قاهرة رؤوف عباس حامد: التأريخ للمدينة من الهامش
بعض الأقوال التي تتردد عن قاهرة العصر الملكي (1922- 1953) تركز على طرف الصورة، حيث حي السلطة والأجانب، لكنها لا تلتفت عادة لحياة المصريين في المدينة. يغيبون من السردية فالكثير من النصوص المعاصرة تنطلق من خلفية اجتماعية واقتصادية إما متماهية مع السلطة الملكية والاستعمارية، وإما تنتمي إلى الشرائح الوسطى العليا. وهي نصوص رغم أهميتها إلا أنها لا تنقل لنا رؤية ملح الأرض حول طبيعة الحياة في القاهرة وقتذاك. هنا يظهر نص (مشيناها خطى) للدكتور رؤوف عباس حامد، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر (1939- 2008م)، ففي سيرته الذاتية يقدم أصوات الشرائح الدنيا في مجتمع القاهرة، ويعرض لنماذج حياتية تشكل إضاءات قوية على حياة قطاعات من القاهريين تتجاهلهم النصوص الرسمية عادة.
ما يقدمه رؤوف عباس حامد في سيرته الذاتية المنشورة في 2004، هو تأريخ حقيقي للمجتمع المصري عامة والقاهرة على وجه الخصوص، في فترة الأربعينيات من القرن الماضي، وهي فترة غنية بالأحداث والتحولات. فمعظم فصول السيرة تتناول تحولات حقيقية تركت بصماتها على المدينة. وما يكسب هذه الشهادة فرادة أنها تأتي من شخصية تمتلك أدوات خاصة. فكاتب النص هو مؤرخ أكاديمي صاحب مدرسة في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي، واشتبك مع قضايا الوطن على الدوام.
يزيد هذه الشهادة قيمة أن رؤوف عباس ينتمي إلى “جيل مخضرم تفتَّحت عيونه على الدنيا في عهد الملك فاروق، واكتمل وعيه بهموم الوطن وهو بعدُ لم يبلغ الحلم. وشهد مولد ثورة يوليو 1952م، وعاصر صعودها، وانتصاراتها، وكبواتها وإخفاقاتها. وقُدر له أن يمتد به العمر ليشهد أفول نجمها، وتصفية المشروع القومي العربي، وعودة الوطن العربي مرتعًا لأخطر أشكال الهيمنة والاستعمار“، بحسب ما يقول في سيرته الذاتية.
***
يرصد رؤوف عباس تاريخ المدينة بشكل مختلف إذ يؤرخ المدينة من أطرافها؛ التاريخ من أسفل. إذ تعكس سيرته الذاتية منظور شريحة دنيا من الطبقة الوسطى. فوالده كان عاملا بالسكة الحديد “يشغل أدنى درجات السلم الوظيفي الخاص بالعمال“، ونتيجة لعمل والده في أكثر من مكان استقر الحال بصاحبنا في حي شبرا منذ أواخر العام 1943. حيث قطن مع جدته لوالده، وقتها كان رؤوف الصبي في الرابعة من عمره، ويحدد لنا مكان سكناه في شارع الرافعي الذي يعد امتدادا لشارع الجيوشي المتفرع من شارع الترعة البولاقية بشبرا. وهي منطقة فقيرة مهمشة أعطت لرؤوف عباس الفرصة للتأريخ لجوانب مهجورة من سردية القاهرة.
ويقدم لنا بعض المعلومات العمرانية عن القاهرة الممزوجة بحياة أبناء المدينة من المهمشين بصورة تنبض بالحياة. يقول: “عزبة هرميس [يطلق عليها حاليا عزبة الهرامة] التي وقعت عند سور مدخل الخط الحديدي إلى محطة مصر منطقةً زراعية، بل كانت منطقةً سكنية خاضعة للتنظيم من حيث التخطيط إلى شارع رئيسي تتفرع منه حوار وتتفرع منها دروب. وكان ارتفاع المباني فيها لا يتجاوز الثلاثة طوابق، تشترك معظمها في خلوِّها من المياه والصرف الصحي. فكانت هناك حنفية عمومي ضخمة أشبه ما تكون بصنبور الإطفاء الآن، بجوارها (كشك) يجلس فيه العامل الذي يقوم بتحصيل مليم واحد على كل قربة ماء أو أربع صفائح مياه“.
