أحمد اللباد يكتب: في شرفة مكتب «الأستاذة»
كانت حجرة مكتب «الأستاذة» كرئيسة لتحرير مجلة «علاء الدين» للأطفال يقع في عمق الجناح الغربي من المبنى الحديث لمؤسسة الأهرام العريقة في الفترة من2000 إلى 2010.
كانت حجرة فسيحة وأنيقة، تشي بروح صاحبته الواسعة المُرحبة. يتصدرها مكتبها الخشبي الكبير، الذي يكتظ سطحه دائمًا بازدحام لطيف من أوراق الكتابة. وبروفات ورقية لصفحتها الثقافية المشهورة والمؤثرة «غذاء العقول»، والتي تعمل عليه يوميًا لتنشر كل أسبوع في الجريدة العريقة. وكذا بروفات المجلة، ورسائل القراء، والأوراق الإدارية اليومية، وكتب طازجة الصدور في لغات مختلفة، وأقلام متنوعة الألوان للتحرير أو التصحيح أو التوقيع على الأوراق الإدارية، وعلبة سجائر تبغها خفيف، وطفاية للرماد، وولاعة.
ولن يعدِم سطح هذا المكتب أبدَا وجود علبة بسكوت، أو قطع شيكولاتة «تعزم» بهم على زائريها بأمومة حقيقية. تلك الأمومة التي سيصلك وهجها فورًا ومن أول لحظات لقاءك بها إن كنت لم تعرفها سابقًا، أمومة كالموهبة، فياضة ومتدفقة ومتقدة على الدوام. كانت لحظات مؤثرة جدا لا تنسى تلك التي يتصل بها أحد من ابنيها وسط لقاء عمل محتدم، وهي في كامل تركيزها. لأجد صوتها قد تهلل بمحبة خاصة، وتجاوب على الاتصال باختصار بقدر الإمكان احترامًا للموجودين. لكنها لن تنهي المكالمة أبدًا قبل أن توصي الابن أو الابنة بنصائح أمومية.
غارقة في الخصوصية: عن ترتيب ما في البيت، أو الانتباه مثلاً لارتداء جاكيت أدفأ، لظروف الجو البارد في الخارج. أو التأكد من إغلاق غاز المكان بإحكام عند المغادرة. وهكذا من تفاصيل.. لكنها ومؤكدًا ستنهي الحديث بكلمات حب كالغزل، لابد وإنها ستهدهد روح الابن لكامل اليوم.
**
ذلك الكرم العاطفي لا تختص به عائلتها فقط، بل كان يشمل كل من تشعر باحتياجه له. وأظن أن كثيرين، وبالذات من الجيل الأصغر منها من زملاء في المهنة أو من تقاطعوا معها بأي طريقة، سيتذكرون طويلا تصرفاتها العطوفة وكلماتها المحبة الودودة المشجعة التي أضاءت لهم وثبتت أقدامهم وسندت قلوبهم في فترات شِدة وارتباك. خصوصًا أنها من تلك الشخصيات الممتلئة بنفسها والشبعانة تحقق بالفعل.
فكانت تحتفي في كل وقت بأصحاب المواهب، أو الواعدين المستبعدين بغير حق، وتعتبر أن دفعهم للاستحقاق واجب عملي وأخلاقي ضروري. وكان نفس هذا الامتلاء وذلك الشبع هو ما يجعلها تتصرف كذلك بتواضع أصلي. وتحترم بإيمان حقيقي فكرة «التخصص» التي طالما ناقشتها وصدَّرتها في كتابتها كثيرًا. كبديهة يجب الاعتناء بها وترسيخها بلا فصال أو تهاون؛ فكانت مثلًا -وهي الصحفية القديرة والكاتبة المتمرسة- تجلس لكاتب سيناريو شاب في أول العشرينيات يقدم مشروعًا لتنفيذه في المجلة، وتستمع منه بجدية، وهي تتحسس مقاطعة استرساله. وتبدي له في النهاية الشكر بامتنان حقيقي.
**
بعد كل هذه السنين، وبعد كل الذكريات العملية والإنسانية التي تراكمت في التسع سنوات التي عملت معها فيها كمدير فني للمجلة. سيبقى ألطف المشاهد ارتباطًا بالأستاذة مستقرًا في ذاكرتي. نتيجة كثرة ترددي على حجرة مكتبها (وبالذات في السنوات الأولى قبل أن تحرك مكتبها الثقيل إلى الضلع الجانبي من الحجرة) لمناقشة تفاصيل العمل المتجددة. أو حتى لمجرد التقاط الأنفاس والاستئناس في دردشات مرتاحة في أوقات الراحة القصيرة؛.
هو ذلك المشهد الذي كان يواجهني كثيرًا فور دخولي للحجرة، وهي ترفع رأسها موقفة القراءة أو الكتابة، وتخلع نظارة القراءة وتدعوني بمودة للجلوس، وهي تعتدل لتجلس بظهر مفرود على كرسيها، فيبروزها الشباك الزجاجي العريض -والذي يمثل مقطعًا عظيمًا من مساحة المشهد- ورائها وهو منفرج الستائر معظم الوقت. وعبره تصب السماء القاهرية ضوءها الفريد على كل تفاصيل المكان، لتزيدها سماحة وألفة. ويعج إفريزه الرخامي الخارجي على مدار النهار بحركة جيوش صغيرة من طيور الحمام القاهري الشاب، الذي تستطيع عافية أجنحته أن تصل به لحافة الشباك في هذا الطابق العاشر. ويتخذ منها على مدار النهار منصة للاستراحة للإقلاع والهبوط والاستراحة الآمنة. لتبدو الأستاذة ساعتها في برواز من الزرقة الطيبة والضوء الذي تتقاطع فيه مسارات حمام وادع مطمئن.
رحم الله الأستاذة، وأسعدها في مكتبها الجديد، تحت سمائها الرائقة الممتدة، في نهارها الآخر الأبدي.
اقرأ أيضا
ماجدة الجندي: سيدة السرد الصحفي الجميل
علاء خالد يكتب: كانت تمتلك نسخة حديثة من النوستالجيا
د.محمد أبوالغار يكتب: ذكريات مع ماجدة الجندي
عماد أنور يكتب: وش الخير وصاحبة البشرى
محمد الغيطاني يكتب: وردة كل يوم
ماجدة الغيطاني تكتب: «أن تُحِبُكَ ماجدة»
ماجدة الجندي: من سيرة البدايات في «صباح الخير»
