أحمد البرين.. قبس من روح الصعيد وأيقونته
كتب – أسماء عطا
إنه قبس من روح الصعيد الأصيلة، وروح مدينة إسنا التي ولد وتربى فيها، يتميز بصوته الشجن القوي الغنائي، ويعد صوته من الأصوات النادرة اللينة العاطفية، إنه ليس بمطرب ولكنه يغني القصائد بأسلوب عذب وصوت شيق، أطلق عليه الأوروبيين مؤدي الأغاني الصوفية، أحمد البرين.
ولد أحمد محمد البرين عام 1944 في قرية الدير شرق مدينة إسنا التابعة حاليًا لمحافظة الأقصر، كفيف البصر درس في جامعة الأزهر، حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، تأثر في إنشاده بالقرآن الكريم والسيرة الهلالية والتراث كثيرًا، وكان يرتجل ما ينشده ارتجالا إلا قليلًا كان يجهزه قبل خروجه في الحفلات.
جاب وصال وغني في كثير من الحفلات أشهرها حفلات الطهور والزفاف وليالي العقيقة في الصعيد، وخاصة مدن إسنا وكوم إمبو وإدفو وأسوان وقنا وقوص، وفي مدينة نقادة أو ما يطلق عليها قرى غرب النيل الذين يحبون المدح كثيرًا، ويحيون حفلات الزفاف والطهور بالشيخ أو المنشد أحمد البرين.
حصل على إجازة أصول الدين من جامعة الأزهر، رغم شهرته الواسعة واهتمام العالم الغربي بصوته واهتمام قصور الثقافة به في مصر إلا أنه لم يخرج عن عباءة قريته وعاداته وتقاليده، فكان في منزله مخدة من الليف وحصان يربيه.
وكان للبرين صولات وجولات في قوص والقرى التابعة لها، جعلت أهل قوص يعشقونه ويدعونه لإحياء ليالي الزفاف والطهور، فكانت تشهد مدينة قوص بجوار المحطة حاليًا إحياؤه لليلة القدر كل عام، ولكن تلك العادة انتهت قبل سنوات من وفاته، وكان يأتي في القرى كالمعري وشنهور والكلالسة والخرانقة وغيرها من القرى.
يقول أشرف أحمد، شاب، وممثل مسرحي من قرية الكلالسة، إنه حضر لأحمد البرين أكثر من ليلة في قريتي الكلالسة والمعري منذ أكثر من 15 عامًا، وسمع معه ليلتين إحداهما في المعري والأخرى في الكلالسة.
ويذكر أن والديه كانا يحبان سماع أناشيد البرين كثيرًا فكانا يشتريان شرائط الكاسيت المسجل عليها صوته ليسمعاها في المنزل، مشيرًا إلي أن أكثر ما يشده من البرين يحاكي الواقع واستخدامه للطبلة والحركات الموسيقية من فمه وكان يصفق له الجمهور كثيرًا.
ينوه بأنه لم يستخدم الآلات الموسيقية سوي بعد حلقة السفينة كالناي، ويسمعه الشباب حاليًا على الانترنت وخاصة “اختصاره الشهم لما الزمان ذله ورماه”، وكان يحضر له مئات المواطنين من القرية والقرى المجاورة، كنا لا نجد مكانًا نجلس فيه عندما ينشد بصوته العذب.
بينما الحاج طلعت يوسف البيه، الرجل السبعيني، من أواخر أصدقاء البرين الذين على قيد الحياة في قوص، فمعظم أصدقائه توفاهم الله أو يغلبهم المرض الشديد، كان البيه موظف في مطاحن إسنا فكان قريبًا منه ويذهب وراءه جميع الحفلات التي يحييها لسماعه.
يشير البيه إلى أنه حضر له العديد من الحفلات والموالد في كوم أمبو ومولد أبو الحجاج بالأقصر كان يحضر ليلتين، كنت أذهب لأسمعه، وكان يأتي لمولد الطواب والشيخ كارما في القيسارية ومولد الشيخ عتمان في مدينة قوص، منوهًا بأنه كان يذهب كل عام لمولد الحسين والسيدة زينب بالقاهرة لينشد هناك، وكان يذهب معه قطاع كبير من الصعيد وراءه ليسمعه، ويستمتع بإيقاعه الجميل.
ويذكر من خلال صداقته معه أنه رجل متواضع وصوته جميلًا وأداءه بين الشعر والأغاني، درس المقامات الموسيقية، ويضيف أنه ذهب معه إلى منزله ذات يوم، فكان منزله يحتوي على “قعدة عربية” ومخدته من الليف، وكان يربي حصان في المنزل، قائلًا إنه “كان يشعر بوجودي في أي حفلة رغم أنه كفيف”.
كان حافظًا للقرآن الكريم والمواويل، وكان يطلع الجبل دائمًا في بلده ويحصل أو يبتكر من خلال الحديث معه خميرة المدح التي ينشدها.
ويحب البيه من إنشاد البرين قصائد أبي العتاهية وابن الفارض التي ينشدها، فهو له شعور مميز فكلامه وإنشاده من القلب يصل للقلب، وكان إحساسه عالي بإنشاده، ويذكر أن المنافسة حميمة بالشعر بينه وبين العجوز قريبه.
كما تحدث عنه كثيرًا في أكثر من مقال، مدير للأكاديمية المصرية للفنون، حيث قال عرفته متأخرا دون أن أراه، كنت في متجر معروف لبيع التسجيلات الموسيقية في وسط العاصمة الإيطالية قبل 14 عاما، عندما كنت مديرا للأكاديمية المصرية للفنون في روما، وجدت سي دي من إنتاج أجنبي عليه صورته واسمه، فاشتريته وأنا لا أعرفه، فاجأني صوته مفاجأة تامة ووقعت في حبه فور نطقه بـ «ليالي».
إنه من هذه الأصوات القليلة جدا القوية العريضة اللينة العميقة العاطفية، معادله الأنثوي عندي يقترب من أم كلثوم، أثار فيَّ شجنا وحنينا شديدين.
في عمر الثانية عشرة تعلم أسرار الإنشاد الديني من الشيخ سليمان حسين الذي كان مشهورا في بلاد الصعيد، هكذا هو المغني والمنشد الوحيد، على حد علمي، الذي أنشد القبطي والإسلامي جامعاً بين ضفتي «الفن المقدس» الغنائي المصري. لذلك ودَّعه في جنازته الآلاف من المسلمين والمسيحيين معا.
كان يغني عادةً بمفرده، لكنه غنى مع ابن أخته محمد العجوز، غنيا معا عملين طويلين «السفينة وفرش وغطا». أقول عمل لأنني لا أعرف بماذا أصف أعماله، فليست بالأغاني ولا الأناشيد بمفهومهما التقليدي، ولكنها أقرب إلى «الملاحم الغنائية».
وككل المطربين يتأثروا بتجاوب الجمهور معهم، لكنه يزيد ويرد على تعليقاته أحيانا، وأحيانا يغير من كلماته أو أدائه مرتجلا، تجاوبا، تجد نفسك بين أصوات الشيخ وآلاته الموسيقية وجمهوره فتنتشي.
ذهب إلى فرنسا للمرة الأولى عام 1985 للمشاركة في «أيام الموسيقى العربية» في مدينة نانتير. كما أحيا حفلات في مدن أوروبية وعربية أخرى. وصدرت له في أوروبا أسطوانات عدة، منها ما أصدره معهد العالم العربي في باريس عام 2003 بعنوان «أغان صوفية».
كما تحدث عنه محمد محسن، مدرس بقسم اللغة العربية كلية الآداب بجامعة جنوب الوادي، أن أحمد برين لا يُعد مجرد أحد الفنانين الشعبيين الذين ينتمون إلى أرض الصعيد الطيبة، تلك الأرض التي تنبت كل يوم فنان وشاعر وتزرع فيه تلك الروح المبدعة، لما يرى في تلك البيئة من جمال ومحفزات لعملية الإبداع، حتى هذا الرجل الكفيف، الذي لا يستطيع أن يرى استطاع أن يشعر بجمال الطبيعة وجمال النفس.
أحمد برين ومن هم مثله يعودون تلك المنطقة المكانية (الصعيد) بإبداعه المرتجل ومعاركه اليومية في فنون الشعر الصعيدية من وقتها الحالي إلي العصر الجاهلي، حيث كانت الفنون الشعرية في أوجها، إن أحمد برين شأنه شأن هؤلاء الجاهليين يتحدث شعرا، ويلخص خبرات الحياة وحكمتها في تلك الأبيات المرتجلة من المربعات الشعرية.
ويضيف: أنه “يُعد من وجهة نظري لبنة قوية في جدار الفلكلور الشعري الصعيدي، بل واستطاع أن يزيد ولع العالم بهذا الفن الذي يتسم بخصوصية المنطقة، وبذلك هو فنان وشاعر ومؤرخ في ذلك المجال”.
كما أنشد كثيرًا من الأغاني منها المقتبس من القرآن الكريم “قصة سيدنا موسى والخضر عليهما السلام، “أهل الغرام أحبتي ورجالي.. سورة الكهف جميلة يا عين نزلت على نبينا الزين.. أولها يحكي أهل الكهف وبعد كده حكاية الرجلين.. وإن كنت اختم آخر الصورة أعرف يأجوج ومأجوج جات من فين.. لكن خلينا مع الخضر.. وموصف مجمع البحرين..”.
ومنها يا ظبية الأنس “يا ظبية الأنس مالك لم تجي حالي”، وكذلك “ليه يا حمام بتنوح ليه”، و”خمار ليلى”، و”يا بساط اللوز يا وردي”، و”فرش وغطا” و”السفينة سجال بينه وبين العجوز”.
وقال جلال ممدوح همام، من مدينة نقادة، التي تحتوي على جمهور عريض للبرين، إنني أحب صوته جدًا وصاحب نغمة رنين مختلفة، وخاصة أنه لم يستعن مثل المداحين بالآلات موسيقيّة كثيرا ولم يغيّر أسلوبه بدعوى التطوير، ظل أحمد البرين مداح صيّت، وتربت طفولتنا على سماعه، لأنه صيّت وصاحب الدور، وطفولتي كلها حتى 1996، كنت أسمع شرائطه دائمًا.
ويشير إلى أن الشريط الأشهر لأحمد برين “فرش وغطا مع قريبه محمد العجوز”، وأنشدها في حفلة في إسنا، ويقول فيها بصوته القوي “علامة السبع يستحمل قسى الأيام يمشي مع الوقت ولا يشكي من الأيام ويجابل الضيف بالوجه البشوش أيام، ويكرم الضيف شتا مع صيف ميملش، لو أتته كلمة ومن غير بال ميملش، يكلها بالملح والقرفان ميملش، السبع ميملش، ولو حكمت عليه الأيام”.
وينوه أنه حضر العديد من الحفلات للبرين في كوم بلال ونقادة، وأعجب كثيرًا بأدوار السيرة الهلالية التي كان يؤديها، وحكى أحمد البرين موقف في إحدى حفلاته بكوم بلال أن “ضابط المرور أوقفه بالسيارة وقال له بتشتغل إيه؟ قال له ساعاتي يا باشا”.