لماذا وكيف يولد الفاشيون: زمن «ترامب» كما تنبأ به فيلم ألماني!

المجرم المدان بحكم المحكمة في 34 تهمة، والمجرم في مئات الاتهامات الأخرى التي لم تذهب للمحاكم بعد، المهرج الذي أصبح رئيساً لأقوى بلد في العالم، يرتكب أفعالاً وأقوالاً تدفع أي عاقل إلى الغضب، وأي إنسان لديه القدر الأدنى من الاحترام إلى الخجل، وتدفع الجميع إلى العجب، ليس فقط مما يفعله المجنون المجرم، ولكن من عدد أنصاره ومؤيديه، من فئة العبيد المستعدين لخلع أدمغتهم واستبدالها برؤوس القطيع.

دعك من الترندات حول بدلة رقص محمد رمضان، وعزاء سليمان عيد، وأسباب غلق محلات اللبن، وغيرها من التوافه والنوافل، فالترند الذي يشغل بال العالم أكثر من غيره على مدار الشهور الماضية هو: كيف نجح المهرج المجرم، بحكم محكمة، في العودة لحكم أمريكا؟ وما الذي فعلته عصابته من خلف وأمام الستار (ماسك واللوبي الصهيوني بالأساس) لكي تغسل أدمغة أكثر من 77 مليون ناخبا صوتوا له (مقابل 75 مليون لكاملا هاريس)؟، وكيف يمكن أن تسمح بلد الحرية والديموقراطية (مهما اختلفنا على سياسات حكوماتها) أن تسلم نفسها لهذه العصابة؟

في الفن الإجابة

حين يعجز العلم والمنطق عن الإجابة، ابحث عن الفن، في المسرحيات، والروايات، والأفلام، ففيها الملاذ والدرس والتفسير لأعجب الظواهر والطبائع البشرية وأكثرها غموضاً واستعصاءً على الفهم.

تذكرت، منذ أيام، فيلما ألمانيا عظيما اسمه “الموجة” Die Welle، شاهدته منذ سبعة عشر عاما تقريبا (2008)، لكنه لم يغادر الذاكرة، ولم يزل حيا تشهد الأيام والأحداث على صدقه وعمقه. لا يكاد يوجد “نص” يمكنه تفسير وشرح ما يحدث في العالم الآن أكثر من هذا الفيلم (وبضعة أفلام أخرى مماثلة).

يروي “الموجة”، الذي أخرجه وشارك في كتابته دينيس جانسيل، حكاية بسيطة تدور في مكان واحد خلال أيام معدودة، تعتمد، كما تنص عناوين الفيلم، على أحداث حقيقية (سأعود إليها بالتفصيل لاحقا)، داخل أحد الفصول بكلية للعلوم السياسية في ألمانيا، حيث يكلف أستاذ علماني متنور (اعتاد على تدريس “الفوضوية”) بإعطاء درس (في شكل مشروع عملي) في “الأتوقراطية”، التي قد تعني الديكتاتورية، أو الفاشية، أو الحكم المطلق، أو حكم الرجل الواحد.

أقرب من حبل الوريد

في البداية، تبدو التجربة عبثية سواء بالنسبة للأستاذ صاحب التاريخ الليبرالي الثوري، أو للطلبة الذين تربوا على احتقار النازية والسلطة بشكل عام ويتمتعون بكافة حرياتهم الشخصية والسياسية. هم أيضا متعلمون ومثقفون جيدا (يدرسون العلوم السياسية في ألمانيا!). عندما يسأل الأستاذ عن أسباب ظهور الديكتاتورية، يجيبون ببراعة: البطالة، الظلم الاجتماعي، التضخم، الأوهام السياسية، النزعة القومية المتطرفة. أشياء تبدو أبعد ما يكون عن الفصل والجامعة وحياة الشخصيات.. لكن مهلاً، ما يبدو أنه ناءٍ بعيد، هو أقرب إليك من حبل الوريد.

خلال أيام معدودة سيتحول الفصل إلى نسخة مصغرة من ألمانيا النازية، وإيطاليا الفاشية، وجمهوريات الموز العسكرية، وأمريكا دونالد ترامب!

