هل تتدخل الآثار لإنقاذه؟.. الجامع العمري في قوص مهدد بالانهيار
لعبت الصدفة مؤخرًا دورًا كبيرًا في اكتشاف واقعة تنقيب عن الآثار أسفل الجامع العمري بمدينة قوص بقنا. إذ أثبتت محاضر المعاينة الرسمية وجود احتمالية لانهيار بعض من أجزاء الجامع الذي يعود للفترة الفاطمية. وزارة الآثار بدورها اكتفت بإرسال لجان معاينة للموقع، دون أن تتخذ طوال الفترة الماضية أية إجراءات لإنقاذ الجامع الأثري.
الواقعة الأخيرة ذكّرت المهتمين بالتراث والآثار بعمليات الهدم التي استمرت لسنوات في محيط الحمام العثماني الأثري بقنا، والتي لم تتخذ وزارة الآثار حينها أية خطوات جادة لدرء الخطورة عن الحمام الأثري أو اعتماد مشروع لترميمه. لتقرر في النهاية شطبه من عداد الآثار الإسلامية ومن ثم هدمه بشكل كامل.
بداية الواقعة
يحكي محمد الصاوي، مفتش آثار منطقة قوص للآثار الإسلامية (كبير مفتشين منطقة آثار قنا سابقًا) بداية الواقعة ويقول: “البداية عندما تلقيت مكالمة هاتفية من أحد المواطنين يبلغني فيها بوجود مجموعة من الأشخاص يقومون بالحفر أسفل المسجد العمري بقوص”. وقد أبلغه المتصل وقتها أن الحفر سيؤدي حتمًا لسقوط الجامع نتيجة الحفر أسفل الحائط.
ويضيف الصاوي: قمت بالاتصال ببعض المسؤولين الذين نصحوني بالتغاضي عن الأمر. لكنني صممت على رأيي لرغبتي في معرفة حقيقة ما يجري. وبالفعل تواصلت مع الدكتور جمال مصطفى، رئيس قطاع الآثار الإسلامية، وأبلغته بالواقعة. وقرر تشكيل لجنة بعضويتي لمعاينة الوضع على الطبيعة. فعندما ذهبنا للموقع لم تظهر أية آثار للحفر داخل الجامع، لذلك قمت باستدعاء المواطن صاحب البلاغ الذي أرشدني بنفسه لمكان الحفر. وبعد المشاهدة على الطبيعة انتقلت معه إلى النيابة وبدأت أشرح لوكيل النيابة خطورة الموضوع، وحررت محضرًا رسميًا برقم 2646 إداري مركز قوص.
ويستطرد: النيابة أبلغتنا بضرورة عمل معاينة من جانب المجلس الأعلى للآثار، لكن إجازات عيد الأضحى حالت دون إرسال قرار النيابة للوزارة. فضلًا عن تقاعس بعض موظفي الوزارة عن إنجاز التقرير في وقتها.
وأكمل: فوجئت باتصال من أحد المواطنين يبلغني من خلاله أن التنقيب على الآثار عاد في نفس الموقع؛ أي أسفل حائط المسجد العمري بقوص. وهو أهم أثر إسلامي داخل منطقة قنا التي لم يتبق داخلها الكثير من الآثار الإسلامية وخصوصًا بعد أن تم شطب وهدم الحمام العثماني الأثري بقنا.
لذلك وبصفتي مأمور ضبط قضائي بتفتيش آثار قوص توجهت في الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل للموقع. وبعد أن تأكدت من واقعة التنقيب طلبت الشرطة، وبالفعل اتجهت قوة أمنية للموقع من مركز شرطة قوص، وقاموا بالقبض على شخصين وهرب ثلاثة أشخاص آخرين. وتم اصطحاب الشخصين لديوان الشرطة وتحرير محضر رقم 2646 إداري مركز قوص. وإحالتهم للنيابة العامة التي أمرت بتشكيل لجنة من المجلس الأعلى للآثار.
