوله المدينة. أولا في نادي سبورتنج ثم نادي سموحة الذي كان بمثابة الوريث. وما أحاط بذلك من مظاهر للحياة الاجتماعية وأسلوب معيشة وصورة للعمارة الحديثة.
البحث عن الإسكندرية بين مدن المتوسط الأخرى
وفي محاولة لفهم الإسكندرية عن طريق مدن أخرى تقع على المتوسط بدأت في القراءة عن مدن مثل طرابلس شمال لبنان حيث إنها تعاني مثلها مثل الإسكندرية من عقدة المدينة الثانية مع بيروت مثلما تعاني الإسكندرية مع القاهرة.
بدأت في قراءة كتاب مدينة على المتوسط لدكتور خالد زيادة. حيث ظننت من عنوانه أنه يتحدث عن الإسكندرية، ولكن اتضح لي من المضي قدما في القراءة أنه يتحدث عن مدينة أخرى تشبه الإسكندرية ولكنها ليست الإسكندرية. ومن الجميل أنه لا يصرح عن أي مدينة يتحدث ويحكي. مما أعطاني فرصة لأسرح وأتخيل وأُسقط حكايته على الإسكندرية التي أتعرف عليها.
فعندما يحكي لنا “ففي المرحلة اللاحقة لعام 1948، انتشرت في المدينة موجة دور السينما: صالات أنيقة وواسعة أقرب إلى النمط الإيطالي، أو الأمريكي، واتخذت أسماء غربية صارخة. في عام 1958 انتشرت ظاهرة مقاهي الرصيف على النمط الأوروبي وأسماء غربية هي الأخرى. وبعد 1967 انتشرت محلات (البوتيك) لبيع الألبسة والسلع الجاهزة. في الوقت التي كانت تتهاوى الحرف التقليدية التي كان مقرها المدينة القديمة. وبعد 1975 انتشرت ظاهرة بناء العمارات والتجمعات السكنية، فانبعثت أحياء وشوارع جديدة أشبه بالنمط المعروف في الجنوب الإيطالي أو في مدن الجنوب الأمريكي”. فإنك لا تستطيع إلا أن تستحضر الإسكندرية في مخيلتك.
**
وعندما يكتب “والحق أننا كنا نعتز بمدينتنا اعتزازا عظيما، فهي تاريخ عريق تزدوج فيه معاني الثقافة والدين، إذ لا يتعلق الأمر بتاريخ أسطوري مغرق في القدم، ولكن هذا الشعور المديني هو إرث مشترك بين كل المدن المشابهة. ففي ظل التحولات التي شهدها قرن مضى. كان ابن المدينة يواصل انتماء عميقا إلى مدينته التي تشكل بالنسبة إليه الفضاء الواسع حيث موطنه ولغته ودينه” فكأنك تقرأ عن الإسكندرية وليس عن طرابلس.
هل هناك ما يسمى بالقرابة المتوسطية؟ وإلا فما تفسيرك بعد أن تقرأ الفقرة السابقة أن تجد من يقول في كتاب Voices from Cosmopolitan Alexandria” I am a citizen of a city”. وما تفسير إنك خلال قراءتك لرواية (سفر الاختفاء) لابتسام عازم تجد من يقول “إحنا أهل البحر من المنشية.. منحب الحياة غير شكل عن أي مكان تاني بالدنيا”.
بينما هي تتحدث عن يافا! ثم تجد نرمين نزار في (إسكندرية- بيروت) تصف الإسكندراني بأنه جريء طويل اللسان عالي الصوت محب للحياة. كيف تحب الحياة وتكره الآخر؟ كيف تتعايش مع البحر وتخشى المجهول. فهل يكون هو البحر؟ فنقرأ في (سفر الاختفاء) من تقول: “بمشي بالمدينة بتتعرفش علي”. فيرد عليها من يقول: “كيف بدها لمدينة تتعرف عليك… هو أنت الإسكندر المقدوني بزمانه يعني عشان المدينة تتعرف عليك؟”. ويتساءل: “بعدين المدينة جماد شو هي كاينة بشر؟” فترد عليه: “لمدينة بتموت إذا ما بتتعرف على أهلها.. البحر هو الإشي الوحيد اللي ما بيتغير..”.
وكيف تتشابه المدن المتوسطية إلى هذا الحد؟ فيكون حي المنشية مركزا في يافا والإسكندرية والعجمي طرفا في المدينتين. أيضا حيث هو الحي الذي تم تهجير سكان المدينة إليه بعد النكبة.
