آل الختّام بدشنا احترفوا الصناعة منذ 200 عام.. وهذه قصة جدهم الأكبر
في أقل من 60 ثانية وبأدوات بسيطة يصنع علي الختّام الأختام النحاسية، بعينين ثاقبتين وذاكرة فوتوغرافية يستطيع أن يصور الاسم معكوسًا في مخيلته لتنقشه أصابعه الماهرة على قطعة النحاس فيصير ختمًا.
لا يقل الأخ الأصغر أحمد براعة، فهو يؤكد أن أصعب ختم مصنوع على طريقة الأكلاشيه بالحفر البارز لا يستغرق أكثر من نصف ساعة معه كونه ينحدر من عائلة عرفت منذ عشرات السنين بعائلة (الختّام) فهي ليست مجرد مهنة بل هي تراث وإرث الأجداد.
آل الختّام
اسمي علي محمد عبدالرحيم عبدالمجيد مصطفى أغا، هكذا عرف الختام نفسه ليفسر لنا كيف أن عائلته احترفت صناعة الأختام في مركز دشنا منذ ما يقرب من 200 عام؟، يقول الخمسيني ذو البشرة السمراء المشربة بالحمرة: “جدنا مصطفى أغا ذو أصول تركية وكان مسؤولا في فترة الحكم العثماني عن الأختام بقرية المحروسة بقنا وحضر إلى دشنا في بدايات القرن التاسع عشر فكان أول من يمارسها في البلدة، وانتقلت منه المهنة إلى والد جدي ومنه إلى جدي وأبي، ومع الوقت أصبحت المهنة لقب وكنية العائلة فيشار لنا حاليا بـ آل الختام، حيث أتقن أنا وإخوتي الثلاثة مهنة أجدادنا ونعتز بلقبنا، لافتًا أن بيت الختّام في الماضي كان يعتبر من القلة القليلة التي تجيد القراءة والكتابة وكان كثيرًا ما يستعان بجدهم في صياغة وكتابة الأوراق التوثيقية وأحيانًا أخرى في قراءة وتفسير ما يرد من مكاتبات أو خطابات.
مهارات
يلتقط أحمد الختّام طرف الحديث، يقول: عندي 46 سنة وبدأت في ممارسة صناعة الأختام وأنا في سن 16 سنة، وقتها كان ثمن الختم “ربع جنيه”، لافتًا أن الأمر يحتاج إلى مهارة خاصة أولًا في القدرة على عكس حروف الاسم الرباعي في شكل صورة ذهنية دقيقة مع مراعاة توزيع الأسماء الأربعة في محيط دائرة الختم وأخيرًا التحكم القوي والدقيق في الأصابع لتنقش الاسم بشكل صحيح باستخدام قلم الحفر الحديدي، ويلمح الختام أنه يتوجب على صانع الختم أن يكون خطه حسنًا ومقروءًا حتى لا يحدث التباس في الأسماء.
إجراءات
يوضح علي الختام أن إجراءات عملية صناعة الختم أيام جده ووالده كانت ابسط من الآن، يروي: كان والدي يعرف جميع أهالي البلدة ويعرف أسمائهم وحتى في حالة أن يقصده شخص ما لعمل ختم لوالدته أو زوجته فكان يكتفي بأن يبصم بأصبعه وختمه في الدفتر الذي يسلم في قسم الشرطة، يعلق الختام: “في ذلك الوقت كان أغلب الأهالي أميين”، أما حاليًا اختلفت الإجراءات وأصبح من الصعب التعرف على الجميع فيتم تصنيع الختم من واقع بطاقة الرقم القومي ومطابقتها مع صاحب الختم وتوقيعه وبصمته في الدفتر، لافتًا أن هذه الدفاتر تسلم في مديرية الأمن بشكل دوري لتوثيق تلك الأختام وفي حالة نشوب مشكلة ما بشأن أحد الأختام يتم الرجوع إلى تلك الدفاتر لمعرفة من قام بصنعه ومن استلمه.
