قاهرة فتحي رضوان (2): تحولات المدينة في قلب «السيدة»

قدم فتحي رضوان (1911- 1988م)، معلومات غاية في الطرافة وعلى قدر كبير من الأهمية في ما يخص تاريخ القاهرة الاجتماعي والاقتصادي والعمراني في النصف الأول من القرن العشرين. وهي مادة على الرغم من أنها مقدمة بصورة أدبية رفيعة، إلا أنها تعكس ما سجله شاهد عيان من أبناء المدينة في لحظة تاريخية حافلة بالمفارقات، في ما دونه من سيرته الذاتية.

وبعد أن توقفنا في المقال السابق عند ما قدمه من معلومات ذات طبيعة اجتماعية ثرية عن شارع سلامة، الذي جعله مرآة عاكسة للحياة في القاهرة حينذاك، نتوقف هذه المرة مع اللوحات الاجتماعية والاقتصادية التي يقدمها في كتابه (خط العتبة)، عن حي السيدة زينب، الذي يبدو واضحا أن رضوان من الواقعين في غرامه المتحمسين لذكر محاسنه. لذا لا تتعجب عندما تقرأ سؤاله الذي يبدو أنه متأكد من إجابته: “ألا ترى معي أن تاريخ مصر الحديث كله، يرتبط بهذا الحي الفريد الفذ؟“.

يحكي فتحي رضوان عن عمق علاقة أسرته بحي السيدة زينب قائلًا: “انتقلنا من الجيزة إلى منزل في شارع سلامة، بحي السيدة زينب، ثم بقينا ننتقل في بيوت بهذا الحي. ولما كبرت أختي الكبرى وتزوجت، قضت وقتًا في الأرياف ثم انتقل زوجها إلى القاهرة فأقامت في الحي نفسه، ثم أقام خالاي الأكبر والأوسط في هذا الحي ذاته، وكانت جدتي تقيم فيه أيضًا قريبًا من بيتنا فحي السيدة زينب، كان لنا بمثابة وطن“. يفسر تشابك العلاقات الأسرية وتغلغلها الإحساس العميق لدى بالتفاصيل الدقيقة لحي السيدة زينب.

***

وتحت عنوان “شخصية حي”، يقدم فتحي رضوان في كتابه (خط العتبة)، لوحة معلوماتية شديدة الإمتاع والأهمية لمعالم حي السيدة زينب، أحد أكبر أحياء القاهرة في العقود الأولى من القرن العشرين، والذي يصفه بأنه بين أحياء القاهرة “أكثرها تفردًا وامتيازًا“. يرسم بالكلمات لوحة فنية بألوان شديدة الصخب بمداد الحياة في الحي الشعبي الذي لا تعرف شوارعه النوم إلا قليلا. وما يكتبه رضوان هنا يذكرنا بأوبريت “الليلة الكبيرة” لصلاح جاهين وسيد مكاوي، حيث اللوحات المقدمة تنبض بالحياة التي تكاد تعيش في تفاصيلها، وأنت تقرأ نص السيرة الذاتية.

نلتقي بابن الحي العاشق لكل مفرداته، فيبدع في نص أدبي شديد التميز والجمال عن ميدان السيدة زينب “الذي يجتمع فيه القديم والجديد، والدين والدنيا، والتطهر والفساد بغير دعوة من أحد، في هدوء وانسجام كأحسن ما يكون التعايش والوئام. كأن هذه الأشياء ليست أضدادًا، وكأن الواحد منها لم يأت ليقتلع الآخر. فنحن نرى مسجد السيدة زينب، بواجهته الجميلة البسيطة، ومئذنته الرفيعة الرشيقة، فتتداعى أمامنا صور الجهاد الإسلامي الأول، وتهل علينا طلعة الرسول الفياضة بالنور، المشرقة بالطمأنينة، ثم نرى في الحال صورة الإمام علي، ثم صورة ابنة الحسين، وابنته زينب، ويتعطر الجو، بعبير التضحية والاستشهاد وإنكار النفس، والفرار من الدنيا“.

في مواجهة هذا الوجه التقي لميدان السيدة، نتقابل في نص فتحي رضوان بالنصف الآخر لوجه الميدان، الوجه الأكثر شراسة. “هو قسم السيدة زينب، فنسمع ونرى منه وحوله، لغطًا وضربًا بالأرجل وصفعًا بالأيدي، وأناسًا يسحبون على وجوههم، وألفاظًا كالرصاص الطائش تتناول العرض، وتجرح الأذن، وتدمي الحياء. ونرى ما هو أمر وأدهى، إذ احتل الإنجليز في أيام صبانا الباكر القسم وجعلوه مقرًا لجنودهم بخوذاتهم الحديدية، ووجوههم الحمراء“.