البحث عن المدينة التركية
وبما أننا ذكرنا المنشية أذكر أني أول ما تجولت ما بين المنشية وبحري مع صديق لي كان بحثا عما يسمى بالمدينة التركية والعثمانية في الإسكندرية. وإذ بي اكتشف نسيجا مختلفا عن الإسكندرية التي ألفتها حتى الآن في جولاتي السابقة بشوارعها المستقيمة الموازية للبحر. فوجئت بنفسي أسير في حوارٍ ضيقة ملتفة حول بعضها.
واستكمالا للنظر إلى الإسكندرية من خلال عدسة طرابلس، من فترة قصيرة خلال مختبر بحثي عن خصوصية الإسكندرية العمرانية. تعرفت على رواية (مساكن الأمريكان) لهبة خميس، والتي تتعقب فيها عشش سيدي بشر التي أزيلت وبني مكانها مساكن بتمويل أمريكي في عهد السادات.
فتذكرت أني كنت قد قرأت حي الأمريكان لجبور الدويهي والتي يحكي فيها عن هذا الحي الذي يقع في طرابلس الشمال والذي يعتبر من الامتدادات غير الرسمية للمدينة وساكنيه وعلاقتهم بسكان الأحياء القديمة والتي كانت تقطنها العائلات الكبيرة التي كان لها دور كبير في تشكيل وجه المدينة. ما يجمع الروايتين التضاد الصارخ في حياة من يقطنون تلك المساكن ومن يسكنون الأحياء الأخرى في المدينة. فحي الأمريكان في طرابلس أفرز إسماعيل الذي التحق بداعش في العراق، ومساكن الأمريكان في الإسكندرية أفرزت سعد الذي عاني من مثليته الجنسية.
**
ذكرني ذلك ببداية قراءاتي عن الإسكندرية وما كتبه إبراهيم عبدالمجيد في (لا أحد ينام في الإسكندرية) عندما كان يتحدث عن سكان عشش السكة الحديد والتي يصف شوارعها: “ومشى في شارع البان يفكر في هذا الشخص السعيد الذي أطلق هذا الاسم على الشارع وأطلق أسماء الزهور على كثير من الشوارع المتوازية والمتقاطعة مع شارع البان. شارع النرجس والفل والريحان والرند والكروم والقرنفل. وكلها شوارع رثة سقيمة متخمة بناس متعبين مشردين لا يدرك أحد أنهم ينتمون إلى المدينة الكبيرة التي يتحرك فيها كل شيء إلا هذا المكان”.
وتحدث عن سكانها واصفا إياهم: “إنهم لا ينتمون إلى الإسكندرية أبدا هؤلاء الذين يعيشون في هذا المكان والإسكندرية البيضاء المرحة المستفزة لاهية عنهم لا تفطن إليهم. إنهم نفايات ألقتها المدن والقرى البعيدة. متى كان هناك من يتوقف من أجل النفايات؟ ومن يصدق أنه من بين هذه النفايات يخرج أحباء وشعراء ومجانين وأولياء صالحين، فقط القتلة والمجرمون هم الجديرون بالبقاء في هذا الجنوب العفن”.
هذا الجنوب الحاضر دائما عندما تبحث عن الإسكندرية الأخرى؛ ففي مقدمة كتاب مصطفى نصر عن العادات السكندرية في الأحياء الشعبية والذي أسماه (إسكندرية مدينة الفن والعشق والدم) أن جنوب إسكندرية هو الأصل. حيث كانت قرية راقودة قبل أن يأتي الإسكندر ويبني مدينته. وأن جنوب الإسكندرية كان قبلة نزوح الكثير من الصعيد مكونين شطرًا مهمًا من النسيج السكاني للمدينة. حيث سكن الأجانب حي الرمل في الشرق وعاش السكندريون من أصول مغربية وأندلسية في الشمال حيث يقع حي بحري، وظل الصعيد السكندري محتفظا بخليط فريد من الثقافة.
من المندرة إلى الساعة
ركبت للمندرة وتمشيت للساعة في وسط شوارع ضيقة وعمارات عالية. لم أتخيل وأنا أمر في منطقة المندرة أنها كانت جبلا من الرمل إلا عندما قرأت ما كتبت رندا شعث في سيرتها الذاتية: (جبل الرمل). تلك العمارات كانت فيما مضى جبلا من الرمل كانت تقع عليه فيلا جدتها التي يقضون فيها الصيف.
