من يتدخل لإنقاذ «بيت الشريف» الأثري من السقوط؟

أقدم المنازل الأثرية بالواحات تحت تهديد النمل الأبيض

يٌعد «بيت الشريف»، أو «بيت القرشية»، من أقدم المنازل الأثرية بالواحات المصرية، إذ بُني منذ أكثر من 300 عام من الطوب اللبن بأسقف عالية وفناء واسع. يحكي المنزل تاريخ الواحات من خلال الصور القديمة، الأدوات الزراعية، والأزياء التقليدية.

وعلى الرغم من تحويله إلى متحف إثنواجرافي عام 2002، إلا أنه مُهدد بالزوال بسبب هجمات النمل الأبيض الذي أتلف الجدران والأسقف، مع ظهور شروخ واضحة، فهل يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان؟

النمل الأبيض يهدد بيت الشريف الأثري

يقع «بيت الشريف» في قرية “القصر الإسلامية” المُدرجة ضمن قائمة منظمة اليونسكو، ويتبع وزارة الآثار بمحافظة الوادي الجديد. يرجع تاريخ المنزل إلى العصر الأيوبي، ويعد البيت الأخير بالمنطقة الذي لا يزال يحتفظ بشكله وطبيعة بنائه دون تغيير.

قبل دخول المنزل، توجد لافتة خشبية مدون عليها: “بسم الله الرحمن الرحيم، عز يدوم وسعادة الله تنقضي، وبلوغ ما تهوى النفوس وما ترضى.. سلاما مقرونا أبيض أو اسود، أنشأ هذا المنزل المبارك السيد الشريف أحمد وأخوه الشريف عبدالتواب الحسيني، وابن أخيهما في غرة رجب 1109 هجرية”. وقد لفت هذا البيت انتباه د. علية حسن حسين (1932 – 2005)، أستاذة الأنثروبولوجيا بكلية الآداب جامعة بني سويف، في الثمانينيات، خلال دراستها وتوثيقها للثقافة البدائية. وعلى مدار 40 عاما، حرصت على تحويل المنزل إلى متحف إثنوجرافي عن الواحات.

تقول السيدة فوزية خلف الله أو “فوزة”، وهي مساعدة الدكتورة “علية” لـ«باب مصر»: “دكتورة علية كانت متخصصة في مجال نادر في مصر والوطن العربي، وأجرت بيت الشريف من مُلاك البيت وهم ورثة أحمد الشريف”.

هجمات النمل الأبيض

تحدثت السيدة فوزية، المسؤولة عن المتحف حاليا، عن تهديد بيت الشريف الأثري بسبب النمل الأبيض، وتقول لـ«باب مصر»: “البيت أنشئ منذ حوالي 337 عاما، لكن الدكتورة علية تولت إدارته في فبراير 2001″. كانت تهتم بترميم المتحف من أموالها الخاصة حتى وفاتها”.

وتابعت: “لكن الوضع الحالي لا يخفى على أحد، النمل الأبيض يأكل عيدان الخشب. كل عام أضطر إلى استبدالها من مالي الخاص. لكن المتحف الآن يحتاج إلى ترميم شامل، حيث ظهرت بعض الشقوق الكبيرة في البيت ولم يتم تخصيص أي ميزانية لترميمه من قبل الجهات المعنية”.

وأكدت فوزية أن المتحف يقع في بيت الشريف أحمد، وهو أحد أفراد عائلة الشرفاء في القصر، وقد تم تأجيره مقابل أجر رمزي. المتحف يفتقر إلى المرافق الصحية، ولا يوجد فيه سوى الكهرباء.

د.علية حسن والمتحف المنسي

كان المنزل المصنوع من جريد النخيل والطوب اللبن متأثرا بهجمات النمل الأبيض، ورغم ذلك بدأت الدكتورة علية في ترميمه بالكامل بجهود ذاتية، وفي عام 2002 تم افتتاحه رسميا متحفا إثنوجرافيا للتراث الثقافي اللامادي، احتفظت فيه علية بما جمعته خلال 50 عاما من البحث والدراسة الواحاتية.

