محمد حسنين هيكل في سجن النساء
في السابعة مساء اليوم تعلن مؤسسة محمد حسنين هيكل أسماء الفائزين بجائزة هيكل للصحافة العربية والتي تمنح سنويا في ذكري مولد الكاتب الراحل. «باب مصر» يستعيد عدد من تحقيقات «الجورنالجي» التي نشرها في بداياته الصحفية في مجلة «آخر ساعة» بمناسبة مرور 99 عاما على ميلاده.
(عالم عجيب تمتزج فيه القوة بالضعف امتزاجا قلما تجد مثله خارج هذا العالم: عالم سجن النساء وذلك النوع من الحياة الذي يدب في سراديبه وممراته ووراء القضبان). هكذا بدأ الصحفي الشاب محمد حسنين هيكل تحقيقه ومغامرته الصحفية الجديدة داخل سراديب سجن النساء وهذا التحقيق الذي نشره في مجلة آخر ساعة في يناير 1948 وسط نساء قاتلات بالرصاص وبالسكين وبالسم وبالخنق ونساء سارقات بالسطو وبالنشل وبمئات من الوسائل الأخرى ونساء مجرمات ارتكبن ألوانا من الأجرام لا عد لها ولا حصر، ومنهن أيضا يونانيات وإيطاليات.
يطوف هيكل بالسجن في حيرة ويسمع التهم فيقول: هذه قوة ويرى الدموع في العيون فيقول: هذا ضعف المفتري عليه. ثم تروعه الاعترافات فيعود إلى حيث كان مرددا: بل هي قوة ثم يحس وراء الاعترافات بأطياف الندم فيقول: لا.. بل هو ضعف ويطوف بالسجن كله ويترك الأرقام تتكلم لتروى في سرعة ووضوح قصة سجن النساء بلا رتوش وبلا مكياج. إنها قصة 400 وتحتار ماذا تقول بعد هذا الرقم. لا تستطيع أن تقول “سيدة” لأن القانون أزاح عنهن هذا الوصف ولا تستطيع أن تقول “امرأة” لأن الأنوثة لا تستطيع أن تتحمل كل هذه الأوزار. ثم لا يسعك بعد ذلك ألا تستعمل نفس الاصطلاح الذي يستعملونه في سجن مصر. فتقول أربعمائة من “الوارد” وأربعمائة “وردن” على السجن فئات تختلف كل منها عن الأخرى.
هيكل والسجينات
يصنف هيكل المتهمات وفق مدة السجن والتهم المنسوب إليهن: “هناك مثلا 74 محكوما عليهن بالأشغال الشاقة وهناك 51 محكوما عليهن بالأجرام مددا تتفاوت بين السنتين والعشر سنوات. و60 من أرباب السوابق أو رباتها. و92 تحت التحقيق. و55 محكوما عليهن بالحبس البسيط. و43 حكما عليهن بالسجن لأول مرة فعزلن عن غيرهن من معتادات الإجرام. و46 أرسلن إلى السجن بسبب الاشتباه في أمرهن. و23 محكوما عليهن بالسجن المؤيد. و36 أما على صدر كل منهن رضيع يفتح عينيه على أنوار السجن و16 بغيا.. وكان بين هؤلاء في هذه الدقيقة بالذات سجينتان في حالة الوضع الفعلي وكل منهما تلد مولودا يهبط إلى الحياة في هذا الجو الحائر بين القوة والضعف وبين الرحمة والقسوة”.
وعندما انتهت إحداهن من عملية الوضع اقترب منها هيكل قائل: ماذا تسمي مولودك الجديد؟ وقالت الأم:
– صابرين.
ويسألها عن سر الاسم فتجيب بالدموع ثم تحكي قصتها: كان اسمها “فاطمة فرج الرشيد” أما الآن فهي الوارد 4465 والتهمة التي وجهت إليها هي السرقة. وتقول الوارد 4465: إنها تهمة مزورة. ثم تروي كيف لفقت لها زوجة شقيق زوجها وادعت عليها بأنها سرقت منها سلسلتها الذهبية. ويقول هيكل: “وتكاد تصدق دموع الأم التي لم يتجاوز عمر وليدها دقائق ولكن الورقة المعلقة على سريرها تقول إنها ذات سوابق ويسألها عن السوابق فتقول: زور أيضا.. ثم تسال عن زوجها من هو وماذا يفعل فتقول: إنه يعمل مسحراتي في رمضان! وتسألها: وفي غير رمضان ماذا يفعل؟ وتسكت لا تجد جوابا. وترفض أنت هذه المرة أن تصدق الدموع”.