استمرار الحفر
ويتابع الصاوي: للأسف أخطأ الخطاب طريقه إلى مكتب الآثار «المصرية» بقنا وليست «الإسلامية». وبدأت أعمال المعاينة من جانب لجنة غير متخصصة في الآثار الإسلامية. إذ استخدمت اللجنة كلمات «فضفاضة» مثل أن الحفر -ربما- يكون بغرض التنقيب خلسة للآثار. رغم أنه من الواضح تمامًا أن الحفر كان بغرض التنقيب خلسة، وذلك من خلال القطع العرضي بعد النزول من المستوى الرأسي، وذلك لاستمرار الحفر بقطع أفقي للوصول في نهاية الأمر للحائط الخاص بالمسجد العمري. وقد تم هدم سبعة مداميك بالحائط الخاص بالمسجد الأثري والدخول بعد كسر الحائط مسافة لا تقل عن ثلاثة أمتار ونصف.
ويقول: بناء على ما ذكرته من تعمد الحفر بهدف السرقة، تقدمت بشكوى للنيابة الإدارية ضد أعضاء اللجنة المشكلة. وقمت بإرسال تلغراف للنائب العام، بسبب الاستعانة بلجنة غير متخصصة. وعليه فقد شكلت النيابة العامة لجنة متخصصة من الآثار الإسلامية. مع الاستعانة بتفتيش منطقة آثار «قوص» كونها صاحب الولاية والإشراف على المسجد.
اللجنة أقرت بوجود أعمال حفر داخل المسجد، مع وجود إتلاف لحائط الجامع. وتمت إحالة القضية لمحكمة الجنايات. لذلك أطالب من القطاع وبشكل فوري بضرورة درء الخطر عن المسجد، وبشكل عاجل. فبعد عمليات الحفر ظهرت كميات كبيرة من مياه الصرف الصحي والمياه الجوفية، والتي تهدد بانهيار المنزل الموجود بداخله الحفر. وبالتالي المنازل المجاورة، وكذا الحائط المشترك بين تلك المنازل والجامع الأثري. كما أنه من الممكن ونتيجة للكسر الذي أحدثه التنقيب أن تدخل منه المياه وتتسرب إلى أرضية المسجد؛ وبالتالي انهياره بالكامل.
ماذا نعرف عن الجامع العمري؟
وفقًا لموسوعة مساجد مصر وأولياؤها الصالحين، فقد ذكرت الدكتورة سعاد ماهر، أستاذ الآثار الإسلامية الجامع العمري بقوص، أنه من أشهر مساجد مدينة قوص وأقدمها، فهذه التسمية لا تعني بالضرورة أنه يعود لعمرو بن العاص، ولكنها تعني أنه أقدم مسجد في المدينة نسبة إلى أن الجامع العمري بالفسطاط هو أقدم مساجد مصر. ويرجع تاريخ هذا المسجد إلى العصر الفاطمي إلا أن التغيرات والتجديدات التي أدخلت عليه أفقدته الكثير من معالمه الأصلية. فقد تم تغيير الكثير من عقوده الداخلية في إيوان القبلة من خلال العمارة التي قام بها محمد بك قهوجي سنة 1333هـ. كما أن التجديد الذي حدث للمئذنة أفقد الجامع وجهاته الرئيسية.
كما يوجد في هذا الجامع منبر على جانب كبير من الأهمية. إذ أنه يعتبر من أقدم منابر مصر. المؤرخة فقد أنشئ سنة ٥٥٠ هجريًا، وهو من خشب الساج الهندي المحفور حفرًا بارزًا والمزخرف بالحشوات المجمعة التي بدأت تظهر في أواخر العصر الفاطمي في القرن السادس الهجري.
وقد سجل تاريخ المنبر على لوحة تذكارية فوق باب المنبر. وفي منتصف البائكة الثالثة في إيوان القبلة يوجد محراب يرجع تاريخه إلى العصر الملوکي، وزخرفت واجهته بزخارف جصية قوامها عناصر نباتية وهندسية بديعة التكوين. وتشبه زخارف هذا المحراب زاوية زين الدين يوسف بالقاهرة وكذا المحراب المملوكي في جامع عمرو بن العاص. ويحيط بالمحراب كتابة بالخط الثلث المملوكي نصها: «إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ». وحول طاقية المحراب قوله تعالى «قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا».
مقصورة من الخشب
وفي النهاية البحرية للبائكة الرابعة والخامسة من إيوان القبلة توجد مقصورة من الخشب الخرط على جانب عظيم من الأهمية. فالجانب الشرقي من المقصورة باق على صورته الأولى، ويتكون من حشوات بها زخارف محفورة حفرًا عميقًا وكذا الجانب الغربي. وكذا باب المقصورة مكون من حشوات سداسية الشكل يحيط بها من أعلى وأسفل أشرطة من خشب الخرط الذي انتشر استعماله في العصر المملوكي.
وداخل هذه المقصورة يوجد كرسي مصحف مصنوع من الخشب المصنوع بطريق الحشوات المجمعة والمطعم بالعاج والصدف. ويحيط بالكرسي شريط من الكتابة بالخط النسخ المملوكي. وتتكون الكتابة من آية الكرسي والنص الآتي: أمر بإنشاء هذا الصحف المبارك المقر الكريم العالي المولى الأميري الأجل عز الدين خليل المالكي الناصري أعز الله أنصاره محمد وآله. ومن المرجح أن يكون منشئ المحراب المملوكي بالبائكة الثالثة بإيوان القبلة؛ أي أنها جميعها ترجع إلى أوائل القرن الثامن الهجري.
ويوجد أمام المحراب المملوكي عمود من الرخام تعلوه (طبلية) خشبية عليها نصان من الكتابة الكوفية، نقلت إلى متحف الفن الإسلامي بالقاهرة. وقد قام بتحقيقهما وقراءتهما جاستون فيت. فوجد أن الكتابة تحتوي على تاريخ سنة 473هجريًا. كما عثر على اسم سعد الدولة سارتكين المتولى قيادة الجيوش الفاطمية في ولاية قوص وثغر أسوان المحروس. لذلك أرجح أن منشئ هذا الجامع هو بدر الدين الجمال أمير الجيوش في عهد الخليفة المستنصر بالله سنة 473 هجريًا. وذلك على يد سعد الدولة سارتكين قائد جيوش المنطقة. وفي سنة 550 هجريا أمر الصالح طلائع وزير الخليفة الغائر بعمل المنبر المبارك.
قبة المسجد
ومن الأجزاء الهامة بهذا المسجد كذلك القبة الموجودة في الركن الشمالي الشرقي للمسجد، وهي منفصلة عن المسجد ويتوصل إليها من دورة المياه. وتقوم القبة على أربعة عقود بطلوها في الأركان صفا من المقرنصات، مما حول المربع إلى مثمن أقيمت فوقه القبة. أما من الخارج فالقبة مضلعة، ويتخلل هذه الأضلاع فتحات على شكل نجمة سداسية. وقد أنشأ هذه القبة، كما جدد بعض أجزاء المسجد مقلد بن على بن نصر. وأثبت أعماله هذه في لوح رخامي مثبت في نهاية الجدار الشرقي. نصه: (بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وعلى آله نبيه الطيبين الطاهرين. أمر بتجديد هذا الجامع المبارك العبد الفقير إلى رحمة الله تعالى مبارك بن كامل بن مقلد بن على بن نصر بن منقذ الناصري الفخري في شهور سنة ثمان وستين وخمسمائة).
ويحتوي الجامع على لوح تذكاري آخر مثبت على باب الميضأة، قد نقش في وسطه شكل مشكاة. ثم كتب تحته اسم المقرئ الشيخ الصالح جمال الدين محمد التاجي، وتاريخ وفاته سنة 717 هجريًا.
ومن الإصلاحات التي أجريت لهذا المسجد تلك العمارة التي قام بها الأمير محمد كاشف سنة 1333 هجريًا. وقد أثبت الأمير عمارته للمسجد في ثلاثة مواضع، أحدها في صحن الجامع والثاني على باب الميضأة. أما الثالث فقد ثبت على المدخل الرئيسي للمسجد. ويعتبر مسجد قوص أكثر مساجد الجمهورية احتواءً على اللوحات التذكارية التي تثبت كل إضافة أو إصلاح أو ترميم.