***
حي السيدة زينب
حي السيدة زينب

يترك رضوان قسم الشرطة الذي تحول إلى رمز الاحتلال البريطاني في قلب الحي الشعبي، إلى رصد الحركة في ميدان السيدة ففيه “خمسة عصور في شكل خمسة وسائل للنقل: فقد كان فيه موقف للحمير، وموقف لعربات الكارو، وموقف لعربات الحنطور ثم موقف لسوارس، ثم محطة ترام رئيسية، ولكل هذه الوسائل طالب يطلبها. الحمار يمثل القرن السابع عشر، وعربة الكارو تمثل أوائل القرن الثامن عشر، وعربة الحنطور تمثل منتصفه، وسوارس هو أتوبيس تجره البغال كان يملكه يهودي… والترام يمثل القرن التاسع عشر، وفي محطة الترام تقف سيدات يلبسن الملاءة اللف، سيدات يلبسن الحبرة والتزييرة والبرقع الأبيض، يغطي بعض وجوههن، ويزيد عيونهن المصرية جمالًا وفتنة. وإلى جانب هؤلاء جميعًا، يهل القرن العشرين في صورة فتيات مدرسة السنية حاسرات الوجه، يطلبن العلم في استحياء“.

وهو يلفت النظر هنا إلى طابع الارتجال العشوائي الذي يضم العديد من الأشياء في مكان واحد بلا نسق، سواء على مستوى البشر أو النشاط الاقتصادي أو التنظيم الإداري أو الحياة الاجتماعية، فيقول عن ملابس الرجال الذين يتجولون في الميدان الشهير: “رجال كأنهم شخوص في متحف: لابس العمامة والجبة والقفطان، ولابس الجلباب والعمامة البلدي، ولابس الطربوش على الجبة والقفطان حينًا، وعلى الجلباب البلدي حينًا آخر، ولابس اللبدة والطاقية واللاسة، وأخيرًا لابس البذلة الإفرنكية، وبعض لابسي هذه البذلة لا يقنعون بها دليلًا على تفرنجهم، إذ يأبون إلا أن يقيموا أطراف شواربهم كحد السكين بما يتهيأ لهم من أسباب التطرية والتلميع، التي كانت الألسن تتداولها بلفظها الأجنبي: جوزماتيك“.

***

أما الحياة التجارية لميدان السيدة فقد أفرد لها فتحي رضوان عدة صفحات يتحدث فيها عن تفاصيل التفاصيل في الميدان، وتوزيع المحال التجارية فيه، حتى كأن هذا الوصف على طوله خريطة رسمت بالكلمات وحددت معالمها بالوصف الدقيق، الذي يرصد رضوان من خلاله التحولات التي تضرب عميقًا في المدينة بدايات القرن العشرين، وكيف أن ريح الحداثة هبت على ميدان السيدة فتركت علاماتها. فالصيدلية التي هي “من صنع الحضارة الحديثة، وتطبيقًا للطب الحديث“، تنتصب في الميدان بجوار محال العطارين، الذين “يبيعون أدوية وعلاجات القرون الخالية“. وبجوار صالون الحلاقة الحديث، نجد الحلاق القديم الذي يطلق عليه المزين، والذي لا تقتصر مهمته على تزيين الرؤوس والشوارب، بل يمارس مهنة الطب الشعبي أيضا من خلع للأسنان والحجامة، ثم يمد مظلة أعماله فـ “يشتغل سمسارًا ووسيطًا، ويجمع الرؤوس في الحلال“، وهو في كل هذا “يروي الفكاهات اللاذعة التي تجدد الحيوية، وينشر الإشاعات اللاسعة التي تشبع الفضول، ويحكي أسرار البيوت والعائلات التي تنفي الملل“.