المدهش أكثر هو السهولة التي يتم بها هذا التحول. يسأل الأستاذ: ما الذي يحتاجه النظام الأتوقراطي؟ يجيب الطلبة ببراعة: قائد! وينتخبون أستاذهم ليكون قائدا للمجموعة. يطلب منهم أن يكفوا عن مناداته باسمه “راينر”، وأن يخاطبوه بلقب “السيد فينجر”. ماذا أيضا؟ يجيب الطلبة: الانضباط. فيطلب منهم الأستاذ أن يتحدثوا بطريقة منظمة، وأن يجلسوا ويقفوا بطريقة مستقيمة، وأن يرتدوا زيا موحدا (بنطالا من الجينز وقميصا أبيض). لاحقا، يصبح لجماعتهم اسما (الموجة)، وطريقة موحدة في إلقاء التحية، وشعارا يشبه النسر!

ماذا أيضا؟ يجيب الطلبة: التعاون ونبذ الخلافات (والاختلافات). فيعيد الأستاذ تقسيم جلوسهم، بحيث يجلس الطلبة الأقل تفوقاً وسط المتفوقين. وبدلا من التنمر على بعضهم البعض، يدافعون عن أنفسهم ضد المتنمرين، ويتنمرون بالغرباء من طلبة الفصول الأخرى، ويصبح شعارهم ومعتقدهم بمرور الوقت: من ليس معنا فهو عدونا!

أنواع من القطيع

لكن، هل الأمر حقا بهذه البساطة؟ بالتأكيد لا. أهم ما في الفيلم أنه يتعرض للخلفيات الطبقية والنفسية التي تصنع عقلية القطيع. النموذج الأمثل لهذه النوعية من البشر هو “تيم”، وهو طالب من عائلة ثرية، لكنه غير وسيم، ضعيف الشخصية، ووحيد جدا. يبدأ الفيلم به يقوم بالتقرب إلى بعض الطلبة الأقوياء (البلطجية) باهدائهم كمية من المخدرات دون مقابل، فقط ليكون صديقا لهم. تيم مستعد تماما للانخراط داخل أي جماعة أو شلة تحميه من الشعور بالفراغ والتفاهة. الشلة، الجماعة، القطيع، هي ملاذ هذه النوعية من البشر، وهم كثر بالطبع. وكلما كان المجتمع يربي مواطنيه على عدم الثقة بالنفس والاعتماد على الذات، كلما كثر عدد هؤلاء.

تيم هو أول من يتحمس للفاشية ويعتنقها عن اقتناع كامل، خاصة حين يحميه زملاء “الموجة” من تنمر بعض الطلبة الأقوياء (الذين حاول التقرب إليهم عبثا في بداية الفيلم). يكرس تيم نفسه للجماعة، ويقوم بشراء مسدس، والأهم أنه يكتسب شخصية قوية لم يكن يمتلكها كفرد. هذا النوع من البشر يكتسب شخصية “جماعية” (يعتبر نفسه جزءً من النظام، العشيرة، الحزب، الشلة) لأنه أضعف من أن يكون شخصية مستقلة لنفسه.

في بداية الفيلم، نرى تيم جبانا مترددا، ولكن مع “الموجة” يصبح أشجع فرد فيها: يتسلق برجا عاليا ليعلق شعار الجماعة، ويقرر أن يعين نفسه حارسا (بودي جارد) الأستاذ، وحين تنهار المجموعة في النهاية، يتحول إلى العنف المجنون فيقتل أحد زملاءه ونفسه!

***

بجانب تيم هناك “كارلو”، الشاب اللطيف الموهوب، الذي يعاني من مشاكل أسرية بعد انفصال أبويه، وأمه غير مسؤولة لا تبالي بإقامة علاقة جنسية مع شاب في عمر ابنها داخل البيت. كارلو يشعر بأن المجموعة صارت عائلته البديلة. “سينان”، شاب آخر من أصل تركي، يتوق أيضا إلى الانتماء، ويدافع عن القومية الألمانية.