وتستمر الرحلة في سراديب سجن النساء ويذهب للأم الأخرى. الأم الثانية التي كانت تضع في نفس الوقت مولودة ثانية أسمتها زينب. ويسأل عن الاسم هل وراءه سر أو سبب فيسمع دعوات حارة وابتهالات خاشعة للسيدة زينب حفيدة النبي ويسأل الأم وكان اسمها عائشة عثمان أحمد والتي أصبحت الآن: الوارد 2417 لماذا جاءت ومن أين؟ فتقول: من صنو.. مركز أسيوط وبسبب معركة ثم تعرف تفاصيل ما تسميه هي عاركة وما يسميه القانون عاهة مستديمة. فقد أرادت أن تتفاهم مع امرأة من قريتها فلم ينته التفاهم إلى اتفاق ومدت عائشة أصبعها فاقتلعت عين المرأة الأخرى أو فقأتها بمعنى أصح. وكانت ذات سوابق وكانت السابقة الأولى اقتلاع عين أيضا.
لقاء وفراق
ثم يذهب هيكل إلى قسم آخر من أقسام المستشفى في سجن النساء. ويجد سريران فقط ليس بينهما أكثر من متر واحد ومع ذلك فما أعجب الفارق بين صاحبة كل منهما وما أعجب الشبه. تلتقيان في السجن الواحد والحجرة الواحدة وفي الدافع الذي انتهى بكل منهما إلى هذا اللقاء وتفترقان بعد ذلك في كل شيء. الأولى اسمها “ستاكاروديتشي” إيطالية من مواليد ميلانو عمرها أربع وعشرون سنة. ويرسم هيكل لوحة فنية للفتاة فيقول: “جمالها يذكرك بالزهور البرية التي تنمو في سهول إيطاليا وعلى شفتيها بسمة وفي عينيها أمل وأقول لك في مزيج من خجل الندم وجرأة الشباب والجمال أنها كانت حبيبة وكانت خطيبة لشاب وعرفت أنه يوشك أن يتخلى عنها.. أو هو قد تخلى بالفعل عنها فكان عتابها له زجاجة من ماء النار ألقتها على وجهه. وحكم عليها في المحكمة المختلطة بعامين اقتربت نهايتهما وسوف تغادر السجن غدا أو بعد غد. ومن هنا كان الأمل الذي يطل من عينيها”.
أما الثانية فاسمها “زكية” فلاحة من وسط الدلتا عمرها خمسون سنة اختلفت مع زوجها لأنها أحست أنه يوشك أن يخونها ويتزوج من أخرى ونام إلى جوارها ذات ليلة. فتركت يديها أن تشعراه بغضبها. ولم يستطع أن يدافع عن نفسه فإن يديها لم تتركا عنقه إلا بعد أن تحطم ومات.. وأنكرت التهمة ولكن القضاء حكم عليها بالسجن المؤبد ولقد مضى عليها خمسة عشر عاما في السجن ولا تزال أمامها سنوات أخرى. ومازالت تنكر التهمة وتقول كما قالت للقضاة الذين أدانوها: “ده الرجالة هم اللي قتلوه برة!”. تقولها في صوت كأنه صادر من شبح لماض ذهب لا غد له ولا رجاء!
المشغل والسجينات
ويذهب هيكل إلى المشغل التابع للسجن وتعمل فيه السجينات كل منهن لم يبق لها من مغامرات حياتها إلا قطعة قماش جلست على الأرض تطرز فيها في صمت وهدوء. وفي المشغل أكثر من خمسين أو ستين سجينة. هذه “شلبية” أو هذا هو الاسم الذي تعرف به خارج السجن لأنهم في داخله يسمونها رقم 278. وشلبية هي أخطر نشالة عرفتها القاهرة وهي فخورة بذلك لا تنكره على أي حال. ثم هي مستعدة أن تجري أمام أي شخص ما شاء من تجارب تنتهي كلها بالنجاح. ومع شلبية سجينة أخرى لا تكف عن الابتسام وهي “لصه” بإرادتها كما تقول أو هي من عاشقات الحياة في سجن النساء كانت تدخل السجن في جريمة. ثم تخرج وتعود مرة إلى السجن فتسأل أحد الحراس: هل صحيح أنه جاءت للسجينات بطاطين جديدة من الصوف؟ ويقول الحارس: نعم، وفي اليوم التالي ترتكب حادثة تقودها إلى سجن النساء لتستمتع بدفء البطاطين الجديدة.
