من الأدب الفرعوني| لا تضع ثقتك في طول العمر
الصورة المستخدمة في المقالة للوحة حجرية من مقابر العصر الأهناسي وتمثل تقديم القرابين. تؤرخ ما بين الاسرة التاسعة والحادية عشر.
يشير الدكتور سليم حسن في كتابه “الأدب المصري القديم” إلى أن الوثيقة المعروفة باسم “التعاليم التي لقنت للملك مريكا رع”، من أعظم الوثائق التي وصلت إلينا من العصر الأهناسي(2181-2055 ق.م)، وتحديدا فترة حكم الأسرة العاشرة(2130-2040ق.م)، وعلى الرغم من احتواء الوثيقة على الكثير من أخطاء التدوين والإملاء، إلا أنها وبحسب حسن جمعت عددا من النصائح الأدبية والاجتماعية والدينية القيمة بالإضافة إلى احتوائها على تجارب سياسية مهمة في فترة عرفت بأنها من أقسى فترات الضعف في التاريخ المصري القديم؛ والذي عرف اصطلاحا ب”العصر الإقطاعي”.
ويلمح حسن إلى أن النصائح يقدمها ملك مسن لولي عهده الشاب “مريكارع”، مشيرا إلى أن اسم الوالد صاحب النصائح غير معروف تحديدا حتى الآن، ويشير حسن إلى أنه يبدو من سياق التعاليم أن الملك قد وضعها في اللحظات الأخيرة من حياته، لافتا إلى أن النسخة الوحيدة من هذه التعاليم كتبت في عهد الأسرة الثامنة عشر (1549-1292ق.م) في بردية محفوظة بمتحف ليننجراد بروسيا وتشير إلى أن والد الملك مريكارع واجه صعوبات كثيرة للحفاظ على ملكه في وقت زادت فيه الحركات الانفصالية من حكام المقاطعات، كما تشير البردية أن عاصمة حكمه كانت اهناس (بني سويف حاليا)، ويوضح حسن أن الملك المسن اراد أن ينقل لابنه الملك الشاب خلاصة تجاربه الحياتية والسياسية وكيفية مواجهة الأزمات بالحكمة والرأي والسديد .
“القلم أشد بأسا من السيف”
وفي بداية التعاليم يوجه الوالد المسن رسالة واضحة لابنه حول أهمية الكلمة وخطورتها في التأثير على الآخر، منبها إلى أهمية الصدق وضرورة أن يعتمد على تراث الأقدمين من نصائح ومخطوطات، فيورد ناصحا:
“أن الصدق يأتي آية مختمرا حسبما كان عليه الأجداد، فعليك إذن أن تقلد أجدادك . تأمل أن كلماتهم مدونة في المخطوطات فافتحها لتقرأها وقلد معرفتهم، كن صانعا للكلام لتكون قوي البأس، لأن قوة الإنسان هي اللسان، والكلام أعظم خطرا من كل حرب، وهذا أشبه بقولنا “القلم أشد بأسا من السيف”، ثم يردف مضيفا: “أن الرجل الفطن لا يجد من يفحمه، والذين يعرفون أنه أوتى الحكمة لا يعارضونه، وبذلك لا تحدث له مصيبة في زمانه”.
“أسس آثارك على حب الناس”
وانتقل الوالد إلى تلقين ابنه مبادئ وأصول إدارة البلاد داخليا، حيث يقرر أهمية إقامة العدل والمساواة، كما ينصح ابنه بالاعتماد على الشباب في تنفيذ الأعمال لتمتعهم بالطاقة والحيوية، ويخبره بأنه يجب أن يتحلى بصفات الشفقة والرحمة على شعبه، وأن يكون ولائهم له نابعا من الحب وليس الخوف، فيورد قائلا: “اقم العدل لتوطد مكانتك فوق الأرض، وواس الحزين ولا تعذبن الأرملة ولا تحرمن رجلا من ميراث والده، إن فضيلة الرجل المستقيم أحب عند الله من ثور يقدم قربانا من الرجل الظالم”.
