مفاهيم التراث في عالم متغير(1)
مقدمة – إشكالية المفاهيم
الفن والأدب من أكثر الوسائل المؤثرة في تشكيل التراث اجتماعيا، وذلك لما لهما من تأثير وقدرة عاطفية ونفسية. وأيضا لانتشار الصيغ والوسائل المجتمعية التي تعرض الأعمال الأدبية والفنية. إضافة إلى ذلك، يعد الأدب والتراث جزءا لا يتجزأ من كيفية وصول القيم والأفكار التراثية إلى الشعب.
وبالرغم من دور الفن والأدب في تشكيل مما يتكون “التراث” وما يمثله من قيم ومعاني للمجتمعات المعاصرة. إلا أن الجهود التي تقوم بتفعيله في المجتمع وبتحريك أصوله نحو التقدم الإنساني والاقتصادي تركز بالأكثر على التطبيقات العملية. ومثالا على ذلك أن إحياء أو تشجيع الحرف اليدوية ليس إلا وسيلة لإنتاج “أشياء”.
وتكمن المشكلة في الفصل بين ما يسمى “التراث المعنوي” أو “اللامادي” Intangible Heritage و”التراث المادي” Tangible Heritage باعتبارهما أضداد. في حين أن لكلاهما جوانب تتداخل وتكمل أحدهما الآخر في إطار منظومة التراث الثقافي ككل. وكذلك مازال يوجد ميل نحو اعتبار التراث المعنوي – ويُعرف غالبا بـ”الفلكلور” Folklore -بمعنى موروثات “شعبية” – علامة على التخلف وعلى أنه بدائي يعود لما قبل الحداثة.
***
ويؤدي هذا إلى مشكلتين، الأولى هي اعتبار التراث كموضوع يخص “الحنين إلى الماضي” (النوستالجيا Nostalgia). والثانية هي اعتباره كموضوع لمجرد دعم الحرف اليدوية المحلية للسوق السياحية. ويتم ذلك، في الأغلب، على حساب سياقها الاجتماعي التقليدي ودور التراث حاليا في التنشئة الاجتماعية. وفي الحالتين، يتم غالبا عزل التراث المعنوي عن الحاضر المعاش. وقصره على المجال الاقتصادي المرتبط بـ”السياح الأجانب” و”العلماء الأجانب”. ويؤدي ذلك إلى إبعاد وتغريب المجتمعات المحلية من المعاني الاجتماعية وقيمه الخاص بهم وتهميشها ليصبح مجرد سلعة وبضاعة.
وفي محاولة لإظهار كيف أن نهجا جديدا لإدارة التراث كوسيلة لحراك موارد تراث حي نحو تنمية اقتصادية واجتماعية. يمكن أن يُترجم من موقف نظري إلى تطبيقات عملية، قمنا بتصميم مشروع تجريبي في منطقة المعز والجمالية في القاهرة التاريخية.
التراث – من الأسلاف إلى القصور
كطفرة عن المناهج التقليدية لدراسة “بقايا الماضي” من الدمن والمصنوعات و”التحف” التي كانت تندرج تحت “علم الآثار” Archaeology. أصبح “التراث” Heritage مفهوما راسخا في المجتمع المعاصر (سميث وواترتون Smith and Waterton 2013، سميث وآخرون Smith and others 2010). وعلى الرغم من أن مفهومه في المجتمعات السابقة كآثار مبهرة منذ القدم تستحق الاهتمام قد ارتبط في القدم بالأسلاف والأجداد والقديسين. فأنه امتد في وقت لاحق ليشمل التحف والقصور والقلاع كرموز وأيقونات وكأشياء نادرة فائقة الأهمية والقيمة.
إلا أنه في أعقاب الثورة الفرنسية عام 1792، تحول المفهوم الذي يشير للتراث إلى “ميراث” الشعب بدلا من الحكام أو النخبة. ومع ذلك، فقد أشار إلى القلاع والقصور والأديرة والرموز الأخرى للنظام القديم وذلك لمنع “فقدانها” والحفاظ على “الآثار” كـ”ثروة” للأمة في خدمة النظام الجديد. وأعلى هذا من شأن مفهوم “الإرث” (Patrimoine). وهي الكلمة المشتقة من اليونانية بمعنى الأرض أو الأملاك التي تنتج السلع الأساسية للأسرة ويتم توارثها من جيل إلى آخر دون تداولها أو بيعها. وهذا ما أطلق العنان (ستامرز Stammers 2008) للولع بـ”الكنوز” و”التحف” والشغف بجمعها وعرضها وبالكتابة التاريخية.
التراث والقومية
وقد قام الترويج لفكرة الارتباط بين التراث والشعب منذ بداية القرن الـ18 بتمهيد الطريق لتعزيز العلاقة بين التراث والقومية Nationalism. وكانت النتيجة هي تشابك التراث بوظيفة المتاحف والتحف والمباني التاريخية والأنماط المعمارية المستوحاة من التاريخ لدعم الدولة القومية وإظهار تفوق القوى الاستعمارية على حساب رعاياها (هارفي Harvey 2001).
وقد حافظت الدولة الحديثة – بتركيزها على الاقتصاد والصناعة- على الاهتمام بما نسميه “أشياء الماضي” Objects of the Past وتشجيع السياحة. وقد أعلى هذا من شأن صناعة التراث والسياحة الجماعية وخاصةً في أعقاب تدويل رأس المال والإنتاج الصناعي ونظام جدول العمل الروتيني مع الإجازات والتقدم في مجال النقل والاتصالات واستراتيجيات التسويق الفعالة الرامية إلى إغواء العمال وشرائح أصحاب الدخل المتوسط في المجتمع.
وكذلك فقد أدى ظهور الاتحاد الأوروبي إلى نقاش مستمر حول دوره في خلق هوية “أوروبية” وهويات وطنية وتعزيز الاستخدامات التجارية للتراث، مثل السياحة التراثية (أشوورث ولاركبام Ashworth and Larkbam 2013).
التراث – إشكاليات المصطلح
تستخدم كلمة “تراث” هنا كمصطلح شامل يجمع كل من المواقع الأثرية، الآثار، مجموعات العاديات، السجلات والأرشيفات التاريخية، التقاليد الشفوية والموسيقية، الحرف، اللاند سكيب الحضاري والأماكن التاريخية الهامة للمجتمع، والأمة، أو للإنسانية بسبب أو أكثر لما لها من قيم مكتسبة وتجمع دراسة التراث علماء الآثار والمعماريين والجغرافيين وعلماء الأنثروبولوجيا والمجتمع والمتخصصين في الفلكلور (التراث الشعبي) ضمن آخرين، وبذأ يتسع المجال ليتعدى حدود أي علم بمفرده. وتشترك كل هذه العلوم في الاهتمام بمنتجات النشاط البشري في الماضي.
اليونسكو والتراث
كان التوجه نحو العمل من أجل إقرار السلام الدولي كوسيلة لمنع مزيد من الحروب العالمية المدمرة بعد الحرب العالمية الثانية له دورا أساسيا في تشكيل ولاية اليونسكو في مجالات التربية والعلوم والثقافة. وكان مبدأ المجتمع الدولي الذي يمكن تعزيزه من خلال القيم المشتركة والتي ترتكز على الاهتمام بما هو “عالمي” في اتفاقية اليونسكو في بؤرة اهتمام منظمات الأمم المتحدة ومنها اليونسكو.
استخدم مصطلح “التراث” منذ تأسيس مركز التراث العالمي في اليونسكو سنة 1972 (UNESCO 1996)، ليشمل الآثار والمواقع والمباني. وبالرغم من عناية اليونسكو بمواقع التراث “العالمي”، فمن المهم إعادة التفكير في المعايير التي تضعها اليونسكو للاعتراف بمثل هذه المواقع، وأيضا، التبعات المترتبة على شروط ضم “الممتلكات” الحضارية إلى قائمة التراث العالمي. وربما يكون من المهم أيضا إعادة النظر في مصطلح “الممتلكات” (cultural properties) بما يحمله من دلالات اقتصادية ظاهرة، وربما علينا أن نستخدم بدلا منه مصطلح “مورد” “Resource” أو “عنصر” “Element” (لأجل مناقشة تفصيلية عن التراث الأثري وملكيته، أنظر كارمان Carman 2005).
ويمكن أيضا ملاحظة أن هناك ميلا إلى تفضيل مواقع غالبا ما تكون مرتبطة بأبنية معمارية عظيمة ربما تصب في مصلحة جهات سياسية معينة من التاريخ البشري على حساب جهات أخرى لم تستلزم مساهماتها في الحضارة تشييد آثار أو مباني أو عمائر متميزة. إن مصطلح “monument” يثير إشكالية عويصة. وفي الواقع، اقترح جان- لوي لوكسان Jean-Louis Luxen، السكرتير العام لمنظمة إيكوموس ICOMOS (المجلس الدولي للآثار والمواقع) سنة 2002، توسيع مجال المواقع التراثية، بتغيير التسمية من “آثار ومواقع” إلى “التراث الحضاري”، بإضافة الطرق والمناظر الطبيعية والعمائر ذات الصبغة التقليدية الدارجة أو الشعبية (Macdonald 2003).
***
وربما ينبغي حقا تفسير مصطلح monument وعادة ما يترجم إلى “أثر” كي يعنى نصب “تذكاري”. وهو ما يتفق أيضا مع المعنى الأصلي للأثر المشتق من “monere” التي تعنى “يذكر” أو “ينبه” (Zouain 2000). إن المعايير التي تغطى هذا الجانب من “الآثار” (مادة 24.vi من اتفاقية اليونسكو) والتي تنص على أنه “ينبغي للأثر أن يكون مرتبطا بشكل مباشر أو محسوس بحوادث أو تقاليد حية، بأفكار أو معتقدات، بأعمال فنية أو أدبية ذات أهمية عالمية بارزة”. ومع ذلك، “تعتبر اللجنة أن هذا المعيار يوجب تبرير الانضمام إلى القائمة فقط في ظروف استثنائية أو بالاشتراك مع معايير أخرى حضارية كانت أم طبيعية”.
وفي 1972 صاغت اليونسكو ميثاقا اهتم في المحل الأول بالمباني والآثار العظيمة والمواقع الأثرية الفريدة باعتبارها المكون الرئيسي للتراث. وتم ذلك بدعم من جيل من علماء الآثار والمؤرخين والمهندسين المعماريين والجغرافيين الحضريين. ولم تحظ بشرف القيد على قائمة التراث العالمي إلا ما كان ذو قيمة فائقة و”كونية” (Outstanding Universal Value).
وبعد 30 عاما ظهر مفهوم “المناظر الطبيعية الثقافية” Cultural Landscape (غفيلر Gfeller 2013) نتيجة الاهتمام المتزايد بالبيئة منذ السبعينيات. وقد تمت ترجمة ذلك منذ عام 1992 لتشمل قائمة التراث العالمي المناطق الثقافية الحية والمواقع الطبيعية المقدسة و”المناظر الطبيعية الثقافية” في عام 2002 (Hassan 2004، UNESCO 2002).
التراث المعنوي
في سنة 2003، تقدمت اليونسكو باقتراح اتفاقية لإنقاذ التراث المعنوي Intangible Heritage، والتي تشمل الممارسات، و”التعبيرات اللغوية المتوارثة والمهارات المعرفية وكذلك الأدوات، والمواد والتحف والفضاءات الحضارية المرتبطة بها”. وهكذا فإن التراث الحضاري يتكون من عناصر المادي منه مع مكونات وسياقات معنوية. كما يشمل المعنوي مع مكونات وسياقات مادية مرتبطة بأمكنة داخل نسق حضاري وموضع بيئي أو لاند سكيب حضاري (لبادي Labadi 2013).
ولقد ظهر مفهوم إدارة التراث المعنوي نتيجة لبرنامج اليابان الخاص بالكنوز القومية الحية. الذي تأسس سنة 1950 وقانونه لحماية الممتلكات الحضارية. وسبقه في سنة 1989 تبني اليونسكو توصية لإنقاذ الحضارة التقليدية والفلكلور. وإعلانها في سنة 2001، أول قائمة لروائع التراث الشفوي والمعنوي للبشرية.
التراث – نحو مفهوم تكاملي شامل
مع إدخال مفهوم “التراث المعنوي” كتراث “لا مادي” Intangible ظهرت الفجوة بين الفلكلوريين والأنثروبولوجيين الذين يتعاملون مع المجتمعات الحية. وبين علماء الآثار والمهندسين المعماريين والجغرافيين الذين يتعاملون مع المواقع القديمة والمباني والمناظر الطبيعية، خلال المؤتمر الذي عقد في اليابان (20-23 أكتوبر 2004). والذي تمخض عن “بيان ياماتا” Yamata Declration[1].
وانبثقت من ذلك الدعوة للتوفيق بين المفهومين (حسن Hassan 2005 ،2014 ،Munjeri 2004 (Munjeri. من منطلق أن “الأشياء” ومنها “الآثار” ما هي إلا نتائج أفكار وتواصل وأنشطة سلوکیة. مما يتطلب ألا نغفل دور التراث المعنوي في شرح وفهم وتقدير المادي. كما أن المعنوي لا يخلو من أدوات أو تجهيزات مادية ومنها على سبيل المثال الآلات الموسيقية القديمة والاسطوانات.
يساهم التأليف بين المادي والمعنوي في تفهم “الاستمرارية” من المجتمعات السابقة إلى المجتمعات الحية المعاصرة. ولا ريب أن “الآثار” منتوجات ذهنية، فلا وجود لها في عالم الواقع المادي سوى من خلال المبادئ والأطر المعرفية. التي أدت إلى صنعها والحفاظ عليها (حسن 1988 Hassan). كما أن استخداماتها أو قيمة “الأشياء” كـ”تحف” أو “آثار مقدسة” أو “كنوز” أو كعلامات للمجتمعات السابقة أو كرموز وطنية أو سلع قابلة للتسويق تستند إلى مفاهيم اجتماعية معنوية.
ومن خلال دراسة للمجتمعات المختلفة (سميث Smith 2006). فقد ثبت بالفعل أن قيمة التراث ليست بديهية، وأنها ليست متأصلة في الأشياء المادية أو الأماكن. وإنما تستخدم هذه الأشياء والأماكن لتجسد القيم اللامرئية التي تساهم في تنظيم المجتمعات. كما تجسد تماثيل مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول معاني وقيم الوطنية.
التراث الشعبي
وقد تبلورت فكرة “الماضي” في العديد من العلوم الأكاديمية في مناخ فكري يمجد التحف التي تتميز بجودة الصنعة والجمال والرقي. مما يعكس ميلا للزهو بقوة وسلطان الملوك، والمؤسسات الدينية والمحاربين. وبشكل ما أدى هذا الأسلوب في الاقتراب من الماضي إلى خلق علم آثار يقتصر على الكنوز والتحف القديمة (Hassan and Others 2008) وآخر للأكاديميين. وثالث (لا صوت له أو مسكوت عنه) وهو النوع الشعبي المرتبط بحياة عامة الناس. والذي نادرا ما كان موضع الاعتبار في الدوائر الأكاديمية سوى كـ”فلكلور”.
ويشمل هذا التراث المرتبط بحياة عامة الناس على قضايا ومواضيع تشكل جزءًا من الذاكرة الاجتماعية والرموز المادية للتقاليد المتوارثة للمجتمعات الحية. وبينما تعرض المتاحف القومية السجاد والسيوف والمجوهرات الرائعة. فأن معظم الناس [العاديين] نادرا ما يزورون مثل هذه المتاحف. وبدلا من ذلك يكرسون زياراتهم إلى أضرحة القديسين والأولياء ومدافن الراحلين، محتفظين في منازلهم بميراث العائلة والعاديات التي تحمل ذكريات شخصية. ونادرا ما وقع توافق بين مفاهيم الماضي عند النخبة الأكاديمية وبين الماضي الشعبي.
وفي تحليل لحالة دراسية من وسط الأردن، أدرك بورتر وسالزار (Porter and Salazar 2005)، الفجوة والصراع بين ما أسميه هنا “التراث الشعبي” و”القومي” الرسمي. مجرد تطوير المواقع الأثرية، يعزل الموقع الأثري عن المجتمع المحلي بالأسوار والحراس وساحات انتظار السيارات، وأكشاك التذاكر. فتصبح الممارسات والقيم والمعاني المحلية المرتبطة بالموقع داخل المجتمع في مواجهة الحكي ذي الطابع الرسمي والمنسوج من خلال حوار أكاديمي أو ترويحي.
***
كما قد يفقد المجتمع المحلي الموقع كمنطقة للرعي والفسحة واللهو، أو مكان لتجميع القمامة أو محجر أو مكان لقاء. ومع أن التنمية السياحية قد تخلق وتتيح وظائف. إلا أن ذلك لا يعود بالضرورة على المجتمع المحلي بالنفع. كما يحتمل أن تضر بالنسيج الاجتماعي، بالإضافة إلى احتمال تسببها في حرمان معظم أهالي المنطقة من مورد اقتصادي.
ويمكن معالجة كل هذه الجوانب من خلال ضمان المشاركة الشاملة لكل القطاعات، وقادة المجتمع المحلي الذين يحظون بالاحترام. بجانب صانعي القرار المعتادين، وممثلي الحكومات وعلماء الآثار مع توفير أماكن في الموقع. أو في أي مكان آخر، من أجل ممارسة الأنشطة الحياتية والتقليدية لأهالي المنطقة.
ويؤكد توسيع مفهوم التراث لكي يشمل موارده المعنوية “قيمة” وأهمية المواقع الأثرية للمجتمعات. ويؤكد أيضا أنه مغروس في المحتوى الاجتماعي وأنه يخدم الأهداف الاجتماعية. ولذا فهو مغروس أيضا في السياسة والمنظور الثقافي للمجتمع. ولذلك فربط التراث المادي بالتراث المعنوي سيوسع دائرة الناس المهتمين والمستعدين لإنقاذ المواقع والآثار التاريخية والأثرية لأنهم سيقدرون أهميتها لحياتهم. ولأنها يمكن أن تتيح للمجتمعات المشاركة في نسج أدبيات التراث. كما أنها ستجعل أفراد المجتمع على وعي بقيمة “الاستثمار” الاقتصادي لتراثها وكيف يصبحوا شركاء في التنمية الاقتصادية والبشرية والصيانة.
[1] https://www.sacredland.org/PDFs/Yamato_Declaration.pdf
الفصل الثاني من كتاب «تٌراث مِصر الحي: رُؤية مُغايرة» للدكتور فكري حسن.. والذي يصدر قريبا عن دار الثقافة الجديدة.