ويعرج هيكل لقصص أخرى ولكن هذه المرة في مغسل السجن. والمغسل فيه كما في كل سجن النساء مغامرات وقصص، ويقترب من أحد الصفوف ليسأل الخمس الواقفات فيه: ماذا وراءهن؟ وما هو الماضي الذي ساقهن أمامه إلى هنا.. إلى مغسل سجن النساء وهل استطعن أن يغسلنه- الماضي- أيضا؟
الأولى اسمها “أمينة عبد الله” عمرها لا يزيد كثيرا على العشرين وفي قسمات وجهها جمال حزين ويسألها هيكل: ما هي التهمة؟
وتقول بصوت ثابت: القتل
ويسألها: قتل من؟
– خطيبي..
– كيف؟
– بالسم.. ثم تستدير إلى عملها لا تتحول عنه.
القتل مجاملة
والثانية اسمها “فاطمة إمام” تهمتها القتل هي الأخرى والذي قتلته كان أخاها وقد دفعته إلى النيل ولم يخرج منه أبدا. والثالثة “وجيدة علي” تهمتها القتل أيضا. قتلت زوجها خنقا لأنه كتب لأولاده من زوجته السابقة معظم أملاكه. وأملاكه كلها أقل من فدان واحد. والرابعة “مرزوقة” قتلت زوجها بالسم. كان ينوي أن يتزوج عليها.. ينوي فقط!.
أما الخامسة فكانت حكايتها عجبا، اسمها “أنيسة عبد العال” وتهمتها أنها جاملت صديقة لها فاشتركت معها في جريمة قتل! جاملتها ببساطة وهدوء. لقد جاءتها صديقتها تشكو لها ابنها الذي تزوج وزوجته جميلة ولاحظت أن زوجها هي يعطف على عروس ابنه ويدللها وجن جنونها. فجاءت تستشير “أنيسة” ورأت أنيسة أن لا حل إلا بقتل العروس واشتركت مع صديقتها في التدبير وفي البحث عن رجال يقتلون العروس التي لم يمض على زواجها أكثر من شهرين. وانتهى البحث إلى ثلاثة رجال قبلوا المهمة على شرط أن يأخذ كل منهم أردبا من القمح وخمسة جنيهات! وتم القتل ليلة العيد في المقابر واكتشفت الجريمة وماتت الصديقة التي جاملتها أنيسة وعاشت هى لتدخل إلى سجن النساء. ولما دخلته كان عندها طفلة عمرها سبع سنوات. ومنذ شهر واحد تزوجت الابنة فلقد مرت على هذا سنوات طويلة وكبرت الطفلة وأصبحت عروسا تتمنى أنيسة من صميم قلبها ألا لا تكون موضع مجاملة من أحد. وتضحك أنيسة وتقول: لن أخرج من هنا.. وإذا خرجت؟ فإلى أين؟
ثم يترك مغسل السجن إلى عنبر آخر حيث يجد سجينة يونانية تعدت الخمسين. يونانية الجنسية يطلق عليها فيلسوفة السجن ومسجونة أخرى تحت التحقيق فتاة من بنات الليل خرجت لتفتح أحضانها للشيطان وثالثة مهربة مخدرات. ويلتقي أخيرا بالشاويش “ريا” كبيرة السجانات التي تحمل المفاتيح الضخمة وتروح وتجيء في نشاط ودأب. وفي آخر بهو السجن يجد جمعا من السجينات جلوسا على الأرض حول الواعظ الديني ويقترب منه هيكل ليتبين ماذا يقول. إنه يلقي كلمة عن تاريخ النبي وكيف شب ورعى الغنم ويقول الواعظ: رعي الغنم وليس عن فقر ولكن كل نبي رعى الغنم ويتوقف الواعظ كمن يخشى أن يكون فقد انتباه سامعاته فيقول متسائلا:
– سامعين.. كان نبي وعمل إيه؟
ويقلن في صوت واحد:
– رعي الغنم.