تقول فوزية: “يجمع البيت تراث ثقافي لأهم 5 واحات، سيوة والداخلة والخارجة والبحرية والفرافرة، ويوجد به مقتنيات نادرة، وأزياء من الواحة، ومشغولات يدوية من الفضة، وحلي وصور قديمة لأشخاص من الواحات، وتوثيق للعادات الواحاتية القديمة”.

وأشارت مرشدة المتحف إلى استمرار توثيق د.علية لتاريخ الواحات من خلال أدواتها البحثية، وجمع هذه المقتنيات حتى وفاتها في عام 2015، وتولت هي استكمال المسيرة.

مطالب بالترميم العاجل وتأهيل بيت الشريف

نددت  سمية عامر، مؤسسة والمديرة التنفيذية لمؤسسة “النهار” الثقافية بالواحات، بحال بيت الشريف وتآكله بسبب النمل الأبيض، دون تدخل من أي جهة لإنقاذه وإنقاذ قرية القصر الإسلامية. ودعت إلى التدخل العاجل لترميمه وتأهيله، ليكون على نفس الشكل المعماري الأصلي الذي تتميز به مدينة القصر الأثرية.

وقالت في تصريحات خاصة لـ«باب مصر»: “يعتبر بيت الشريف تحفة معمارية فريدة تعبر عن الطراز المعماري الذي تتميز به مدينة القصر الأثرية التي تعود إلى العصر الأيوبي، وهي مدينة ذات طابع معماري إسلامي نادر”.

وتابعت: “قد يكون البيت النموذج الوحيد أو من النماذج القليلة جدا التي لا تزال قائمة حتى الآن ويحتفظ بشكله المعماري الفريد المميز لمدينة القصر الأثرية، وتم بناؤه من خامات البيئة المحلية مثل الطوب اللبن َوجذوع النخيل، ويحتوي على حليات وشكل هندسي مميز”.

مقتنيات بيت الشريف.. نظرة على الماضي

داخل متحف “بيت الشريف”، تتكشف أمامك صورا حية من حياة أهل الواحات وتاريخهم العريق. يعُرض في المتحف العديد من المقتنيات التي تظهر كيفية عيشهم، الملابس القديمة، وطرق الحلاقة القديمة، وإعداد الخبز بدءا من طحن القمح بـ”الرحى”، وصولا لحمله على “المطرحة” ووضعه في “الفرن البلدي”، وطريقة صناعة الجبن عن طريق “خض اللبن”.

ويضم المتحف أيضا ببيت الشريف، كل ما يتعلق بتراث الواحات الخمس، مثل طرق ري الأرز خلال الزراعة وتعرف باسم ‘فك الرز’. بالإضافة إلى صور توثق حكم القرى قديما، ويضم صورًا للدكتور أحمد فخري، أول من كتب عن الواحات، والحاج أحمد زايد، أول حارس آثار في المنطقة، اللذان اكتشفا معا آثار الوادي الجديد. يشمل المتحف أيضًا العديد من الأدوات القديمة مثل الرحايا، الفرن البلدي.

حماية التراث المادي والشفهي للواحات

تطرقت سمية للحديث عن جهود المؤسسة في الحفاظ على التراث الثقافي والفني لمنطقة الواحات الداخلة في الوادي الجديد. وقالت: “نحن مؤسسة ثقافية تركز على حماية التراث المادي والشفهي للمنطقة، وخاصة الصناعات الإبداعية التي تشتهر بها الواحات”.

وتابعت: في الآونة الأخيرة، لاحظنا أن العديد من المواقع الأثرية في المنطقة أصبحت مُهددة بسبب التغيرات المناخية، حيث بدأت بعض المباني التاريخية تتعرض للتلف بسبب التآكل أو هجمات النمل الأبيض، خاصة أنها مبنية باستخدام مواد طبيعية مثل الخشب وجريد النخل، ما يجعلها عرضة للتدهور.