من المدهش أن يكون أكثر المتحمسين لاعتناق فكرة أو عقيدة عنصرية ما هم الوافدين عليها حديثا. انظر إلى الأمريكيين القادمين من أصول خارجية، وهم يهاجمون اللاجئين بضراوة، ويهللون للقومية الأمريكية النقية!

واحدة أخرى من المتحمسين للتجربة: فتاة تفتقد للثقة بنفسها، خاصة أمام صديقتها الأجمل والأكثر جاذبية للرجال. إنها تخفي داخلها الغيرة والحسد وشرا لم يكن له حيز للظهور، ولكن عندما تصبح عضوة في “الموجة”، تنطلق كل هذه المشاعر التي تدعمها وتقويها الجماعة، فتصبح أكثر جرأة وقوة، بل تكتسب حتى شجاعة المبادرة مع الرجال. كما تنطلق مشاعرها العدائية ضد صديقتها القديمة.

هذا النوع من الناس، الذين تطلق الجماعة جانبهم المظلم المكبوت، ذكرني بنساء رأيناهن في الجماعات الدينية المتطرفة، وبالنساء اللواتي يظهرن في حملات ترامب يقمن ببث حمم الكراهية ضد الفلسطينيين والمهاجرين والنساء الليبراليات!

الصامتون والمستبعدون

ولكن، هل كل طلبة الفصل يقبلون بما يحدث؟

غالبا يكون هناك الكثير من المعترضين، خاصة في البداية، قبل أن يتم دمجهم أو اخراسهم أو استبعادهم.

أول من يرفض ويغادر الفصل شاب تعود جذوره إلى ألمانيا الشرقية، خبرت عائلته النظام الشيوعي الأوتوقراطي، وتعلمت الدرس وتعرف جيدا مساوئ وعواقب الديكتاتورية. هناك أيضا فتاتان تتمتعان بعقلية متفتحة واعية تدركان منذ البداية أن ما يحدث خطأ. إحداهما ترفض الانخراط في التجربة حتى لو كان على سبيل اللعب، والثانية تدرك بعد فترة وجيزة أن الأمور في طريقها للخروج عن السيطرة، إذ يتحول الفصل تدريجيا إلى بيئة معادية لأي شكل من أشكال الاختلاف أو الفردية.

لكن المشكلة أن هؤلاء لا يستطيعون التأثير على الجماعة، لأنهم إما يرفضون المشاركة في اللعبة منذ البداية، وإما يتم استبعادهم وطردهم من الجماعة بعد ذلك.

إن أبرز صفات النظام الأتوقراطي هو أنه يرفض الاختلاف. ويحول المختلفين إلى أعداء، وعادة ما يكون لديه قائمة اتهامات وشتائم جاهزة: خائن، خائف، يفعل ذلك لأسباب شخصية، تفعل ذلك لأنها تريد أن تصبح محل اهتمام.. إلى آخره.

***

كما ذكرت في بداية المقال، فإن فيلم “الموجة” مستلهم من أحداث حقيقية جرت في 1967، حيث قام أستاذ جامعي اسمه ويليام رون جونز، وهو أمريكي بالمناسبة، بعمل تجربة مماثلة في جامعة، وقام بتوثيقها في قصة بعنوان “الموجة الثالثة”. تحولت إلى فيلم تليفزيوني بالاسم نفسه في 1981 (خلال سنوات حكم اليميني المتطرف رونالد ريجان، والمثل الأعلى لترامب!).

فيما بعد قام الأديب الألماني تود شتراسر ( كان يوقع باسم مورتون روه) بتحويل الفيلم إلى رواية، والتي تعتبر المصدر المباشر لفيلم “الموجة”.

هناك، بالطبع، أفلام وتجارب أخرى مهمة يمكنها أن تعيننا على تحمل ذلك الزمن الأغبر، ومقاومة قطعان الفاشيين وقادتهم.. أترك للقارئ البحث عنها، أو ربما تتسع لها مقالات قادمة.

اقرأ أيضا:

نساء مسنات مثيرات.. بين «نيكول كيدمان» و«غادة عبد الرازق»

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. منفضل اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.