فتحي رضوان مع جمال عبدالناصر
فتحي رضوان مع جمال عبدالناصر

ويتوقف عند حياة المقاهي في الحي الشعبي، لينقل لنا الكثير من التحولات التي مرت على نقاط الجذب هذه، وكيف تغير مزاج المصريين من بدايات القرن العشرين إلى منتصفه، فالمقهى الإفرنجي في الميدان، كان رواده من موظفي الحكومة الذين “يشربون القهوة ولا يطلبون الشاي، إذ لم يكن مشروبًا شائعًا في تلك الأيام، ويشربون مع القهوة الكازوزة… ويلعب رواد القهوة الإفرنكي الطاولة، وقد يلعبون الدومينو قليلا، ويلعبون الورق في النادر“. في المقابل تقع القهوة البلدي، والتي “غالبًا ما تكون أرضيتها طينًا بلا بلاط ولا رخام. تتوزع في جنبها كراس من الخشب، وقواعدها من قش القصب أو الغاب… ولا تشرب في هذه المقهى القهوة إلا قليلًا، وإنما يشرب الشاي الأخضر والأحمر في أكواب صغيرة، ويشرب الزنجبيل والقرفة، ولا يلعب النرد؛ أي الطاولة، إلا نادرًا، فالورق والدمينو هما اللعبتان المفضلتان لأبناء الشعب“.

***

يرسم فتحي رضوان لوحة اجتماعية لسكان حي السيدة قائلًا: “حي الأغنياء الذين لا يعرفون كيف ينفقون ثرواتهم، وحي الفقراء الذين لا يجدون قوتهم؛ يعيشون في قلعة الكبش، وقلعة طولون، ويمارسون مهنًا أقرب إلى الجرائم، فمنهم القرداتي، وصاحب القره قوز، والحاوي، وضاربة الودع، وآكلوا النار، والرفاعية الذين يستخرجون الثعابين من المنازل، والمهرجون والرقاصون، ومن هؤلاء جميعًا نشالون ولصوص منازل، وخاطفو أطفال وقوادون صغار، ومديرو بيوت للبغاء السري“.

ويعطينا خريطة لأماكن البغاء في الحي الشعبي في الربع الأول من القرن العشرين، ومن المعروف أن البغاء وقتها وحتى نهاية النصف الأول من القرن ذاته كانت مرخصة ومنتشرة في الكثير من أحياء القاهرة، وهو ما يؤكده رضوان بقوله: “إن في قلعة الكبش خيامًا لممارسة الدعارة الرخيصة، وفي شارع من شوارع الحي؛ وهو شارع الصليبة، كان يقوم مستشفى الحوض المرصود، لمعالجة البغايا في عهد البغاء الرسمي العلني. وكان لهن موكب معهود في الذهاب إلى المستشفى والعودة منه، على عربات كارو يجلسن عليها صفوفًا، وعلى وجوههن القبيحة الذابلة، طلاء أحمر فاضح وأبيض صارخ يزيد دمامتهن نفورًا، أو يستثير في قلوب ذوي الرحمة الحنان والشفقة“.

***

وكما في معزوفة أوبرالية يتصاعد النغم، ويلقي أمامنا فتحي رضوان بمشهد صاخب لخروج العاهرات من مستشفى الحوض المرصود: “فإذا خرجن من المستشفى، وقد ثبت للطبيب (طبيب المحافظة) أنهن خاليات من الأمراض السرية، ولم يحتجزهن، عدن على نفس العربة، وهن يغنين بصوت مسلوخ: سالمة يا سلامة، رحنا وجينا بالسلامة. وكنا نسمع هذا الغناء، ولا ندري له معنى ولا نسأل من يكن أولئك المغنيات النحيفات المهزولات اللواتي يشبهن المريضات“.

يترك فتحي رضوان زفة العاهرات المحتفلات بـ”السلامة”، ويسلط بصره على التقسيم الإداري لحي السيدة، الذي يضم عددا من الشياخات، “كل منها له ذاتيته المميزة“. لكنه يركز على شياخة (المدبح) “حيث تذبح الذبائح التي تطعم العاصمة جميعًا باللحوم، وكان لعربات المذبح موكب رهيب، يخترق شارع زين العابدين الذي يبدأ بميدان المذبح، وينتهي بميدان السيدة زينب، وهي عربات خضراء من الخشب غير المتماسك، توضع فيها الذبائح وتجرها جياد ضخمة، يقودها جزار متمنطق بحزام هو سلسلة حديدية، يتدلى منها ساطور أو (مستحد)؛ وهو أداة تسن عليها السكاكين، والحزام يدور حول وسط جلباب أبيض، تلوثه الدماء“.

