قاهرة مكاوي سعيد: تغريدة مدينة تحتضر
يجلس على مدخل مقهى البستان، يداعب عادة قطة، يقابلك بابتسامة تحمل كل وداعة الدنيا. هكذا كانت صورة مكاوي سعيد (1956- 2017)، كحارس أمين لوسط البلد، تلك المنطقة الأكثر حيوية في القاهرة والتي جعلها سعيد المسرح المفضل لأحداث أشهر رواياته وقصصه، فقدم لمحات مهمة عن المدينة في الربع الأخير من القرن العشرين تستحق الدراسة والتحليل، بل أن مشروعه الروائي والقصصي يستحق دراسة موسعة عن استخدام المكان في القاهرة، لكننا هنا سنكتفي ببعض الإشارات والخطوط العريضة.
ترك سعيد -الشهير بين أصدقائه بميكي- الكثير من النصوص الأدبية التي تدور أحداثها في القاهرة؛ مثل: (تغريدة البجعة) و(فئران السفينة)،كما ترك عدة نصوص تشتبك مع معالم منطقة وسط البلد التي عشقها وعاش فيها حتى حفظ كل ركن فيها. ترك لنا شاهدته عن القاهرة والمنطقة الأشهر فيها، ليمزج بين المشاهدة واستعادة المعلومات التاريخية، في سلسلة من الأعمال التي تراوح بين الأدب والتاريخ، هي: (القاهرة وما فيها)، و(مقتنيات وسط البلد)، و(عن ميدان التحرير وتجلياته)، وهي نصوص كتبها مكاوي سعيد بروح ابن البلد، يؤرخ للمكان الذي عاش فيه وتغلغل في مشروعه الإبداعي، غير غافل عن أرواح البشر التي بثت الحياة في الحجر وتفاعلت معه.
يقر صاحب (تغريدة البجعة)، بعشقه للقاهرة، إذ يصرح في مقدمة كتابه (القاهرة وما فيها) بهذه المشاعر: “أنا أحب القاهرة لأني ولدت في عاصمتها الفخرية (منطقة وسط البلد)، التي عشقت أماكنها وتاريخها وأرواح ساكنيها الراحلين التي تجوب طرقها وأسبلتها كل ليلة، والمقيمين فيها الذين يتجولون ويتجادلون ويضيفون إليها أو ينتقصون منها”. هنا نلتقي بنفس المقريزي في التعبير عن محبة القاهرة، إذ دشن خطابا عن عشق المدينة في كتابه (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار)، انطلق في مقدمته من نفس منطلقات مكاوي سعيد، وكأن عشاق القاهرة يتبادلون البيان الرسمي لإعلان هذا الوله.
***
في أحد أهم نصوص (القاهرة وما فيها) بالنسبة لموضوعنا، يطلق مكاوي سعيد العنان لبيان علاقته مع المكان في وسط القاهرة، عند حديثه عن قصر عابدين والساحة التي يطل عليها، يقول: “رأيت أن أحدثكم عن مكان يفتنني كثيرًا، وهو مصدر سعادة لي كلما ضاق بي الصدر، أستريح أمامه على دكة حجرية من الدكك التي تحيط بالحديقة الصغيرة التي تقزمت بفعل الزمن وتحولت من حديقة غناء إلى مجرد بقعة خضراء منثورة وسط شارعين! ولم يكن ليجرؤ أحد ليقترب من الحديقة لقرن أو أكثر من الزمن”. ومن بوابة الذكريات والراحة التي يجدها سعيد في حديقة القصر الخارجية ينطلق ليؤرخ للقصر وذكريات ساكنيه وأهم الأحداث التاريخية التي جرت داخل قصر عابدين أو في الحي الذي يحمل نفس الاسم.
النفس الطويل لمكاوي سعيد في تأريخ الأماكن والأحياء كما فعل عندما تحدث عن حي جاردن سيتي في كتابه (القاهرة وما فيها)، يدل على ولع شديد بتفاصيل كل مكونات وسط البلد، المنطقة التي عاش فيها ومات المبدع الكبير، والتي وقع في غرامها، فما نقرأه على صفحات الكتاب دليل بحث استغرق سنوات بين كتب تاريخية تعود إلى العصر المملوكي وصولا إلى العصر الحديث، وتنقيب في الصحف والمجلات التي صدرت على مدار القرن العشرين، وبحث بين وثائق رسمية وشخصية، أي أننا أمام عمل تركيبي يتوافر فيه كل شروط التأريخ الاحترافي، والمصاغ في شكل أدبي يزيد من حلاوة القراءة ولا ينقص من عمق المادة المعروضة.
***
عندما كتب مكاوي سعيد عن ميدان التحرير، كان الأخير في بؤرة الضوء المحلي والعالمي، كونه مركز الثورة المصرية في 2011، فنشر كتابه عن التحرير في 2012، أي والأحداث لا تزال ساخنة، ورمزية الميدان في أعلى صورها طهرانية، وعاد ووسع الموضوع في كتابه التالي (كراسة التحرير)، ورغم ارتقاء الكتابين إلى مستوى الشهادة الشخصية على حدث مفصلي وهو ثورة يناير، إلا أنهما يقدمان تأريخا للمكان يصعب للمهتم بتاريخ القاهرة أن يتجاهله، يقول عن الميدان: “عندما تنظر من أعلى إلى ميدان التحرير في قلب العاصمة المصرية؛ القاهرة. يمكنك أن تتخيل أنه قرص شمس. وأن الشوارع العديدة التي تفرعت منه هي أشعة الشمس، التي تقول أساطير فرعونية إنها أيدي الإله آمون. من هنا من هذه الشمس بدأت الثورة المصرية”.
