«موسوعة القرافة».. لملمة التاريخ من أمام الجرافات

في وقت أزالت جرافات الحكومة مساحات واسعة من جبانات القاهرة، ما أدى لاختفاء أضرحة تاريخية على درجة عالية من الأهمية الفنية والأدبية والتراثية، جاء الحديث عن ضرورة التوثيق لإنقاذ ذاكرة المكان قبل مسحها، وحماية ذكرى تراث يُهدر دون حساب. لذا يشكل صدور «موسوعة القرافة: التوثيق قبل الاندثار» مؤخرًا خطوة مهمة نحو مزيد من التوثيق لتراث جبانات القاهرة، وهو تراث يتسع ليفتح الباب أمام طيف واسع من أشكال التوثيق، ومن هنا تبرز ضرورة الاحتفاء بهذا العمل الضخم وما بذل فيه من مجهود كبداية لمجال بكر.

***

الكتاب الصادر حديثًا في ستة أجزاء، قام عليه كل من حسني جعفر، الباحث التراثي، وآية إبراهيم، المرشدة السياحية، وتم النشر بالجهود الذاتية للمؤلفيْن الموثقين لما في الجبانات من معالم، مما يكشف عن حرص شديد على التراث المبدد، وحماية ذكراه قبل الإزالة. وهو حرص لا نجده للأسف عند حكومات تتفنن في تدمير ما تمتلك من تراث إنساني لا يعوض، وتمنع من يسعى للتوثيق بالعدسة والكلمة. ومن هنا أهمية إضافية للموسوعة التي تضم ثروة من التوثيق المصور لمعالم الجبانات بالصور والشرح، وتوثيق ما على المنشآت من كتابات، فضلا عن توثيقهما لأحواش ومقابر تاريخية لم يدخلها غيرهما.

إهداء المؤلفين للموسوعة جاء “في حب هذا البلد“، أما التصدير الذي كتبه أبو العلا خليل، الباحث الأثري المرموق، فحمل نفسًا حزينًا على ما يجري في الجبانات من هدم بقرار حكومي. إذ قال خليل: “يجيء إنجاز هذا المصنف… جريًا على نهج كتب المزارات، ولكنه تعداها إلى العناية بالآثار المادية ونقل نصوص شواهد القبور من حيث هي أدلة مادية، ووثائق تاريخية يتعذر الطعن والتشكيك فيها. ومع ذلك، ننبه أنه وإن كان يعد عملًا علميًا مهمًا، إلا أنه لم يعن بما يشغل الباحث الأكاديمي المتخصص. فالكتاب يوثق الشواهد، ويقرأ النصوص كما هي، ثم يترك دراسة الخط والمضمون والزخرفة وعوامل التلف للباحث الأكاديمي، لأنه مضطر إلى التوثيق قبل الاندثار، ويهرول أمام الحداثة خوفًا من التهامها للآثار، أما الدراسات المتخصصة العميقة، فلها رجالها ولها وقتها، ويمكن تداركها طالما تم توثيق ما نود دراسته“.

موسوعة القرافة
موسوعة القرافة
***

ما كتبه أبو العلا خليل، مهم جدا في توضيح موضع (موسوعة القرافة) وأهميته، فهي تنتمي إلى فئة الكتب التوثيقية في المهام الأولى، أي الاهتمام بإعطاء مادة خام وفريدة عن جبانات القاهرة، يستفيد بها طيف واسع من الباحثين والمهتمين والقراء غير المتخصصين في  التعرف على هذا الكنز المعرفي الذي لا نعرف محتواه بدقة بسبب تشعبه وكثافة محتوياته، فضلا عن قلة الجهود العلمية المنشورة لتوثيق الجبانات، وهو عجز واضح في المكتبة المصرية التي لم تنتج إلا القليل من النصوص التي تتعاطى مع تراث جبانات القاهرة. وعلى الرغم من إنجاز العديد من الرسائل الأكاديمية في الموضوع كرسائل دكتوراه وماجستير، إلا أنها للأسف تظل حبيسة الأدراج ولا يتم الدفع بها للنشر.

القائمان على موسوعة القرافة يعترفان بموقع عملهم المعرفي، فتأتي مقدمتهما لتقر بأن “الكتاب يعتبر مرشدك للمزارات والآثار التي لا زالت موجودة على أرض الواقع، مع الإشارة إلى ما اندثر منها وتحديد موقعه -بقدر المستطاع- كي يصبح وثيقة تاريخية للأجيال القادمة كتوثيق واقعي بالشواهد والتراكيب والموقع الجغرافي والخرائط، مع قراءة النقوش والنصوص الكتابية على شواهد وتراكيب المدافن وتراجم لأصحاب تلك القبور والمزارات، وإرفاق خريطة بموقعها الجغرافي“. ويعتبر اهتمام المؤلفيْن بالخرائط وتحديد المواقع عليها من أهم الإضافات التي جاءت في التأريخ للجبانات، إذ لم تهتم الكتب القديمة المعنية بهذا الفن بموضوع الخرائط، وهي إضافة مهمة خاصة إذ علمنا أن الكثير من المقابر التاريخية تم إزالتها، خصوصًا في السنوات الأخيرة.