الختم البطل
ويروي علي الختّام وقائع جريمة قتل كان بطلها الختم الذي صنعه ليكشف تفاصيل الجريمة وفاعلها، يقول علي: في التسعينات استدعيت أنا وكل صانعي الأختام في قنا من قبل جهاز أمني وعرض علينا ختم نحاسي لنتعرف عليه، تعرفت على الختم فورًا وتذكرت ملامح الشخص الذي طلب مني صنعه لوالدته وتذكرت أنني لم أتعرف عليه فطلبت منه صورة من بطاقة الرقم القومي، وبالفعل أخبرت أجهزة التحقيق بما لدي من معلومات فطلبوا مني إحضار الدفتر الذي به توقيعه وفي اليم التالي فعلت واكتشفت هناك أن ذلك الشخص تحايل على امرأة مسنة كان يستأجر منها أرضًا فقام بتحرير عقد بيع بعد أن صنع لها ختما ولما رفضت حاول أن يختمها عنوة فماتت وهي قابضة على الختم ،ولما خاف من افتضاح أمره ألقى بجثتها في الترعة فلما أخرجت الجثة وجدوا القتيلة ما زالت قابضة على الختم.
خطوات
يشرح أحمد الختّام طريقة عمل الختم النحاسي باستخدام الأدوات نفسها التي استخدمها جدوده، الملزمة وهي عبارة عن (شاسيه) حديدي دائري مثبت بمسمار حديدي غليظ مغلف بالخشب العريض وأسفله خابور خشبي يوضع فيه الختم الفارغ لسهولة إمساكه وتثبيته، والأداة الثانية هي قلم الحفر وهو قضيب حديدي على شكل متوازي الأضلاع ومدبب من الزوايا الأربعة ذو يد خشبية وهو أداة الحفر الرئيسية، وأخيرًا المبرد في عملية التشطيب لصقل جسم الختم وإزالة نتوءات المعدن.
ويوضح الختّام أن مادة صنع الختم تحتوي على الرمل الناعم بجانب النحاس ليصبح أكثر قوة ومتانة، ملمحًا أن سعر الختم أيام جده كان لا يتعدى الخمسة قروش أما حاليًا فيتراوح ما بين 20 و35 جنيهًا بحسب صعوبة وطول الاسم، فبعض الأسماء تكون كلها مركبة ويجب نقش الاسم رباعيًا، مثلًا عبدالرحيم عبدالمجيد عبدالحميد عبدالله، وهنا تظهر براعة الختام في حفر هذا الاسم في دائرة قطرها على الأكثر 2 سم وبشكل واضح ومقروء.
ختم دهب
يعود علي الختام بذاكرته إلى الوراء حين كانت صنعة الختام في أوجها قائلًا: “رغم أن سعر الختم لم يزد عن ربع جنيه بس كنت أعمل في اليوم اكتر من 50 ختمًا، أما حاليًا يدوب من 5 لـ10 أختام في اليوم”، ويلفت الختّام أنه في الماضي كان بعض الأهالي يفضل أن يصنع له ختم على طريقة الأكلاشيه أي بالحفر البارز على النحاس مع تمييز الاسم بعلامة هلال أو نجمة مثلًا، وكان ذلك نوع من الاحتياط حتى يستطيع تمييز ختمه، وكان الأعيان أحيانًا يطلبون ختم الفضة، ويروي الختام أنه يتذكر منذ ما يقرب من 20 عامًا جاءه شخص من الأثرياء من قرى دشنا وطلب منه أن يصنع ختمًا ذهبيًا لوالدته، كلف وقتها ما يعادل آلان بضعة آلاف من الجنيهات، والسبب أنه أراد أن يبر بقسمه بأن يصنع ختمًا ذهبيًا لوالدته.
الصيت
ويلفت أحمد الختام أن مهنة صناعة الأختام لم تعد مثل السابق بسبب انتشار التعليم، معلقًا: “إحنا شغالين عشان الصيت، دي مهنة الجدود”، لافتًا أن المهنة لم تعد مهنة لجني المال وأنه وإخوته يعملون في مهن أخرى وفي أوقات الفراغ يتبادلون الجلوس أمام محكمة دشنا لصناعة الأختام، ويتوقع الختام أن تنقرض المهنة تمامًا خلال العشر سنوات القادمة.
متاعب
ويلفت أحمد الختام أن من ضمن متاعب المهنة مشاكل اجتماعية تطرأ بسبب الأختام، لافتا إلى أنه في بعض الأحيان يحضر شخص يريد عمل ختم لوالده المتوفي ليتحايل على باقي الورثة وربما كانت تربطه بي صلة اجتماعية وحين أرفض تحدث مقاطعة وخصام وأحيانًا يتقدم بشكوى كيدية ضدي لرفضي الانصياع لطلبه الذي ينافي شرف المهنة، ويعلق الختام: “أهم حاجة في مهنتنا الأمانة”.
14 تعليقات