وأضافت سمية: “تعد مدينة القصر الإسلامية في الواحات الداخلة واحدة من أقدم المدن الأثرية في المنطقة، يعود تاريخها إلى العصر الأيوبي، كما تحتوي على آثار مملوكية أيضًا. هذه المدينة تتميز بعمارتها الفريدة التي يصعب العثور على مثيل لها في مصر. وتم تصنيفها كمدينة أثرية من قبل اليونسكو في أواخر الثمانينات، وإيقاف البناء والزراعة فيها، مما دفع سكانها إلى الانتقال إلى أطراف المدينة”.

وأردفت: “العديد من المباني، مثل ‘بيت القرشية’ الذي يعود إلى حوالي 400 عام، بدأت تتعرض للتداعي. هذا البيت مثالاً مميزًا للعمارة الأيوبية، يحتاج إلى ترميم متخصص، لأن يصعب إصلاحه باستخدام الأساليب الحديثة بسبب تعقيد تصميمه المعماري، ويتطلب إشراف معماريين وأثريين متخصصين”.

موقع سياحي منسي

تسعى سمية عامر وفريقها من مؤسسة النهار الثقافية إلى تكثيف الجهود من أجل لفت الانتباه لترميم “بيت الشريف”. وتردف لـ«باب مصر»: “نناشد المسؤولين، سواء الحكوميين أو المؤسسات الثقافية المستقلة أو حتى الهيئات الأجنبية، للمساعدة في إنقاذ بيت الشريف والحفاظ عليه من التدهور والسقوط”.

وتشير إلى أن البيت يعاني من الإهمال منذ وفاة الدكتورة علية، ورغم تصنيفه متحفا رسميا وبيت أثري. إلا أنه لم يحظَ بأي اهتمام من الدولة أو المؤسسات. وتتابع: “بدأنا العمل بالبيت قبل عامين. ورغم ذلك، لا نملك الإمكانيات اللازمة لترميمه بشكل كامل، إلا أننا نحاول الحفاظ عليه وجذب الأنظار إليه كموقع سياحي مميز. بالإضافة إلى تعريف الناس بأهمية المكان والتراث الواحاتي بشكل عام”.

“هل البعد عن المدن الرئيسية في مصر سببا في إهمال بيت الشريف ومدينة القصر؟”. تجيب د. سمية وتقول: “من واقع تجربتي، أعتقد أن التراث والثقافة في مصر ليست بوضع اهتمام الدولة ولا يتأثر بالمكان. وفي حالة مدينة القصر فهي بحاجة للتسويق وهو ما نحاول القيام باعتبارنا المؤسسة الثقافية الوحيدة بالواحات الداخلة”.

تغير المناخ وتدهور مدينة القصر الأثرية

الغريب أن المدينة ظلت قائمة على مدار عشرات الأعوام الماضية، فلماذا تزداد هجمات النمل الأبيض الآن، تفسر د. سمية السبب قائلة: “تزداد هجمات النمل الأبيض بالتزامن مع الرطوبة والتي تتوافر عند هطول الأمطار”.

وتستطرد حديثها: يكمن الخطر في غياب الحماية اللازمة ضد هطول الأمطار، في الماضي، لم تشكل الأمطار خطرًا كبيرًا على المباني الطينية في المدينة الأثرية. حيث كانت أمطارًا خفيفة لا تؤثر عليها. ولكن في السنوات الأخيرة، أصبحنا نلاحظ زيادة في غزارة الأمطار نتيجة للتغيرات المناخية، مما يشكل تهديدًا حقيقيًا لهذه المباني.

“الحاجة للتدخل والترميم العاجل لا يقتصر على بيت الشريف فقط. بل مدينة القصر ككل والتي تعاني من هجمات النمل الأبيض، التي تصيب المباني الطينية وتفتك بالأخشاب بسرعة شديدة. وتحول السقف والأبواب والنوافذ والحليات إلى ما يشبه نشارة الخشب. ويؤدي إلى انهيار المباني لاحقا” هكذا وصفت د.سمية الحاجة للتدخل والترميم.