***

وهما يشددان بتواضع جم على طابع الموسوعة بأنها “ليست عملًا أكاديميًا، وإن ظهر بهذا المظهر، إنما هو كتاب موجه للجميع، القارئ العادي والمتخصص، هدفه توثيق تاريخ تلك البقعة التاريخية المباركة من تراب مصر المحروسة“. ورغم ما في هذه الكلمات من تواضع، إلا أن العمل سيكون له مكانة مهمة كونه محطة أساسية في تاريخ طويل لتوثيق جبانات القاهرة، بدأ قبل قرون عديدة، ومستمر حتى يومنا هذا مع تطور آليات التوثيق والنشر، وهو ما نراه واضحًا في موسوعة القرافة، التي تستفيد من تصوير المؤلفين لمئات من شواهد القبور والأضرحة والقباب.

تطوف «موسوعة القرافة» في تاريخ الجبانات، وتقدم مادة تاريخية على هامش التوثيق، سواء باستعراض الأماكن الروحية التي تضم مشاهد آل البيت والأولياء وكبار العلماء، أو قبور الولاة والملوك والسلاطين، أو الشخصيات العامة في القرنين الأخيرين الذين دفنوا في الجبانات. كما تقدم الموسوعة بعض المداخل المنفصلة لمناقشة قضايا تتعلق بالجبانات وعالمها بشكل مكثف، مثل سوق الجمعة الشهير ببيع الحيوانات، والألقاب على شواهد القبور، ودلالة غطاء الرأس على شواهد القبور. كما خصص الجزء السادس والأخير من الموسوعة لمقابر أسرة محمد علي الملكية، وهو جزء حافل بالتفاصيل المهمة.

***

ومن الأمور التي تنفرد بها الموسوعة تسجيل شواهد مكتشفة لأول مرة، ما يكشف عن حجم الثروة الهائلة التي تحتويها الجبانات، ولم تسجل وتوثق بعد. والموسوعة زاخرة بهذا النوع من المعلومات الفريدة، فمن الشواهد المكتشفة شاهد الشيخ سيد الكولي، وبقايا ضريح العارف بالله سيدي محمد المغربي، ومقابر بني المعافر. كما تقدم الموسوعة معلومات إضافية حول فنون المقابر المختلفة، من الكتابة على شواهد القبور والخطوط المستخدمة، فضلا عن معلومات اجتماعية تتعلق بعالم الموت عند المصريين، وكذلك الجانب المعاصر للجبانات ومن يعيش فيها. إذ حرص المؤلفان على إضافة بُعد حميمي بذكر الكثير من تفاصيل علاقتهما بساكني الجبانات، فالكتاب بأجزائه المختلفة كنز يمكن للباحثين من مختلف التخصصات النهل منه في أبحاثهم المختلفة.

وينتمي عمل حسني جعفر وآية إبراهيم إلى تراث عريق تكاد تنفرد به مصر، إذ ظهر فيها فن الكتابة عن المزارات، والتي نتج عنها مجموعة من الكتب الفريدة، تعود بدايتها على الأرجح إلى العصر الأيوبي واستمرت حتى العصر العثماني، وصل لنا منها سبعة كتب أشهرها: (الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة) لشمس الدين محمد بن الزيات المتوفى سنة 814هـ/1441م، و(تحفة الأحباب وبغية الطلاب في الخطط والمزارات والتراجم والبقاع المباركات)، لنور الدين علي بن أحمد السخاوي الحنفي، المتوفى سنة 887هـ/ 1482م، وهي كتب معنية برصد مسار زيارة مقابر الشخصيات الدينية ذات الأهمية الروحية عند المصريين. وخلال الكتاب يرصد المؤلف أماكن توزع المقابر ومن دفن فيها من المشاهير، ومن اللافت أن الدكتور أحمد جمعة، يقوم حاليًا على تحقيق هذه النصوص في سلسلة تصدر عن المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة.

***

(موسوعة القرافة) تتزامن مع الهجمة الحكومية الشرسة لهدم المقابر في جبانات القاهرة المختلفة، ما يزيد من قيمة الموسوعة التي تأتي في ظل زخم متصاعد من المهتمين بتوثيق الجبانات. وهي جهود فردية في الأساس من مهتمين وعاشقين لتراث مصر، إذ سبق وأن أصدر الدكتور مصطفى محمد الصادق، وهو أحد أبرز الموثقين لشواهد الجبانات، كتاب «كنوز مقابر مصر»، المعني بتوثيق عدد من مقابر القاهرة العام الماضي. وهذه النوعية من الكتب من المتوقع أن تزدهر في الفترة المقبلة، خصوصا مع نجاح عدد كبير من المهتمين في جمع مادة مصورة توثيقية لمعالم الجبانات، ستكون شهادة تاريخية وربما الأثر الوحيد عن مقابر تم إزالتها وتسويتها بالأرض في غفلة من الزمن، وبفعل جهلاء فرطوا في تراث لا يعوض وتاريخ لا يستعاد.

اقرأ أيضا:

«الجبانات».. وقائع إبادة معلنة

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر