مدينة الحدائق.. إعادة اكتشاف «جاردن سيتي»
«جاردن سيتي.. المدينة الحدائقية اسم ومعنى» كتاب جديد صدر مؤخرا عن الجهاز القومي للتنسيق الحضاري. يستعرض الكتاب حكاية نشأة حي جاردن سيتي وتطوره، ويعرض قصص ازدهاره، وخفوته، وقوته، وضعفه من خلال التعريف بسكانه وأشكال عمارته وعمرانه. إذ تميزت العمران بداخله بكثير من خطوط التلاقي بين البشر والحجر، مبرزة لقيم تضفي روح ذكرى أعلام وشخصيات مؤثرة عاشت في الحي التراثي بداخل قصور ومبان احتضنت أفكارهم وشهدت أحداث كفاحهم الوطني على مختلف المستويات.
تسمية الحي
على الرغم من أن تسميه الحي الأجنبية توحي بأننا أمام صورة نمطية تحاول مجاراة العمران الأوروبي. لكنه في الحقيقة حي مصري أصيل وفريد- كما يصفه محمد حسام الدين إسماعيل في مقدمة الكتاب- إذ حوى عمرانه وعمارته عقولًا غيرت وجه مصر خاصة في النصف الأول من القرن العشرين. عندما كان موطنًا للعديد من رجال الحكم والسياسيين والاقتصاديين أصحاب التأثير الملموس في إدارة الدولة “نحن لسنا أمام صورة مجردة لجمال زخرفي ومعماري صامت، ولكن أمام حكاية تستحق أن تروى، وهوية معمارية أكبر من أن تُطمس، وقيمة أقوى من أن تتوارى”.
التاريخ والتطور
يبدأ الكتاب في حكي كيف كان هذا الحي. إذ عرف قديما بـ”الميدان الناصري”، الذي أنشائه السلطان الناصر محمد بن قلاوون في عام 1314م. قد غرست فيه الأشجار وأحيط بالبساتين والمتنزهات، وكان من أجمل الميادين الموجودة في القاهرة لأنه يطل على النيل؛ لذا كان السلطان يركب إليه من القلعة في يوم السبت من أيام الأسبوع، وتستمر زيارته للمكان لمدة شهرين حتى تنحسر مياه النيل.
وكان الموكب السلطاني إلى الميدان الناصري فخمًا عظيمًا. يستعرض فيه قوته وجنوده. إلا إنه خلال العصر العثماني وحتى الحملة الفرنسية على مصر مع نهاية القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، تعرضت عدة مناطق بمدينة القاهرة إلى الخراب ومنها “جاردن سيتي” وأصبحت تلال وركام مبان. ليبدأ محمد علي باشا وأسرته ورجال دولته في خطة شاملة للتعمير وإعادة البناء.
خصوصية المكان
لم تكن الخصوصية التي يتمتع بها الحي طوال تاريخه وليدة الصدفة. إذ يرجع الكتاب أن نشأة الحي كمركز حيوي جديد يتشكل فيه حكام مصر من أبناء وأحفاد إبراهيم باشا قد جعله نقطة مهمة لجذب الأعيان والإقطاعيين والسفراء والقناصل والحاشية؛ ليكونوا قريبين من مركز صناعة القرار. وهو الأمر الذي أدى للمساعدة في تنمية منطقة وسط البلد المعروفة بالقاهرة الخديوية وسرعة تعميرها خصوصًا المنطقة الواقعة بينه وبين سراي عابدين، والتي يقع فيها مقر الحكم مما أظهر نشاط متميز في الأحياء الحديثة المحيطة به الحركة الاقتصادية.
كذلك وفر انعزال جاردن سيتي وخصوصية حدها الطبيعي الذي وفره لها النيل في إعطاء الحي بعض الخصوصية والتميز الإضافيين. وهي العوامل التي جعلت حي جاردن سيتي في كل عصوره هدفًا للسكنى من قبل الطبقة الثرية في المجتمع المصري.
مجتمع كبار رجال الدولة
يرجع الكتاب سبب تواجد أغلب رجال الدولة بداخله إلى عدة نقاط؛ فنتيجة موقع المكان “جاردن سيتي”، والذي كان تأسيسه على يد إبراهيم باشا، وبعده إسماعيل، برز دورهما في جعل المنطقة شديدة الجذب. إذ أنشأت داخلها مقرات إدارة الدولة. خاصة في المنطقة المحصورة بينها وبين سراي عابدين، ومع تقلبات النظم التشريعية والتوجه نحو الملكية الدستورية أصبح ظهور السياسيين والأحزاب بها حتمي بصفتهم ممثلي الشعب لتقلد المناصب القيادية والتنفيذية بحكم دساتير البلاد الحاكمة في فترة ما قبل يوليو 1952م. مما جعل “جاردن سيتي” عاصمة داخل العاصمة، فتمركزت فيها الوزارات والمجالس التشريعية والأحزاب. لذا فكما اختار معظم الفنانين السكن في حي الزمالك. اختار معظم السياسيين “جاردن سيتي” لتكون محل إقامتهم، ليكونوا بالقرب من مصنع الأحداث.
مجتمع الاقتصاديين
واكب الحي بدايات القرن العشرين. إذ ازدهر بصورة كبيرة، ومع بدايات خروج اليهود من أحيائهم المغلقة إلى الأحياء الجديدة، نتيجة الفكر الليبرالي الذي ساد مصر في تلك الفترة، ونتيجة علاقاتهم الجيدة بحكام مصر والطبقة الأرستقراطية في مصر من مصريين وأجانب. بالإضافة إلى ما حققوه من ثراء اقتصادي ناتج عن مشروعاتهم الاقتصادية الناجحة. مما جعل اندماجهم في الحياة الاقتصادية والاجتماعية مرحبًا بها على جميع الأصعدة.
ومنها اتجه اليهود إلى العيش بجاردن سيتي. وبنوا لهم الفيلات والعمارات السكنية والمبانى الخدمية لأفراد الطائفة اليهودية مثل قصر موسى قطاوي “قوت القلوب” وغيره الكثير. الأمر الذي يؤكد على أن الحي قد شهد تسامح وتعايش بين جنسيات وديانات مختلفة. إلا أن جاردن سيتي كان التعايش هناك مؤسس على أنهم جميعا طبقة من الأثرياء الذين يمتلكون زمام السياسة والاقتصاد في مصر. كلهم ينتمون إلى تلك الطبقة الاجتماعية فلا يفرق بينهم جنسية أو ديانة. واتخذت عمارتهم خط طرازي متوافق مع الطراز الأوروبي السائد في هذه الفترة بمدينة القاهرة.
ما بعد ثورة يوليو
يتطرق الكتاب لشكل الحي التاريخي والتغيرات التي حدثت به خاصة بعد ثورة يوليو 1952. إذ شهد الحي الكثير من التحولات الاجتماعية. فبدأت أنماط عمرانية جديدة في الظهور على أرضه بداية من المباني متعددة الاستعمالات. وقد استبدلت أنماط الإسكان الفاخر والتي والمتمثلة في الفيلات، بالشقق الفاخرة. الأمر الذي أدى لحدوث اختلافات في التركيبة السكانية بالمنطقة. ويمكن قراءة ذلك بوضوح في سطوة عمران الحداثة بأشكاله المجردة والبعد عن الزخرفة.
وامتد هذا التغيير وتأكد مع الثورة، وما لحقها من هجرة للأجانب بعد بيع أغلب ممتلكاتهم. وهو الأمر الذي ساهم في حدوث خلل في التركيبة السكانية التي كانت سائدة، وانفصالًا بين الأنماط العمرانية والأشكال المعمارية. مما أدى لهدم بعض المنشآت ذات الطرز والتكوينات المعمارية الزخرفية واستبدالها لاحقًا بعمارات سكنية شاهقة، وفنادق كبيرة على طراز الحداثة المُجرد. مع عدم أخذ الخصوصية التخطيطية لمنطقة جاردن سيتي في الاعتبار.
عمارة جاردن سيتي
قدم الباحثون في الكتاب توصيف للطرز المعمارية المميزة للحي. إذ استخلصوا أن الخط الزمني للطرز تماثلت مع نظيراتها الأوروبية عند بداية القرن العشرين. وأهم ما يميز الطرز بالحي، هو تجانسها التكويني من حيث استخدام “الموتيلات” المطورة من الأنماط الكلاسيكية وصولا للأنماط الزخرفية الحديثة وحتى مراحل التجريد الحداثي. وقد ظهر بجاردن سيتي العديد من الطرز المعمارية المعبرة عن توجهات سكانها أهمها؛ “الطراز الكلاسيكي المستحدث” و”الطراز الإحيائي الكلاسيكي”. إذ يظهران بصورة متوازنة في “جاردن سيتي” التي تتميز مبانيها بزخارف مستوحاة من الفن اليوناني الروماني. فهذا الطراز دائمًا ما يميل مريدوه إلى تبجيل القيم الثقافية والفنية.
طرز أخرى
وبجانب هذا الطراز غلب الطراز التلقيطي، بجانب الطراز القوطي المستحدث، وكذلك طراز الباروك المستحدث. وهو طراز معماري ظهر مع نهاية القرن التاسع عشر كطراز إحيائي لعمارة الباروك، التي كانت تنتشر في أوروبا في القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر.
وقد ظهر كذلك بالحي “الطراز الإسلامي المستحدث” في محاولة لبث إشارات روحية بطريقة حديثة عن طريق استيراد أشكال وزخارف من العمارة الدينية. بغرض خلق طراز أطلق عليه في فترة النصف الأول من القرن العشرين بالطراز “الواعي”. لتبني بعض المعماريين المصريين لهذا الطراز كخط دفاعي يعبر عن هويتهم ضد التوسع في استخدام الطرز الأوربية. إذ يعمل على بث الروح للمتلقيين والمستخدمين من خلال إحياء القيم الزخرفية المرتبطة بالعمارة الإسلامية ومُريدي هذا الطراز من السكان دائما ما يميلون إلى الخصوصية الشكلية وإبراز هويتهم العربية والإسلامية بأشكال مستوحاة من هذه الثقافة.
ذاكرة المدينة
الكتاب يعد هو الثاني في سلسلة «ذاكرة المدينة» التي بدأت بإصدار كتاب «جزيرة الزمالك.. القيمة والتراث» الذي صدر عن الجهاز القومي للتنسيق الحضاري. وشارك في تحريره فريق بحثي تحت إشراف محمد حسام الدين إسماعيل، أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة عين شمس.
وشارك في إعداده د.إسلام عاصم عبدالكريم، رئيس قسم الإرشاد السياحي بالمعهد العالي للسياحة وترميم الآثار بأبي قير، والدكتورة هايدي أحمد شلبي، مديرة الإدارة العامة للحفاظ على المباني والمناطق التاريخية، والدكتور إسلام أحمد عبدالقدوس، مدرس الهندسة المعمارية بالمعهد العالي للهندسة والتكنولوجيا بالبحيرة، وكذلك كريمة نصر، المدرس المساعد بجامعة عين شمس، وإسراء حميدو أبوزيد، باحثة ماجستير بجامعة عين شمس، ورشا عبدالعزيز، الباحثة بوزارة الآثار.