قرية القصر الإسلامية الأثرية

بيت الشريف ليس الأثر الوحيد بالمدينة، إذ يعود تاريخ نشأتها بوضعها الحالي إلى العصر الأيوبي، وتتميز بطراز معماري نادر ونظام هندسي مميز. وتتكون من بيوت متلاصقة وبينها أزقة وسقائف تسمح بدخول الهواء بشكل مدروس فيما يشبه التكييف في الصيف.

وتستكمل سمية: “في قلب المدينة ما تسمى المدرسة أو المحكمة، والتي استخدمت في بعض العصور كمدرسة وفي عصور أخرى محكمه شرعية. وللمدينة بوابات كانت تغلق في وقت الخطر عند تعرضها لأي هجوم خارجي”. وتضم المنطقة عدة ورش بدائية تراثية خاصة بالحرف الشعبية التقليدية مثل (الحدادة – النجارة – وصناعات منتجات خوص نخيل البلح – وغيرها من الحرف). بالإضافة إلى مصنع للفخار بدائي يعود تاريخه إلي تاريخ إنشاء المدينة.

وتضيف: “كانت المدينة مأهولة بالسكان حتى وقت قريب. ثم بدأ السكان بالخروج منها وبناء منازل جديدة خارج نطاقها منذ حوالي عام 1990. حتى أصبحت خالية تمامًا من السكان في السنوات الأخيرة. وأصبحت المدينة مزارًا سياحيًا مسجلة كأثر في منظمة اليونسكو، ولكنها لا تتلقى أي تمويل من اليونسكو للترميم أو الصيانة”.

بيت الشريف الأثري وهو متحف إثنوجرافي أسسته الدكتورة علية حسن
بيت الشريف الأثري وهو متحف إثنوجرافي أسسته الدكتورة علية حسن
إحياء التراث الواحاتي

في أقصى الواحات، قررت “عامر” وفريقها الاهتمام بالوضع الثقافي، وعن الصعوبات التي تواجهها، أوضحت: “لا أواجه صعوبات بالمعنى المأساوي. فقد عملت في مجال العمل العام لسنوات طويلة، وتعرضت للعديد من التجارب في أماكن تفتقر إلى الخدمات الثقافية. ومنذ عام 2017 أو 2018، قررنا تركيز جهودنا في منطقة الواحات. حيث إن الفقر والاحتياج الثقافي هما واقع في معظم أنحاء مصر. وهو ما شاهدته بنفسي في منتديات ومؤتمرات عديدة، خاصة في الدول العربية”.

واستكملت: “رغم التحديات، لا أعمل بمفردي، بل لدينا فريق من الشباب الواعي المهتم بقضايا الثقافة والفنون. تكمن مشاكلنا في الدعم اللوجستي والمالي. ولكن رغبة أهل المنطقة في الحصول على حقوقهم الثقافية والفنية واضحة. وهو ما يظهر من خلال المشروعات التي نقدمها والإقبال الكبير عليها. نحن نسعى جاهدين للحفاظ على تواصل دائم مع الجهات المانحة لتمويل مشروعاتنا التي تهدف إلى تدريب وتعليم الشباب، وتقديم أكبر قدر من المعرفة لهم في المجالات الفنية التي تتقاطع مع تراثهم، وتعريفهم بكيفية رؤية تراثهم من خلال هذه الفنون”.

وعن الأنشطة الثقافية بالواحات، أضافت: “نحرص على تقديم ورش تدريبية تعليمية تهدف إلى تزويدهم بالمهارات اللازمة والانفتاح على العالم. والتعرف على التجارب المماثلة لما يعيشونه في الواحات. هذه التجارب تفتح أمامهم آفاقًا جديدة من الأمل والمعرفة، وتخلق دافعًا للاستمرار. خاصة بعد تقديرهم للتراث الغني الذي يمتلكونه، والذي لا مثيل له في الخارج. إذا تم العمل على هذا التراث بشكل صحيح، يمكنهم خلق شيء فريد ومتميز يعكس هويتهم الثقافية”.

 اقرأ أيضا:

مشهد خضراء الشريفة: أثر تاريخي نادر مٌهدد بالزوال

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر