كيف يلعب المناخ دورا في ازدهار الحضارة وأفولها؟
لاشك أن تغير المناخ من أهم مواضيع الساعة نظرا لما ثبت من ازدياد درجة الحرارة منذ القرن التاسع عشر وازدياد معدل الزيادة إلى الضعف بالقرن العشرين.
في مواجهة الخطر الداهم لتغير المناخ، الذي يهدد كل دول العالم يصبح من الضروري أن نتفهم تأثير التغيرات المناخية على المجتمعات الإنسانية في الماضي القريب والبعيد وفي مصر. حيث سيعقد مؤتمر المناخ كوب 27. توجد العديد من الشواهد التاريخية والأثرية على تغيرات المناخ التي لعبت دورا هام في مسيرة الحضارة المصرية.
وتمثل المواقع التي تحوي على هذه الشواهد كنزًا معرفيا من التراث المصري والإنساني يمتد من ملايين السنين. كما في موقع وادي الحيتان المسجل على قائمة التراث العالمي إلى آلاف السنين. منذ ما قبل التاريخ مرورا بعصور الحضارة المصرية القديمة، إلي مئات السنين كما في سجلات مقياس النيل بالروضة، المنيل. كما تمثل قرية القرنة الجديدة لرائد العمارة المناخية حسن فتحي بغرب الأقصر نموذجا للتكيف مع المتغيرات المناخية.
تغير المناخ وظهور الحضارة المصرية
مرت مصر بتغيرات مناخية من أهمها ما حدث في بداية الاحترار العالمي بعد عصر الجليد الأخير. وخلال العصور الجليدية يسود مصر البرد والصقيع. ومع الاحترار تبدأ الأمطار في الهطول على الصحاري المصرية. وهناك أدلة من تراث مصر الجيولوجي تدل على مناخ استوائي في فترات مطيرة تكونت خلالها كهوف بترسيبات كلسية بديعة. كما في كهف وادي سنور ببني سويف. كما شهدت مصر غابات من أشجار ضخمة وهي التي تبقي منها جذوع الأشجار المتحجرة في الفيوم والمعادي.
وفي فترات أخري انتقالية تتدفق ينابيع المياه ويتكون على أطرافها وعلى المنحدرات المحيطة بها رواسب جيرية تحتوي على انطباعات أوراق الشجر، التي كانت تنمو حول الينابيع كما حدث في واحة الخارجة.
ويظهر تأثير زيادة الأمطار في فترة الاحترار بعد العصر الجليدي الأخير بوضوح في صحراء مصر الغربية من حوالي 10 إلى 7 آلاف عام. وهي الفترة التي تميزت بأمطار موسمية صيفية جنوبية صاحبها ارتفاع مناسيب المياه الجوفية وجريان الأنهار. وظهور البحيرات في منخفضات الواحات البحرية والفرافرة والخارجة والداخلة وفي منخفض النبتة غرب أبوسمبل. كما شهدت واحة العوينات والوديان التي تدفقت عبر جبال الصحراء الشرقية ازدهار الأشجار والشجيرات والحشائش والحياة البرية الحيوانية.
ونتيجة لذلك ظهرت تجمعات سكنية من عصور ما قبل التاريخ بالقرب من مصادر المياه في الصحراء وتركت وراءها أدلة على أماكن سكنهم. بالإضافة إلى التصاوير المذهلة التي تستلهم طرق معيشتهم ومعتقداتهم وشعائرهم. كما هو الحال في كهف جارا ومأوى صخور الوادي المخفي في واحة الفرافرة وكذلك في مناطق أبعد جنوبا في منطقتي عوينات والجلف الكبير.
وفي منطقة جنوب غرب آسيا من إيران وتركيا إلى فلسطين، تمكنت بعض الجماعات البشرية استأنس الأغنام والماعز والأبقار ومن النباتات القمح والشعير والبقول.
تحول المناخ العالمي
وحوالي عام 8200 قبل الوقت الحاضر اجتاحت العالم فترة جفاف وبرودة مفاجأة وشديدة. خاصة مع بدء تحول المناخ العالمي إلى الجفاف، والبرودة ساهمت في نزوح بعض الرعاة من جنوب غرب آسيا إلى مصر عبر سيناء والوصول إلى المنطقة الساحلية من تلال البحر الأحمر. حيث توجد أقدم آثارهم بالقرب من ق حوالي عام 7850 قبل الميلاد.
بعد ذلك عبروا أودية الصحراء وشقوا طريقهم إلى الصحراء الغربية. حيث تظهر أول آثارهم حوالي عام 7650 قبل الوقت الحاضر. ولكن تقلبات المناخ والقحط والجفاف الذي شكل معالم الصحراء كما نعرفها حاليا أدت إلى نزوحهم إلى وادي النيل والدلتا. حيث عُرف أول دليل على الزراعة والرعي في الفيوم ومرمدة بني سلامة غرب الدلتا حوالي 6800 قبل الوقت الحاضر.
ومع استقرار المزارعين في وادي النيل وانتشارهم من الدلتا إلى الصعيد. بدأت المعاناة من تأثير تغير المناخ على فترات تتراوح بين عشرات ومئات السنين، وما يصاحبه من شحة المياه أو فيضانات عالية مدمرة. وكان أنجح الطرق لمواجهة ذلك هو التعاون بين القرى المجاورة لتقليل الأضرار من خلال نقل المواد الغذائية من الأماكن الآمنة إلى الأماكن المتضررة والتي اختلفت مواقعها نتيجة لتأثير الفيضانات على حركة النهر عبر السهل الفيضي. وبذلك تشكلت أول الوحدات السياسية من خلال تبادل الأغذية والتنظيم المحلي لري الحياض.
ومع نجاح هذه المنظومة الاقتصادية السياسية وما صاحبها من وشائج قربي ومصاهرة واحتفالات وطقوس تتابعت خطى توحيد الجماعات والوحدات السياسية لتكون إمارات. ثم ممالك إقليمية تم توحيدها في دولة مصرية تشمل وادي النيل والدلتا منذ 5000 عام.
ويمثل ذلك درسا هاما لما يتطلبه الوضع الحالي. كما أشار الرئيس عبدالفتاح السيسي في كلمته كرئيس مؤتمر COP27. والتي صرح فيها بأن الطريق إلى الاتحاد هو ما يحتاجه العالم لمواجهة الخطر الوجودي الذي لا يمكن التقلب عليه الآمن خلال العمل المشترك.
تغير المناخ وانهيار الدولة القديمة
وبعد فترة تأسيسية، دخلت مصر العصر الذي يتميز ببناء الأهرامات الضخمة والذي انتهى فجأة بفترة دامت 200 عام. تفككت فيها أوصال الدولة المركزية وسادت في بدايتها الفوضى والحروب والمجاعات.
وفي منخفض الفيوم، تمكنا من الكشف عن سر انهيار الدولة القديمة من خلال دراسة رواسب بحيرة الفيوم القديمة. ومنخفض الفيوم، وهو من أهم الأماكن في العالم للتعرف على التغير المناخي عبر آلاف وملايين السنين. يمكن للزوار مشاهدة بحيرة قارون التي كشفت رواسب القاع بها عن سجل من الفيضانات المرتبطة بالتغير المناخي منذ ما يزيد على عشر آلاف عام. مصاحبًا للاحترار المناخي فيما بعد العصر الجليدي الأخير التي تعرضت فيه مصر فيه إلى فترات جفاف وبرودة قارصة.
وبينما يقع سطح بحيرة قارون حاليا عند 45 مترا تحت سطح البحر تدفقت مياه النيل منذ 12 ألف عام إلى منخفض الفيوم عبر بحر يوسف. عندما أدى الاحترار إلى زيادة ضخمة في الأمطار في حوض النيل. وتكونت نتيجة ذلك بحيرة شاسعة عميقة وصل منسوبها إلى ما يزيد على 20 متر فوق سطح البحر.
ففي الوقت الذي حدث فيه الانهيار تظهر ترسيبات تدل على جفاف البحيرة. مما يعني توقف تدفق المياه إلى المنخفض نتيجة لهبوط سريع ومفاجئ لمنسوب النيل نتيجة فترة جفاف حادة في حوض النيل.
التصدي لتغير المناخ وظهور الدولة الوسطى
وكان الخروج من هذه الكارثة من خلال إعادة توحيد البلاد في الفترة التي تعرف بالدولة الوسطى (2055- 1650 قبل الميلاد) التي أعادت لمصر وحدتها من خلال مشروعات مائية قومية. وإعادة تنظيم الجهاز الإداري للدولة، وإرساء أسس منظومة أخلاقية تقوم على الالتزام الحاكم بحياة كريمة لرعايا الدولة ورعاية اليتامى والأرامل والمعوزين ورفع الظلم عن المستضعفين. والتي أصبحت المكون الأساسي لنصوص كتب الحكمة التي سبقت تعاليم الديانات الكبرى بمنطقة الشرق الأدنى.
تنبه ملوك الدولة الوسطى بعد فترة الانحلال والتفكك إلى إمكانية استصلاح الأراضي التي كانت تغمرها البحيرة. فأقاموا سدا عند مدخل المياه لتنظيم وإدارة تدفق المياه في منخفض الفيوم. مما سمح بالتحكم في كمية المياه وزراعة رواسب البحيرة التي تخلفت بعد جفافها حتى موقع مدينة الفيوم حاليا. وكونت مياه الفيضان أمام السد بحيرة كانت تغذي مجري مائي يصل إلى مصر منطقة أهرامات الجيزة ويروي الأماكن التي يمر بها. ويمكن للزائر أن يرى الأجزاء الباقية من السد الذي تتابعت جهود ترميمه حتى عصر محمد على.
هرم اللاهون
ويذكر أن ملوك الدولة الوسطي شيدوا هرما في اللاهون عند مدخل الممر المائي الذي يربط المنخفض بوادي النيل وهرما آخر في هوارة عند نهاية الممر. والجدير بالذكر أن جسم الأهرامات مشيد من الطوب المصنوع من طمي النيل تحت كسوة خارجية من الأحجار. وهو ما يدل على ربط الأهرامات بعطاء النيل من الطمي الذي تتكون منه الأراضي الزراعية ومياه النيل التي لا تصلح الزراعة بدونها.
كما يمكن زيارة بقايا قاعدتين حجريتين كبيرتين كانتا ذات يوم تدعم تمثالاً عملاقًا لأمنمحات الثالث في بياهمو، شمال الفيوم. وتوثق الرواسب الموجودة على الأجزاء المنهارة من القاعدتين الفيضانات المرتفعة التي دمرت السد في وقت لاحق.
ويمكن أن تشمل زيارة الفيوم رحلة لمشاهدة الشواطئ العالية للبحيرة القديمة العظيمة التي تعود إلي عصر الدولة القديمة غرب منطقة معبد قصر قارون.
لا يمكن أن تكتمل الرحلة دون رحلة جانبية إلى وادي الحيتان. مواقع التراث العالمي للحيتان التي تقطعت بها السبل عندما انخفض مستوى سطح البحر نتيجة للظروف المناخية العالمية الباردة والجافة قبل 37 مليون سنة. ويروي قصة تغير المناخ “متحف تغير المناخ” في وادي الحيتان بالفيوم (الذي صممه البروفيسور فكري حسن وصممه المهندس المعماري جابرييل (جابي) ميخائيل) الذي افتتح في عام 2016 هو أول متحف لتغير المناخ في العالم.
مقياس النيل شاهدا
تشمل الأماكن الواعدة والميسرة للتعرف على شواهد تغير المناخ قديما “مقياس النيل بالروضة في حي المنيل بالقاهرة”. وهو مصدر سجل فريد لارتفاع مناسيب فيضانات النيل عبر ما يزيد على 1300 سنة منذ القرن التاسع ميلادي. وقد كشفت الأبحاث العلمية من خلالها على ذبذبات مناخية تتراوح مدتها من عشرات إلى مئات السنين تغيرات خلال هذه المدة. وذلك لارتباط فيضانات النيل بتوقيت وحجم الأمطار على الهضبة الاستوائية وإثيوبيا التي تغذي روافد النيل الأبيض والأزرق. مما يسبب اختلافات هامة في توقيت وصول مياه الفيضان وكميتها والرواسب المصاحبة لها. وهو ما يؤثر على السهل الفيضي وحركة مجري النيل من الشرق إلى الغرب. ويؤثر كل ذلك على القدرة على الإنتاج الزراعي.
كما كشفت الأبحاث على فترات تتميز بفيضانات مدمرة عالية، أو شحيحة قاسية. ونستدل من الكتابات التاريخية للمقريزي وعبداللطيف البغدادي على ما أصاب مصر من كوارث نتيجة تأثير فيضانات النيل خلال العصور الفاطمية والمملوكية على المجتمع المصري. كما شهد القرن الثامن عشر قحط شديد في مياه النيل ساهم في أن تصبح مصر فريسة للاحتلال الفرنسي. وتواكب هذه المتغيرات ما يعرف في أوروبا بفترة احترار القرون الوسطى والعصر الجليدي الصغير.
تغير المناخ والسياحة
يتسبب الاحترار في ارتفاع مستوي البحر وتقلبات في الطقس وكوارث نتيجة للفيضانات والعواصف والجفاف أو السيول. ولذلك ينبغي أولا أن يكون هناك برنامج قومي لوضع خريطة مخاطر للآثار المهددة في المناطق الساحلية وفي مجري السيول لاتخاذ ما يلزم من تدابير لحمايتها.
ولتغيير المناخ بالتأكيد أيضا تأثير على السياحة بصورة مباشرة من خلال تأثير الطقس على توجهات ومقاصد زيارات السائحين كما في تقرير 2007 للجنة التغيير المناخي الدولية. مما يستدعي دراسة علمية مفصلة عن تأثير التغييرات المناخية المحتملة على السياحة في مصر. والتي تشمل أيضا التأثير غير المباشر للتغيرات المناخية على وسائل النقل ومصادر الطاقة والمياه والانبعاثات الحرارية المحيطة بالمواقع التراثية.
وفي هذا الإطار قامت بعض الدول بدراسات هامة في مجال “السياحة المستدامة”. وما يتطلبه من إعادة النظر في سياسات وتظم السياحة لدعم التكيف مع تغيير المناخ ومنها تعزيز مشاركة الأهالي في كل مراحل السياحة والمحافظة على البيئة وتأهيل البنية التحتية.
التراث اللامادي
ولذلك من الضروري تجهيز المناطق التي ستكون أكثر جذبا وتنويع المقاصد والبرامج السياحية في مجال السياحة الثقافية بما تتضمنه من اهتمام بالتراث اللامادي. وفي إطار استضافة مصر في 7-18 نوفمبر القادم المؤتمر العالمي UN Climate Change Conference 2022 لتغيير المناخ (UNFCCC COP 27) يستحسن أن تنظم الزيارات إلى الأماكن التي يستدل منه على ما حدث من تغيرات مناخية. بمصاحبة شروح لتأثير تغير المناخ على المجتمع وما تم من إجراءات للتخفيف من وطأتها والتغلب عليها.
ومن هذه الأماكن كما ذكرنا سالفا ومنخفض الفيوم والواحات المصرية ومقياس النيل بالروضة. وهناك أيضا مقاييس النيل في أسوان وإدفو والأقصر التي رصدت تغير مناسيب الفيضان نتيجة للتقلبات المناخية في أعالي النيل في عصور مصر القديمة.
وهناك أيضا “سد جراوي” بحلوان الذي صمم في عصر الأهرامات لحصد مياه السيول وتفادي مخاطرها. كما يجب علينا أن نأخذ في الاعتبار الدروس المستفادة من تأثير التغيير المناخي على الحضارة المصرية. والاهتمام بشواهد تأثير التغير المناخي كمزارات تثقيفية وتعليمية، واحتمالات تأثير التغيير المناخي على عناصر التراث وعلى السياحة التراثية، خاصة كمساهمة من مصر في المؤتمر العالمي.
اقرأ أيضا
د.فكري حسن خلال معرض«الرحلة»: العامية المصرية هي الفصحى العربية المعاصرة