يقر سعيد بحقيقة أن ميدان التحرير لم يكن الميدان الأهم في القاهرة، من حيث حركة البشر، “إذ يسبقه ميدان رمسيس من حيث الأهمية لوجود محطة قطارات مصر فيه، وكذلك لوجود مواقف انتظار سيارات الأجرة التي تنقل الركاب بين المحافظات، ولتفرع وسائل المواصلات منه. ثم يأتي ميدان العتبة تاليًا في الأهمية، لكونه المركز التجاري الأول في القاهرة”. لكنه يلمح للطبيعة السياسية لميدان التحرير الذي شهد فصولا من الحراك الوطني طوال القرن العشرين، وفي العصرين الملكي والجمهوري، وصولا إلى لحظة يناير فقد “جعلت الثورة المصرية من التحرير واحدا من أهم ميادين العالم”.
***
ينطلق مكاوي سعيد من ميدان التحرير لتقديم معلومات حول شبكة الشوارع والميادين التي تحيط بالميدان الشهير، كذلك أشهر المباني الموجودة مثل مجمع التحرير، والجامعة الأمريكية، وجامع عمر مكرم، ونادي السيارات، وقصر هدى شعراوي، الذي هدم قبل زمن، لكن سعيد يعطينا شهادة مهمة حول مكان القصر الذي تحول إلى ساحة انتظار سيارات لعقود طويلة، وأثناء أحداث الثورة، “كان له دور كبير أيضا في حماية الثورة، فقد استفاد الثوار من بعض ألواح الصاج التي كانت تسيج المكان، وكذلك أسياخ الحديد التي تسند الصاج في الخلفية، واستخدموا الصاج كدروع ضد الطوب وكسر الرخام”، أثناء هجوم البلطجية على الميدان. من المهم هنا القول إن هذه المساحة بني عليها فندق افتتح في العام 2017، أي قبل رحيل سعيد بأشهر قليلة، لكن تبقى شهادته هنا حية عن تحولات هذا المكان المحوري في تاريخ القاهرة.
يؤرخ سعيد لبعض صفحات مقاهي وسط البلد، التي تحولت إلى مراكز ثقافية، وهو يقدم معلومات فريدة ومهمة كشاهد عيان عن الحركة الثقافية في القاهرة ومقاهيها في الربع الأخير من القرن العشرين، والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين، وهي مادة مهمة لأنها تأتي أولا من شخص عايش هذه التجارب وانخرط فيها، وثانيا أن ما يرصده يأتي في خضم تحول مجتمعي هائل أثر على وظيفة المقهى الثقافي، فهو يشير مثلا إلى تراجع مكانة مقهى سوق الحميدية بباب اللوق، والذي يصف أجواء المجد، لكنه يعلق “يحزنني أنه تدهور كثيرا هذه الأيام”، ويتحدث عن مقهى “الندوة الثقافية” بشعور أنهى سيبقى مع جيل جديد من الفنانين والمغنين والملحنين الشباب، لكن المقهى أغلقت أبوابه في 2022، بسبب نزاع الورثة، كما لا يتصور أحد يزور منطقة البورصة المصرية بوسط البلد، انها كانت مليئة بالمقاهي كما يتحدث سعيد، فقد تم إخلاء هذه المنطقة من جميع المقاهي بعدما شهدت تجمعا وازدهارا كبيرين في أيام الثورة وما بعدها من أيام.
***
يرصد سعيد بعض المواقف التي تربط المكان بالبشر بالأحداث، فمقهى ريش الشهير والمعروف بدوره التاريخي في ثورة 1919، مر بتحولات كثيرة كان في بعضها الملتقى الأبرز للمثقفين، لكنه يرصد بعض التحولات في مالكي المقهى، فبعد وفاة مالك المكان في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، قرر الورثة إغلاق المقهى لتغيير الصالة الخارجية المفتوحة إلى “علبة معدنية تعزل الرواد عن الشارع”، لكنه يؤكد أن سبب الإغلاق “كي لا يتمكن الأديب العالمي نجيب محفوظ من إقامة ندوة يوم الجمعة، وأجبروه على عقدها بكازينو قصر النيل، وكان أديبنا الكبير متذمرًا جدًا من هذه المعاملة ومتأذيًا ويذكرها بأسى في أغلب جلساته”.
***
النصوص التي يعلق فيها مكاوي سعيد في كتبه عن القاهرة كثيرة، ورغم أنه يعيد صياغة معلومات تاريخية ليست جديدة في كتبه، إلا أنه يضيف إليها في الكثير من الأحيان تعليقات مهمة جدا وكاشفة عن تحولات المدينة خصوصا في منطقة استراتيجية مثل وسط البلد، كانت ولا تزال القلب النابض للمدينة سياسيا واقتصاديا وثقافيا، لا نقول إننا غطينا كل نصوص سعيد عن المدينة، فهي تستحق دراسة نكتشف فيها ملامح التحولات في المدينة في الربع الأخير من القرن العشرين والعشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين، وهي فترة شهدت تحولات سريعة وتغيرات أثرت في معالم البشر والحجر في منطقة وسط البلد، وتمكن مكاوي سعيد في الكثير من الأحيان في رصدها وتسجيلها كشاهد عيان، فترك لنا شاهدة ممتدة عبر الكثير من الكتب تستحق الرصد والاشتباك.
اقرا أيضا:
قاهرة جلال أمين: ماذا جرى للمدينة؟