ملف| أحمد بهاء الدين.. جماليات الكتابة الديمقراطية
فى حجرة مكتبة احتفظ أحمد بهاء الدين بتمثالين: الأول لغاندي، والثانى لدون كيشوت. غاندى هو المثال الأوضح للرجل المكتفي الذى يكتسب قوته من مقدرته على الاستغناء. أما “دون كيشوت” فهو الفارس المدجج بالسلاح، الذي ظل يحارب “طواحين الهواء”. ربما يلخص هذا الاختيار بعضا من ملامح شخصية بهاء. هو المثقف المستغني الذي شعر بعد تجارب ومعارك متعددة أن الواقع أكبر بكثير من قدرتنا كأفراد على تغيره، واستمر رغم ذلك مدافعا عن قيم الحرية والديمقراطية التي لم تتحقق!
كان بهاء أكبر من مجرد صحفي.. أو مفكر.. إنه عقل كبير، لامع.. لم يفقد قدرته على ربط الأشياء والحوادث والسياحة فى التاريخ والجغرافيا إلا بالرحيل. ربما من هنا كان الإجماع حوله من مختلف القوى السياسية، والتيارات الفكرية رغم تناقضاتها.. وهو إجماع يرجعه جلال أمين إلى “تجرده الرائع فى الحدود الممكنة”. كان بهاء ابنا بارا لليبرالية المصرية، ظل همه البحث عن جماليات الديمقراطية فى الكتابة.. الكتابة التي تمزج بين الوطنية والمعرفة والقدرة على التحليل والنفاذ إلى المستقبل.. وعبرت كتاباته عن توق دائم للعدالة، مستقل الرأى وفردى النزعة، ولا يخضع لكادر تنظيمى.. لم يتمذهب فى كل ما كتب، بل كان يفضل الحوار وسيلة للاقتناع والتعبير والتنبية الدائم إلى خطورة “إيقاع الكلمات” والإصلاحات.. ومن هنا يستطيع أن “يشدك بحضوره.. شديد الجاذبية لتقرأه من الكلمة الأولى حتى التوقيع، جمله متتابعة، مختصرة، مرتاحة، تقول الكثير فى موجز محكم لا شحوم ولا شغت ولا عسر هضم ولا كلشيهات سابقة التجهيز والاستهلاك، ولا كتل أسمنتية”.. كما تقول الكاتبة صافيناز كاظم.
نظرة كلية
في كتاباته لم يكن ينظر إلى أيه قضية بشكل جزئي أو رؤية مبتسرة، وإنما كانت النظرة الشمولية النفاذة أهم ما يحرص عليه، وكان يدعو إلى ضرروة النظر إلى المشكلات على أنها أجزء متصلة، واصفا “السطحية” بأنها النظر إلى المشاكل “على أنها جسد واحد له نبض واحد”، لذا نراه فى معالجته لأي قضية – كما يرصد مصطفى الحسينى- ” يحتفل بالتفاصيل والجزيئات، بما يعتبره كثيرون مسائل صغيرة، بينما مهمتهم هي القضايا الكبيرة..رلكنه لم يكن يقف عند التفاصيل والجزيئات والمسائل الصغيرة، إنما كان يمشى عليها إلى القضايا الكبرى، إلى الكليات” وكان هذا الدخول من التفصيلي إلى الشامل، ومن الجزئي إلى الكلي، متصلا برؤيته إلى المذاهب، فأصحاب المذاهب يفعلون العكس، ينظرون إلى التفصيلي والجزئي واليومي من خلال الكلي والشامل، لذلك يغفلون عن كثير من حقائق الأمور وجواهرها”.
مخه كده
لم يسع بهاء إلى السلطة، بل هي التي سعت إليه، فلم تكن أفكاره صدى لمسؤول ولم يخلع استقلاليته ونديته على باب الدخول، وهذا لم يجنبه الصدام مع عبدالناصر عندما كان نقيبا للصحفيين، فبعد النكسة وقع بيانا إثر مظاهرات الطلاب والعديد من فئات الشعب عام 1968.. أثار البيان مراكز السلطة وجعل شمس بدران يصر على القبض عليه وهو ما رفضه عبدالناصر، الذي قال لمن طالب بالقبض على بهاء: اتركوا بهاء، هو مخه كده!
وفي بداية حكم السادات اقترب كثيرا، لكن لم تغره بقع الضوء، بل دخل في مشكلات عديدة، فعندما أصدر السادات قرارا بنقل بهاء من دار الهلال إلى روزاليوسف، وغضب بهاء غضبا شديدا وكتب للسادات رسالة عنيفة، قائلا: لقد اخترعت الثورة صحفيين وكتابا ودكاترة في كل مجال، ولكني لست أحد اختراعات الثورة فمن حقي أن يؤخذ رأيي في أي أمر يتصل بي شخصيا فلا اقرأه في الصحف دون سابق علم ولا أتحرك كقطعة شطرنج من مكان إلي مكان بلا رغبة. هكذا حدد منذ البداية علاقته بالسلطة لم يسقط في اغراءاتها، بل احتفظ بمساحة من المناورة كافية للحفاظ على استقلاله المهنى. بل وصل به الأمر أن يصف سياسة الانفتاح بأنها “سداح مداح” فى أعنف نقد وجهه إلى رئيس الدولة وسياساته وقتها.
تحول إلى شجرة
كان بهاء يردد دائما: “تعودت طوال حياتى أن أصل حتى الأسلاك الشائكة ثم أتوقف”.. وفي نهاية حياته كان يقول: ” إن المثقف ليس فارسا مدججا بالسلاح يرتدى دروعا حديدية لا يخترقها الرصاص.. المثقف ابن مجتمعه وابن ظروفه التاريخية”. ومن هنا لم يكن يستطيع بفرديته الخالصة ومثالياته التصدى للرأى السياسى المستبد.
عندما وجد بهاء أن كل شىء قد انهار حوله وكل الأحلام احترقت اختار الصمت. عندما لم يحتمل خطايا البشر تحول إلى “شجرة صامتة”، ولكنها مثمرة، كما قال عنه صديقه الفنان التشكيلي عبدالغنى أبوالعنيين.. كم نحن فى حاجة ماسة للعودة إلى بهاء حياته ومواقفه، أفكاره وكتاباته.
اقرأ أيضا
قصة اللقاء الأول بين بهاء وروزاليوسف
معارك بهاء: لم يحارب طواحين الهواء
عندما هدده كامل الشناوي بنشر قصائده: بهاء شاعرا
19 تعليقات