تحكي رندا أن جدها عندما نُقل إلى مدرسة الأميرة فايزة في محرم بك قرر شراء أرض واسعة وبناء بيت لعائلة كبيرة كان حلم بها ويخطط لها. اختار المندرة لأنها الأقرب إلى المدينة من حي المعمورة الموحش! المندرة كانت صحراء رملية لم يكن بها سوى بعض مساكن خشبية لقضاء الصيف كانت مملوكة لعائلات إيطالية ويونانية يهودية. كما كان بها القليل من ثكنات الجيش الإنجليزي.
بعد ذلك بسنوات عندما كانت رندا في زيارة للمنطقة مع زوجها توم تروي كيف تغيرت المدينة ومداخلها. حيث أصبح الطريق الدائري الجديد الذي يصل الطريق الصحراوي بالمدينة من الشرق هو الأقرب للدخول إلى المندرة من العبور بوسط البلد. حيث السيوف منطقة تعج بسكانها في شوارع ضيقة خصوصا خلال شهر رمضان وقت الإفطار، حيث بائعو الخبز والفاكهة ينادون وسط الزينات والفوانيس المعلقة بين المباني. انهار جبل الرمل بعد حفر أساسات عمارة سكنية على حافة السور البحري. بيعت الرمال البيضاء واختفى الجبل تماما بعد بناء ثلاث عمارات ملتصقة على الصف نفسه. صار الجبل مسكنا لمئات العائلات وتلك الصورة التي عرفتُ المندرة عليها.
تحكي رندا كيف عانت جدتها من الضوضاء بسبب كثرة عمال البناء في الحي كله وكيف عانت من العابرين المجهولين الذين يقتحمون حديقتها ليلاً ونهارًا عابثين بنباتاتها وأزهارها. حاصرتها من كل الجهات عمارات عالية سدت منافذ الهواء وأصابتها بحالة من الارتباك.
زبادي دهب الذي أبهر الإسكندرانية أنفسهم
توجد سبل أخرى لاستكشاف الإسكندرية تجمع بين القراءة والتجول فعلاء خالد يقدم خريطة مختلفة في متاهة الإسكندرية حيث “كانت خريطة سيرنا في المدينة مبقعة بآثار الطعام. كنت اكتشف المدينة من خلال مذاقاتها، ليتكلم لساني بعدة لغات شعبية لم يكن يرطن بها من قبل”.
فبينما أسير/ اقرأ في المتاهة “نسير تحت أشجار الفيكس لشارع السلطان حسين وقد نتوقف عند حلواني دهب لتناول كوب لبن وزبدية بالعسل الأبيض أو قطعة كنافة”. وبما أني من محبي الحلويات وضرسي حلو كما يقولون. فقد سألت السكندريين عن حلواني دهب فلم يدلني عليه أحد، فكلهم عندما يسمعون دهب يتبادر إلى أذهانهم دهب الفطاطري.
حتى جاء يوم وأنا أسير في شارع السلطان حسين متوجها إلى معهد جوته لحضور فاعلية ثقافية ألمح بطرف عيني محلا ذا واجهة بيضاء يكاد يكون مختفيا وتعلوه يافطة صغيرة كُتب عليها (حلواني وألبان دهب). دخلت المحل وطلبت الزبادي الذي حكى عنه علاء خالد وإذ بي أذوق أحلى زبادي في حياتي. وهذا ليس فقط رأيي بل بشهادة السكندريين الذين تعجبوا كيف خفي هذا المكان عليهم واكتشفته أنا الغريب عن الإسكندرية.
أصبحتُ زبونا دائم التردد على المحل، ولكن كان لا يزال بداخلي شك أن يكون هذا هو نفس المحل الذي ذكره علاء خالد في متاهته. إلى أن حكى لي صاحب المحل في يوم من الأيام. بينما أتناول الزبدية الشهيرة، “يا عزيزي” وكان دائما ما ينادي زبائنه هكذا، أن المحل قديم لكنهم جددوا الواجهة والديكور الداخلي من ثلاث سنين فقط فاطمأن قلبي إلى أن بطني كانت وراء اكتشاف جديد لي في الإسكندرية.
ولا زلت أتتبع الإسكندرية بين الكتب، والقائمة تزيد بينما تستمر جولاتي في المدينة متتبعا بصري أحيانا ومعدتي أحيانا أخرى.
- ينشر هذا الموضوع بالاتفاق مع مؤسسة بهنا بالإسكندرية في إطار برنامجها الكتابي الذي أشرف على تحريره حسين الحاج وعبدالرحيم يوسف.
قد أحكي عنها في مقالة أخرى!