***

ولأن أرض المذبح بالقرب من مشهد رأس زين العابدين، المعروف شعبيا باسم زينهم، كانت شبه فارغة من أي نشاط عمراني، بل وتقع على تخوم المدينة الجنوبية، في منطقة تضم عدة تلال من مخلفات المدن الخالية، فقد استخدمت الأرض من حول المذبح لإقامة السيرك الشعبي، “في أرض المذبح، تقام عادة خيام السيرك، حيث شاهدنا الأسد المصري عبد الحليم بك المصري، والنمر السوري يوسف أفندي برزه“.

ينتقل إلى وحدة إدارية أصغر تتميز بها شياخات حي السيدة، وهي الجناين والأحواش، مثل جنينة ياميش وجنينة لاظ، لكنه يتوقف عند حوش أيوب بك، الذي ترك أثره عميقا في ذاكرة المؤلف، لأنه لعب “دور خطير في حياة صبيان وشبان شياخة البغالة من حي السيدة زينب، ففي هذا الحوش يتخرج لاعبو الكرة في ديمقراطية طبيعية تلقائية، تدل على طبيعة أهل الحي، بل طبيعة أهل القاهرة، بل أهل مصر جميعا. ففي هذا الحوش يلعب أبناء الجزارين والبقالين وسائقي عربات الحنطور والكارو، وأحيانا أبناء اللصوص والنشالين والذين لا عمل لهم، مع أولاد المدارس من أبناء المهندسين والقضاة والأطباء، وأبنا بعض البيوتات القديمة التي قلت ثروتها، وبقيت تقاليدها، ويلعب الصبيان في هذا الحوش، بدون صدام أو عراك، وبدون الشعور بالحاجة إلى إدارة تنظم اللعب فيه، وتتكون الفرق المؤقتة وشبه الدائمة، وتجري مباريات بينها وتغلب وتهزم وتتشاجر وتنفض وتأتي غيرها“.

***

كما ينظر الكاتب بعين المراقب إلى التوزيع الاجتماعي لأبناء الطبقات المختلفة في حي السيدة، فهو يشير إلى أن قلعة الكبش وحي طولون، باعتبارها أحياء المهمشين وأبناء “الفقر المدقع والجريمة الحقيرة والدعارة الرخيصة التعيسة“. ثم ينتقل إلى حي الإنشاء “حيث تتجاور بيوت الباشوات وكبار رجال الدولة المدنيين والعسكريين“، وصولا إلى حي المنيرة والمبتديان، “حيث ترتفع درجة الثراء فتجد عددًا من أثرى أثرياء مصر“. أما على واجهة النيل حيث جاردن سيتي فـ “تقوم أجمل القصور وأغناها، يسكنها كبار الطبقة الارستقراطية التركية، أمثال عدلي يكن، والأرستقراطية الريفية أمثال بدراوي عاشور، والأرستقراطية المحدثة والتي نعرف الكثير من أسماء أصحابها، ثم أرستقراطية المال الأوروبي”. هكذا تبدو أكثر أركان الحي الكبير فقرا هي القريبة من جبل المقطم ثم يتراجع الفقر حد التلاشي كلما اقتربت من النيل.

فتحي رضوان وصلاح جاهين
فتحي رضوان وصلاح جاهين

إن المادة التي يقدمها فتحي رضوان في سيرته الذاتية شديدة الثراء والكثافة في التعبير عن تحولات القاهرة ومجتمعها في النصف الأول من القرن العشرين، كان شاهد عيان على لحظة فارقة في تاريخ المدينة وهي تخطو لعصر أكثر كثافة في استخدام التكنولوجية ومنتجات الحداثة، مدينة كانت تخرج من عالم لتدخل في عالم آخر، لكن رضوان سجل لحظة بينية، بين عصرين وعالمين ومجتمعين، تصادف وأن تواجدا في إطار مكاني واحد هو بعض أحياء القاهرة، ومن هنا أهمية هذه الشهادة.

ربما يلخص هذه الروح قول فتحي رضوان نفسه: “كلما تذكرت أن الشوارع التي نراها الآن مزدانة بالمباني الضخمة، والتي تختنق بالحركة، وتموج بالسائرين والسائرات، كانت في أيام صباي أرضًا زراعية، يلعب الناس عليه الكرة. أخذتني الدهشة لسرعة سير الحياة، ولضخامة التطورات التي وقعت في مدينتنا المحبوبة القاهرة“.

اقرأ أيضا:

قاهرة فتحي رضوان (1): المدينة من نافذة شارع

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر