مريم المجدلية وبطرس الرسول في «اللص والكلاب»
شخصية نور في رواية «اللص والكلاب» لا تنتمي إلى حياة السفَّاح الذي اعتمد نجيب محفوظ على سيرته وهو يكتب الرواية. وهذا يعني أنها شخصية مُتخيَّلة، قام الكاتب برسمها لتلعب دورا فنيا معينا، يخدم رؤيته. و رؤيته هي البطل الحقيقي، لا الحياة الفعلية للسفاح.
صورة القديسة
كانت هناك بدائل كثيرة جدا أمام الكاتب وهو يرسم صورة البطلة، لكن خياله ذهب إلى الصعيد، واختار إحدى الفتيات ليجعلها بطلة. لم تكن بنتا كالأخريات، كانت نموذجا مثاليا للشيطانة التي تمردت على قانون الشرف، ولأنها لم تكن كالأخريات، فقد نجحت في الفرار بحياتها إلى القاهرة. وهناك عاشت حياة الليل، تلك الحياة المملوءة بالدعارة و المساحيق الكاذبة، باستثناء حقيقة صادقة واحدة، وهي حبها لسعيد مهران، الذي رأت فيها (المُخلِّص) الذي منحها فرصة ذهبية لتبدأ حياة جيدة، فربطتْ حياتها بخدمته حتى لحظاته الأخيرة.
لقد رسم نجيب محفوظ صورة بطلة الرواية وهو ينظر إلى صورة القديسة مريم المجدلية، والتي عرفتها الثقافة المسيحية بوصفها العاهرة التائبة، لكن الكنيسة الكاثوليكية أصدرت قرارا أبطلت فيه تعريفها بالعاهرة التائبة، وكان ذلك سنة 1996، أي بعد ظهور الرواية بسنوات طويلة.
لقد اقترب نجيب محفوظ من المؤثرات المسيحية اقترابا حذرا جدا، وحرص على اجتناب النقاط الخلافية بينها وبين الرؤية الإسلامية للمسيح، وعندما استحضرها جاءت بشكل يتعذر الإمساك به صراحة، كما هو حال بدلة الضابط التي تركها في بيت “نور”، البدلة التي تأخذ دلالة الكفن، لأنها كانت سببا في قتله عندما قادت أنوف الكلاب إلى مكانه.
البدلة تشبه الكفن الذي تركه المسيح في القبر قبل صعوده وفق المعتقد المسيحي، وكانت مريم المجدلية وفق إنجيل يوحنا، أول من اكتشف اختفاء المسيح من القبر، مع بقاء الأكفان والمنديل الذي كان على رأسه.
لم يذكر الكتاب المقدس أية صلات عائلية للمجدلية، إذا كانت حرة في تتبع المسيح أينما ذهب، وقد عرفت بالمجدلية نسبة إلى مجدلة مكان ميلادها، وكذلك نور التي لم تذكر الرواية أي صلات عائلية لها، لأنها هربت من أهلها في البلينا، واتخذت لنفسها اسما جديدا حتى تنقطع تماما عن صلاتها العائلية.
سبعة شياطين
لقد كانت المجدلية أسوأ حالا من كل الأخريات، لأنها كانت مسكونة بسبعة شياطين، لقد “تملك عليها العدو الشرير وحاصرها، وحالما وقعت عليها عين المسيح الرحيمة أراحتها، وسمعت الصوت المفرح والأمر الإلهي لهذه الأرواح النجسة، فوهبت النجاة القاتلة للنفس والجسد وعتقت من سطوة إبليس، وجدت الراحة والشفاء، ونالت السكينة بعد أن كانت روحها المضطربة كرسي الشيطان، وتهيأت لتكون تلميذة للمسيح، وبعد أن كانت مغارة لصوص شيطانية، أضحت بيت صلاة، مقدمة نفسها لذلك الذي يعرفها {1}
نفس المشاعر نجدها عند نور عندما التقت بسعيد مهران، وعرفت الفرحة التي لم تعرفها من قبل، حتى اسمها يعبر عن المجدلية بعد توبتها، ويمكن أن نجده بشكل حرفي تقريبا في الكتابات المسيحية.
لقد “أيقنت المجدلية أن المسيح نورها الذي لا ظلمة فيه البتة، فاستنارت حياته بأشعة نوره وضيائه الإلهي، سالكة في النهار بعد أن جحدت الأعمال المخزية ورفضت الخطية، فصارت كل أعمالها في النور، صارت هي نورا في نفسها”
اسم نور، وهويتها العائلية المقطوعة، ومهنتها، وحبها الجارف لسعيد مهران، كلها ملامح أخذها نجيب محفوظ من صورة مريم المجدلية، لكن الرابط الأكثر قوة نجده في اللغة، في كلام “نور” الذي يعبر عنها، ويعبر في نفس الوقت عن مريم المجدلية، وهي اللعبة الفنية التي اعتمد عليها الكاتب كثيرا، وتظهر بشكل واضح في كلام الشيخ الصوفي، لكنها تنتشر بشكل خفي في كلام الشخصيات الأخرى.
من يقرأ الرواية وفي رأسه صورة المجدلية سوف يشعر بحضورها القوي في كلام “نور” وهي تتحدث عن نفسها، وعلى سبيل المثال تقول:
“أنا أحافظ عليك، أما أنت فلا تحافظ على نفسك، وأنت لا تحبني ولكنك أعز علي من النفس والحياة، وطول عمري لم أعرف السعادة إلا بين يديك ولكنك تفضل الهلاك”{اللص والكلاب – 24 }
مريم ونور
عبارة (لا تحبني) ينبغي أن لا تُفهم بشكل حرفي، بل تعني (لا تسمع كلامي) أو شيئا من هذا القبيل، وهو نفس الكلام الذي يمكن أن تقوله المجدلية وهي تخاطب السيد المسيح الذي كان يعلم بوشاية يهوذا، وكان بإمكانه الهرب، والحفاظ على نفسه، لكنه لم يهرب وفضل المواجهة غير المتكافئة.
كذلك من يقرأ الرواية وفي رأسه صورة المسيح سوف يشعر بحضوره القوي في كلام سعيد مهران وهو يتحدث عن نفسه حديثا تتراجع فيه صورة المجرم أمام صورة النبي، يقول
“إن من يقتلني إنما يقتل الملايين، أنا الحلم والأمل وفدية الجبناء، وأنا المثل والعزاء والدمع الذي يفضح صاحبه” (اللص والكلاب – 148)
لقد كانت اللغة أهم الأدوات التي استخدمها نجيب محفوظ في اللص والكلاب لتوظيف العناصر المسيحية، وبعض العناصر لم تظهر إلا من خلال اللغة كما هو الحال مع شخصية بطر س الرسول الذي أنكر السيد المسيح، وكانت صورته في رأس نجيب محفوظ وهو يكتب الحدث الذي جمع البطل بابنته بعد خروجه من السجن.
في يومه الأخير، قال السيد المسيح لبطرس: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ، قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ مَرَّتَيْنِ، تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». {2}
وبالفعل بعد اقتياد السيد المسيح إلى بيت رئيس الكهنة، قام بطرس بتتبعه، وبينما “كَانَ بُطْرُسُ فِي الدَّارِ أَسْفَلَ جَاءَتْ إِحْدَى جَوَارِي رَئِيسِ الْكَهَنَةِ. فَلَمَّا رَأَتْ بُطْرُسَ يَسْتَدْفِئُ، نَظَرَتْ إِلَيْهِ وَقَالَتْ: «وَأَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ!» فَأَنْكَرَ قَائِلاً: «لَسْتُ أَدْرِي وَلاَ أَفْهَمُ مَا تَقُولِينَ!» وَخَرَجَ خَارِجًا إِلَى الدِّهْلِيزِ، فَصَاحَ الدِّيكُ. فَرَأَتْهُ الْجَارِيَةُ أَيْضًا وَابْتَدَأَتْ تَقُولُ لِلْحَاضِرِينَ: «إِنَّ هذَا مِنْهُمْ!» فَأَنْكَرَ أَيْضًا. وَبَعْدَ قَلِيل أَيْضًا قَالَ الْحَاضِرُونَ لِبُطْرُسَ: «حَقًّا أَنْتَ مِنْهُمْ، لأَنَّكَ جَلِيلِيٌّ أَيْضًا وَلُغَتُكَ تُشْبِهُ لُغَتَهُمْ!». فَابْتَدَأَ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: «إِنِّي لاَ أَعْرِفُ هذَا الرَّجُلَ الَّذِي تَقُولُونَ عَنْهُ!» وَصَاحَ الدِّيكُ ثَانِيَةً، فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ لَهُ يَسُوعُ:«إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ مَرَّتَيْنِ، تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». فَلَمَّا تَفَكَّرَ بِهِ بَكَى. {3}
تحرير البطل
لقد ظهر بطرس الرسول في شخصية الطفلة سناء، التي أنكرت والدها، ورغم بساطة موقف الطفلة، وسهولة تجاوزه بسبب جهلها وعدم وعيها، إلا أن البطل تأثر بالموقف تأثرا شديدا، وهذا التأثر يرتفع فيه صوت المؤلف عن صوت البطل، لقد كان التأثر بعيدا عن الواقع بدرجة ملحوظة، لأن المؤلف لا يقدم موقفا واقعيا بمعنى الكلمة، بل يقدم موقفا فنيا غايته ربط البطل بالمسيح، ولهذا يتكرر الموقف بامتداد الحكاية، وبصيغ مختلفة
ـ الكلب وشى بي، ثم تتابعت المصائب حتى أنكرتني ابنتي. (اللص والكلاب – ص 31)
ـ أمس زرت عطفة الصيرفي، فوجدت مخبرا في انتظاري، وأنكرتني ابنتي وصرخت في وجهي. (ص 40)
ـ رأسي ما زال دائرا من أثر المقابلة الغريبة التي أنكرتني فيها ابنتي. (ص 42)
ـ لم الالحاح على حديث القلوب، اسألي الخائنة، واسألي الكلاب، واسألي البنت التي أنكرتني (ص72)
ـ من يبقى لسناء؟ الشوكة المنغرزة في قلبي، المحبوبة رغم انكارها لي. (75)
ـ مولاي ماذا كنت تفعل لو ابتليت بمثل زوجتي ولو انكرتك كما أنكرتني ابنتي؟ (ص84)
استدعاء الحدث عدة مرات بامتداد الرواية يعمل كدعامة خفية تربط البطل بالمسيح، لكن السارد يحرص على أن يكون الربط خفيفا، وخفيَّا بدرجة كبيرة، السارد يستخدم من تاج الشوك شوكة واحدة فقط كي يضفي على بطله قدْرا من الجلال، ويحرره من قناع الشرير الأسطوري.
لقد كان الفارق بعيدا جدا بين موقف بطرس الرسول وموقف الطفلة. والحرص الفني المتكرر على نفي أو استبعاد التطابق، يعبر عن رؤية لا ترغب في جعل سعيد مهران مساويا للمسيح وإن قاربت بينهما، ربما بسبب فشل فكرة الخلاص الفردي، لكن التداخل بين الشخصيات والرموز المسيحية ساهم بنجاح في تحرير البطل من صورة الشرير الأسطوري التي رسمتها له الآلة الإعلامية، و قدم دعما فنيا قويا للرواية وهي تسعى إلى تحرير المجتمع من أقنعة أخرى.
هوامش
1ـ انطون فهمي جورج، مريم المجدلية: قديسة القيامة، رؤية آبائية، كنيسة مار مرقس والأنبا بطرس، الاسكندرية، مارس 1992، ص 14، 15.
2ـ إنجيل مرقس: 14/ 30 ،31
3ـ إنجيل مرقس: 14/ 66ـ 72
4- اللص والكلاب- نجيب محفوظ
اقرأ أيضا:
«العشاء الأخير» في لص نجيب محفوظ وكلابه
نجيب محفوظ وفتنة اللعب بيهوذا الإسخريوطي