يستكمل المؤرخ الكبير تقديم تفاصيل حياتية لحي على أطراف القاهرة في أربعينيات القرن الماضي قائلا: “كان لكل بيت خزان خاص تحت الأرض يتجمع فيه الصرف. حتى إذا امتلأ استأجر السكان عربة كسح لنقل محتويات الخزان لقاء أجر بسيط. أما الكهرباء فظلَّت اختراعًا مجهولًا لا يعرفه سُكان العزبة، فكانت البيوت تنار بلمبات (الجاز)، فإذا كان هناك عرس أو مأتم أضاءت (الكلوبات) الشارع الرئيسي حيث يُنصب السرادق عادة“.
***
يستكمل صاحب (مشيناها خطى) لوحته التأريخية بوصف بعض أنماط الحياة الاجتماعية داخل هذا الحي المهمش: “كان مُلاك البيوت التي يتكون منها هذا المربع السكني من أصحاب الحرف الذين حولوا مدخراتهم البسيطة إلى عقارات متواضعة. تؤجر بالغرفة الواحدة أو الغرفتين المتجاورتين المتصلتين ببعضهما البعض. أما الصالة التي تقع عليها تلك الغرف، فكانت مشاعًا للسكان، وكذلك المرحاض الذي يقع في كل طابق من طوابق المبنى. أما الحمام فاختراع مجهول عند سكان الحي البائس، فالجميع يستحمُّون في (الطشت) داخل غرفهم. وكان سكان تلك البيوت شركاء لمُلاكها في السكن والفقر، فلم يكن المُلاك أفضل حالًا من مستأجريهم“.
ويشير هنا إلى أن سكان العزبة كانوا في معظمهم من أهل الريف “الذين نزحوا إلى القاهرة طلبا للرزق. وفرارًا من الفقر إلى البؤس والشقاء“. وهو هنا يعطي لمحة قوية إلى ظاهرة الهجرة من الريف إلى المدينة. وهي مشكلة ظهرت بقوة منذ ثلاثينيات القرن الماضي. مع تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية والمحلية التي عصفت بالريف المصري. أجبرت ساكنيه على الهجرة إلى القاهرة. ما أدى إلى بداية ظهور العشوائيات على أطراف المدينة.
ثم يعرج إلى التحام تفاصيل الحياة اليومية بين جميع سكان الحي من المسلمين والمسيحيين: “لذلك كانت عزبة هرميس (مصر الصغرى). عاش سُكانها معًا، وكأنهم أسرة واحدة يأكلون معًا من طبق واحد، فرغم فقرهم الشديد كانوا يتبادلون أطباق الطعام والحلوى. ولم تكن أيام صيام الأقباط العديدة عائقًا أمام استمرار هذه العادة، بل كان الجميع مسلمون وأقباط صائمين معظم العام بالمفهوم القبطي للصيام، لا تعرف (طباليهم) اللحوم إلا في المواسم والأعياد. وكانت النسوة المسلمات والقبطيات يتبادلن إرضاع أطفال بعضهن البعض“.
***
يعطي رؤوف عباس لمحة للحركة العمرانية التي عرفتها القاهرة في عصر الزعيم جمال عبدالناصر (1954- 1970م). إذ تم شق العديد من الشوارع والطرق الرئيسية بما في ذلك طريق صلاح سالم وكورنيش القاهرة، لكن هنا نلتقي بأثر شق طريق آخر أثر على مواطن ذاكرة رؤوف عباس الذي يتحدث بصيغة البناء للمجهول: “شهد ثلاثة أرباع العزبة يختفي من الوجود ليُفسح الطريق لشق طريق أحمد حلمي المجاور للسكة الحديد. كان ذلك عام 1961م، عندما نُزعت ملكية تلك البيوت الفقيرة، وبدأت معاول الهدم تُسويها بالأرض. من بينها البيت الذي أورثه عاهة مستديمة عندما سقط من الطابق الثاني، والبيت الذي انتقلت إليه الجدة (بعد الحادث). وبيت ثالث انتقلت إليه الجدة بعدما رغب صاحبه في الحصول على غرفتها لسكنى ولده المتزوج حديثًا. هذه البيوت الثلاثة التي طويت تحت (أسفلت) طريق أحمد حلمي شهدت طفولة صاحبنا وصباه“.
يقدم رؤوف عباس وصفا واضح المعالم لحي شبرا في أربعينيات القرن العشرين “كانت شبرا عندئذٍ تعكس واقع مصر كلها“. فالأجانب من اليونانيين والأرمن والإيطاليين يسيطرون على السكنى في الشوارع الرئيسية؛ شبرا ومستشفى كتشنر والترعة البولاقية. وتحمل محال شبرا لافتات باللغة الفرنسية، وقليلًا ما كانت تُجمع إليها العربية. وبينما كانت هناك أربع حانات في شارع شبرا، تمثل “الوجود الوطني إلى جانبها في محل كبير لصناعة (البوظة)“. إذ تمركز الوجود المصري في ظهير الشوارع الرئيسية. يعكس هذا التوزيع الطبقي في مصر تحت الاحتلال البريطاني، فالمتن للمحتل والأجانب، وصاحب البلد في الهامش حيث الفقر والهوان.
يقارن صاحب الخطى بين نمط معماري وحياتي بين سكن الأجانب والمصريين: “كان التباين كبيرًا بين الطرز المعمارية على الشوارع الرئيسية وتلك التي تقع في ظهيرها. كما كانت الخدمات المتاحة لسكان (الشوارع الخلفية) محدودة، وخاصةً إضاءة الشوارع ليلًا بمصابيح الغاز. فتجد الجزء الملاصق للشوارع الرئيسية منارًا لمساحة لا تزيد عن خمسين مترًا. ثم يسود الظلام بقية الشارع“، وبينما يطوف فقراء الأجانب وهم يلعبون البيانولا، “ويمر المهرِّج بالبيوت يلتقط في الدف الذي يحمله بين يدَيه قطع العملة الفضية التي يقذفها (الخواجات) من الشرفات إليه. أما ألعاب الحواة وعروض الأراجوز في الشوارع الجانبية فكانت وقفًا على المصريين“.
***
تعرف رؤوف عباس على منطقة وسط القاهرة من خلال نافذة المظاهرات التي قادها الحراك الطلابي والعمالي في فترة الأربعينيات المشتعلة التي انتهت بثورة 23 يوليو 1952. كذلك أصبحت علاقته بالمدينة أقوى مع التحاقه بجامعة عين شمس، حيث بدأ يلقى الأضواء على أزمة التعليم الجامعي في مصر. فبعد عمل كمراجع للحسابات في الشركة المالية والصناعية المصرية بكفر الزيات، استقال منه العام 1967. تفرغ رؤوف عباس لحياته الأكاديمية خصوصا بعد التعيين في قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة القاهرة. وحصوله على الدكتوراه في يناير 1971م. لكن طوال هذه الفترة شارك في المظاهرات التي عرفتها البلاد.
في مفتتح (مشيناها خطى)، يعطينا رؤوف عباس عند حديثه عن كتابة سيرة ذاتية، مقطعا مكثفا لتحولات القاهرة في العام 2004. يقول متحدثا عن نفسه: “جلس الشيخ في حديقة المنزل الذي سكنه منذ أربع سنوات في مدينة العاشر من رمضان، بعدما تخفَّف من أعبائه الجامعية، وراح ينشد الهدوء بعيدًا عن صخب العاصمة التي لم تعد مكانًا مناسبًا للتأمُّل والإنتاج الفكري. بعدما فقد حي مدينة نصر -الذي اقتطع ثلاثة عقود كاملة من عمره- هدوءه في عصر (الانفتاح) أو (الانفلات). فازدحم الحي بـ(المولات) والمقاهي. وأصبحت شوارعه ساهرةً حتى الصباح، ولم يعد هناك أمل في الراحة وسط هذا الصخب، ففضَّل الشيخ ترك القاهرة إلى مدينة لا تبعد عنها كثيرًا، تُتيح له ولزوجه أن يعيشا ما بقي لهما من عمر بمنأًى عن معاناة الحياة القاهرية“.
في هذا النص المكثف يمر رؤوف عباس سريعا على تحولات القاهرة. التي سيعرض لها على هامش رحلته طوال صفحات سيرته الذاتية. فهو يعرض للتحولات التي ضربت المدينة في صميمها مع سيادة قيم الرأسمالية الاستهلاكية ممثلة في انتشار “المولات”. واختيار حي مدينة نصر الذي يعد رمزا للعصر الناصري. وما أصابه من تشوه عمراني في عصر السادات الذي يقف عباس حامد على الضد من مشروعه الانفتاحي أو “الانفلاتي”. كما يطلق عليه المؤرخ المصري في انتقاد يجد ما يبرره على صفحات «مشيناها خطى». وهي تحولات أصابت القاهرة وعمرانها في الصميم.
اقرأ أيضا:
قاهرة سيد عويس: دراسة حالة لأعماق مدينة