ويتابع بقوله: “عل من شأن الجيل الجديد ليحبك أهل الحاضرة، إن مدينتك مفعمة بالشباب المدرب الذين هم في سن العشرين، ضاعف الأجيال الجديدة من اتباعك على أن يكونوا مزودين بالأملاك، على ألا ترفع من شأن ابن العظيم على ابن الوضيع، بل اتخذ الرجل لنفسك بحسب كفايته، عظم من شأن اشرافك لينفذوا قوانينك، لأنهم إن لم يكونوا أهل يسار فإنهم لا يقومون بالعدل في إدارتهم للأمور، لا تكون فظا لأن الشفقة محبوبة، وأسس آثارك على حب الناس، وسيحمد الناس الله على مكافآتك لهم”.
“لاتضعن ثقتك في طول العمر”
وفي هذا الجزء يحذر الملك المسن ابنه مريكارع من خطورة أن يغره طول العمر فيفسد ويفسد، مذكرا إياه بالمحاكمة النهائية للمتوفي وأن الشخص الصالح ينعم في الفردوس مع الأرباب بينما الطالح يعذب في الجحيم، فيقول: “ولا تضعن ثقتك في طول العمر لأنه يعني القضاة ينظرون إلى مدة الحياة كأنها ساعة واحدة، ولكن الإنسان يبعث ثانية بعد الموت وتوضع اعماله بجانبه كالجبال، لأن الخلود مثواه هناك (أي الآخرة) ، والغبي من لا يكترث لذلك، أما الإنسان الذي يصل إلى الآخرة دون أن يرتكب خطيئة سيثوى هناك ويمشي مرحا مثل الأرباب الخالدين (يعني الأبرار المتوفين)، أن الروح تذهب إلى المكان الذي تعرفه ولا تحيد في مسيرها عن طريق أمسها”.
“والله العليم بالأخلاق قد أخفى نفسه”
ويلمح حسن إلى أن الملك المسن يتحدث في هذا الجزء من النصائح عن علاقة المرء بربه سواء في الدنيا أو بعد الممات، كما يفرق بين الصنم وبين الإله الحقيقي، إذ يقرر أن جميع الأصنام ما هي إلا صور توضع في المعابد أما حقيقة الإله فهي أكبر من كل الصور والتماثيل ولا يمكن أن يحدها حيز مكاني أو زمني، كما يشير إلى أن الله قد أخفى نفسه عن مخلوقاته حتى لا يمكن إدراكه، يورد الملك ناصحا: “يمر الجيل متنقلا من جيل لآخر بين الناس، والله العليم بالأخلاق قد أخفى نفسه، إنه الواحد الذي يبهر بما تراه الأعين، فاجعل الإله يخدم بالصورة التي سوى فيها، سواء كانت من الأحجار أم النحاس، لأنه كالماء الذي يحل محله الماء، إذ لا يوجد مجرى يرضى لنفسه أن يبقى مختبئا بل يكتسح الذي (يخفيه)، إن الله عنى عناية حسنة برعيته، فقد خلق السموات والأرض وفق رغبتهم وخفف الظمأ بالماء، وخلق الهواء لتحيا به أنوفهم، وهم الصورة التي خرجت من أعضائه، وهو يرتفع إلى السماء حسب رغبتهم، وخلق النبات والماشية والطيور والسمك غذاء لهم، ويضع النور حسب رغبتهم، وكذلك يجعلهم ينامون ويسمعهم عندما يبكون”.
رب ساعة واحدة تنفع في المستقبل
ويختتم الوالد المسن نصائحة لابنه قائلا: “اقم آثارا باقية للإله لأنها تجعل اسم صانعها يبقى، وضاعف القربان وأكثر من عدد الرغفان واجعل آثارك ثابتة حسب ثروتك، لأن يوما واحدا (أي عمل يوم واحد) قد يبقى إلى الأبد، ورب ساعة واحدة تنفع في المستقبل، والله عليم بالفرد الذي يقوم له بأية خدمة”.
هوامش
الأدب المصري القديم – دكتور سليم حسن – مهرجان القراءة للجميع 2000- من ص 190 إلى ص 197.