أحمد أسامة يكتب: موسوعة تمشي على قدمين

حين تكتب عن عماد أبو غازي، تشعر بثقل المسؤولية وجمالها معا. كيف تترجم إنسانا نادرا يجمع بين التواضع المخجل، والبساطة الأنيقة، والموسوعية المدهشة؟ كيف تصف شخصا يشعرك بأنه الأب الحنون والصديق الذي يضيء دروب المعرفة؟ إنها مهمة عسيرة، لكنها واجب لا يعفى منه أحد، وشرف كبير.

البداية: لقاء مصيري

تعرفت إلى د. عماد قبل عامين، في امتحان شفهي لقبول الانضمام لبرنامج “دبلوم التنمية الثقافية 2023”. كان سؤاله عن علاقتي بالمشهد الثقافي المصري، فدار بيننا حوار فكاهي عن خلفيتي الدراسية والمهنية. لم أدرك وقتها أنني أمام معلم سيغير نظرتي إلى العلم والدراسة الأكاديمية التي أستثقلها. لم أكن أعرف أن هذا الرجل الذي يتحاور بروح المرح هو ذاته الرجل الذي سأكتشف لاحقا أنه “موسوعة تمشي على قدمين”، وأن تتلمذي على يديه سيكون امتيازا نادرا.

في قاعة الدرس: بين التاريخ والحرية

في محاضرات الدبلوم، أعاد د. عماد تشكيل صورة “الأستاذ الجامعي” في أذهاننا. لم يكن مجرد ناقل للمعلومة، بل حكاء يجعل تاريخ مصر الحديث يسري في عروقنا كالدم. نناقش، نتحاور، ولا نكاد نمل من أسئلته التي تفتح أبواب التأويل دون أن يفرض إجابات جاهزة أو قناعاته الشخصية. لاحظت مبكرا أنه لا يرهقنا ببيروقراطية التعليم، بل يدفعنا نحو البحث الذاتي: اقرأوا، ابحثوا. نفعل ذلك بشغف كي لا يصير العلم مجرد أسئلة ننسى إجاباتها مع تسليم كراسات إجابة الامتحان.

مكتبة إلكترونية وسخاء لا حدود له

لم يبخل د. عماد علينا بمرجعٍ أو كتاب، بل كان دائما يسبق إجاباتَه بقائمة من المراجع والمصادر، ويذهلنا بمشاركة كنوز مكتبته الإلكترونية دون تردد. هنا، لم يكن الرجل أستاذا فحسب، بل دليلا ثقافيا يضع أيدينا على منابع المعرفة، ويذكرنا بأن العلم الحقيقي يبنى بالتشارك، لا بالاحتكار، وأننا جميعا نسعى للعلم والمعرفة، وهو في مقدمتنا.

بحث أكاديمي.. ومفاجأة إنسانية

عندما طلب منا إعداد أبحاث عن الثقافة المصرية، اعترف بعضنا له بقلقه، كيف نكتب بحثا أكاديميا؟ لم نكتبه من قبل. بدل أن يعنف ضعفنا، أن نرى منه عنجهية بعض الأساتذة، أمدنا بمراجع عن منهجية البحث، ثم ناقش كل فكرة باهتمام، وطلب أن يقرأ مسوداتنا قبل التسليم لإفادتنا بملاحظاته. الأجمل أن حماسنا وصل حد طلب استبدال امتحانات المواد الأخرى بأبحاث أخرى! لقد حول قلقنا وتوترنا إلى متعة، وعلمنا أن الأستاذ الحقيقي هو من يحول القلق إلى إبداع.

تشجيع يضعك في دائرة المسؤولية

لا أحبذ الخوض في التفاصيل الشخصية، لكن كيف أغفل دعمه الذي يلاحقني حتى خارج القاعة؟ كيف أتجاهل عبارات الثناء على التي تصلني عنه عبر الأصدقاء، والتي تدفعني للتساؤل: “أأستحق هذا؟”. أعرف يقينا أنه لا يجامل، لذا أحمل نفسي واجبا: أن أكون دائما عند حسن ظنه، وألا أخذل هذا العماد أبدا.

أخيرا..

قد لا توفي الكلمات حق د. عماد أبو غازي، لكنها تذكرنا بأن الزمان لا يزال ينجب من يعيدون إلينا إيماننا بالعلم والإنسانية. فشكرا لأستاذ جعلنا نحب التاريخ لا كحكايات حدثت وأزمنة ولت، بل كروح تسري فينا، ولأستاذ علمنا أن التواضع ليس فضيلة، بل ضرورة كي تبقى القامة عالية إلى الأبد.

اقرأ أيضا:

نهلة أبوالغيط تكتب: إنسان نادر

كريم زيدان يكتب: المحب لما يعمل.. المخلص لما يعتقد

عماد أبو غازي يكتب: السينما في دراسات الوثائق والأرشيف

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر