«أبطال من مصر» لأحمد راشد: كيف تصنع فيلما عن نصر أكتوبر؟
«إلى والدي العزيز: في اليوم الثاني عشر لاستمرار القتال اكتب إليكم خطابي هذا، بعد أن كتبت لكم خطابات كثيرة سابقة ولعلها وصلتكم لتكونوا مطمئنين..
إن الحياة أجل لا يمكن أن يزيد أو ينقص يوما عما كتب له. وفي أي حال لقد قدمتم لله وللوطن ابنا يستطيع أن يقدم روحه فداء له في أي وقت وها نحن نجاهد في سبيل الله والوطن إلى أن يحق الله الحق ويبطل الباطل، لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، وكل ما أرجوه دعواتكم للوطن ولنا جميعا بالنصر والعزة
ابنك فتحي عبادة».
تلك آخر رسالة تلقاها أهل الشهيد فتحي عبادة، المقاتل المصري الذي استشهد في حرب أكتوبر. والذي دارت أحداث فيلم «أبطال من مصر» حول استقبال أهل فتحي لخبر استشهاده وحديث معهم عنه. فهذا الفيلم عن عائلة الشهيد.
كانت رؤية أحمد راشد، حول “كيف تصنع فيلما عن أبطال 6 أكتوبر”. ففي كل مكان في مصر قرية أو مدينة نقابل كثيرا من الأبطال الذين شهدوا هذا اليوم سواء من الشعب أو من الجيش. فعلى من يقع الاختيار! كلهم أناس بسطاء عاديين. إن رأيتهم في أي مكان لا تعلم أن وراء كل واحد منهم قصة بطولة.
***
يعد هذا الفيلم من أهم وأعذب الأفلام التسجيلية المصرية عن حرب أكتوبر. فمن هو المقاتل سالم، ضابط الدفاع الجوي، الذي عاد منتصرا يحكى عن كيفية إسقاط طائرات العدو. ويتحدث كذلك عن أحد زملائه الذي استشهد بالجبهة فنشاهده أمام قبر الشهيد متذكرا إياه: “لن أنسى ما حييت بطولات زملائي الشهداء من ضباط وجنود خاضوا المعركة برجولة وفداء. ورووا أرض سيناء بدمائهم الذكية الطاهرة وبقدر ما أسعدني ما حققناه من نصر بقدر ما تأثرت باستشهاد الزميل الذي حدثتك عنه كثيرا.. وهو فتحي عبادة”.
لينتقل الفيلم إلى قرية الملاحية مركز ببا بني سويف. حيث أسرة الشهيد فتحي عبادة، نقيب الاحتياط بسلاح المدفعية الذي استشهد بسيناء في 21/11/1973.
كل شيء في القرية يبدو من الخارج باهتا وفقيرا. لكننا نرى بتتابع المشاهد أن هذا المظهر يخفي نعومة وثراء يتمثل في حياة تلك الأسرة التي لا تملك فدادين طين. كما يقول الأب عامل الرش في تفتيش الطرق والكباري الذي لوّحته الشمس، وترك فيه الزمن تجاعيد الشقاء.
وكما تقول الأم العاملة بالوحدة الصحية، الفلاحة الجميلة النحيلة الصلبة كما النخيل: “حتى خشب بيتي بعته، حلل بيتي بعتها”. ولكن لديهم أبناء كل طموحهم إن طال بهم الأجل أن يعلموهم تعليم عالي كما تخرج فتحي في كلية التجارة وكما يدرس زين بكلية الهندسة.
أسرة فتحي عبادة نموذج لملايين أسر الفلاحين الصامدين في مواجهة ظروفهم وفقرهم ولا يملكون سوى الكفاح والاستمرار.
***
وهنا نشعر بحضور فتحي حين تمر الكاميرا على صوره الفوتوغرافية أثناء مناسبات مختلفة نراها من خلال عيون الأب والأم وهم يشاهدوها معنا أثناء حديثهم عنه. وصور جواباته لهم، وكتبه المهترئة الأغلفة وكراريس حملت خطه، والتي استخدمها أثناء دراسته الجامعية. ولازالت تأخذ مكانها في الدار بحرص الجميع على دوام وجودها.
تتحدث الست “كاملة” عن ابنها الشهيد ببساطة وصدق وتخرج الكلمات من فمها تقطر صبرا ودما واصفة حالها عند وصول خبر استشهاد ابنها: “أنا مش زعلانة إنه حارب ومات ماكانش له أجل. الموت علينا حق، بس الفراق صعيب”.
كان الفيلم أقرب للقصيدة الحانية المليئة بالشجن. وربما أراد أحمد راشد أن يخفف جرعة الحزن النبيل تجاه الشهيد «فتحي عبادة». فلجأ إلى التأكيد على الانتصار، من خلال قصة سالم ضابط الدفاع الجوي، الذي يحكى عن كيفية إسقاط طائرات العدو، وأخذنا معه لحياة الشهيد.
والأهم تلمّسه لتلك الحياة.. فما إن تصل عربات التصوير لتأخذ أماكنها استعدادا لبدأ عملهم حتى يهمس أحد الأطفال الحاضرين. متسائلا إن كان القادمون “جايين يركبوا الكهرباء”. وبنظرة من كاميرا سعيد شيمي للبيوت والحارات ووجوه الناس، ندرك أننا في واحدة من القرى التي لم يذكر اسمها واضحا على الخرائط. وبعد حديث أهل فتحي عبادة وأصدقائه، نعى أنهم جميعا، وقريتهم المنسية من يستحقون وصف أبطال من مصر.
المشهد الأخير هو مشهد وداع الأهل للابن الثاني، الذي نراه في نهاية الفيلم يواصل مسيرة أخيه ذاهبا للجبهة على صوت الأم: “أوعى تنسي الجوابات.. أوعى تنسى يا عبادة”.
وينتهي الفيلم ونحن نراه ذاهبا وعيونهم جميعا تصحبه إلى ما لانهاية.
اقرأ أيضا:
