في مئوية ناصر.. «رصاصات في حياة الزعيم»
“قتلناك يا آخر الأنبياء.. قتلناك.. ليس جديدا علينا اغتيال الصحابة والأولياء”.. هكذا رثى الشاعر نزار قباني، الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، الذي تحل غدًا 15 يناير ذكرى ميلاده لعام 1918.
توفي عبدالناصر في 28 سبتمبر 1970 بعد أن حاول رأب الصدع الذي أصاب الأمة العربية على خلفية أحداث الأردن، والتي عرفت بأيلول الأسود، 10 أيام قضاها عبد الناصر – كان زاده القهوة والسجائر – محاولا وأد الفتنة التي اشتعلت بين الأشقاء وكادت أن تعصف بكيان الأمة العربية كلها، كما كتب أحمد بهاء الدين في جريدة المصور في 2 أكتوبر 1970، أن قلب الزعيم انفطر حزنا على ما آل إليه حال العرب من تصارع وتقاتل على السلطة، بينما جيوش العدو تتربص بهم لتلتهمهم واحدا تلو الآخر.
لم تنل رصاصات الغدر من جمال عبدالناصر في المنشية والفالوجا وقبل ذلك بكثير في صباه، ولكن وكما عبر نزار قباني قتله تفكك وتشرذم العرب، وحسب أحمد بهاء الدين، بعد أن استطاع عبدالناصر إقناع عرفات والملك حسين توقيع اتفاقية الصلح وبعد أن ودع الوفود العربية واحدا واحدا راح ليستريح لآخر مرة في حياته، بعد مشوار بدأ من حرب فلسطين في عام 48 وانتهى بفلسطين أيضا في القمة العربية الأخيرة التي رأسها؛ لوقف نزيف الدماء العربي.
رصاصات في حياة عبدالناصر
في حي باكوس بالإسكندرية ولد عبدالناصر في 15 يناير 1918، لوالد من بني مر بمحافظة أسيوط كان يعمل وكيلا بالبريد، يرسله والده إلى مدرسة النحاسين الابتدائية بالقاهرة في عام 1925، ليعيش مع عمه ويواظب على زيارة أسرته كل أسبوع، وفي إحدى المرات في عام 1926 اكتشف موت والدته، وفي عام 1928 أرسله والده إلى حي العطارين ليكمل دراسته الابتدائية في مدرسة العطارين بالإسكندرية ويقيم مع جده لوالدته، وفي المرحلة الثانوية انتقل عبدالناصر ما بين مدارس حلوان ورأس التين، وحسب ما أورد عبدالناصر في مذكراته فقد تشكل وعيه السياسي في تلك المرحلة، ليشترك في أول مظاهرة ويخرج منها بجرح غائر في رأسه.
الرصاصة الأولى “الثائر الصغير”
مر عبدالناصر بميدان المنشية في عام 1930 ليجد اشتباكات بين بعض المتظاهرين ورجال الأمن، ودون تفكير انضم إلى المتظاهرين في حماس، واتخذ جانب المتظاهرين دون أن يعرف أسباب المظاهرة أو مطالبها، ولكن سرعان ما أدرك الأمر حين اندلعت عاصفة من النيران انطلقت نحو المتظاهرين، ليسقط أحدهم صريعا وبينما جمال يحاول الفرار يصاب برصاصة في مقدمة جبهته من الناحية اليسرى ولحسن الحظ فان الرصاصة انحرفت لتصيبه شظاياها، وقبل أن يكتشف جمال أنه ما زال حيا ولم تقتله الرصاصة عاجله أحد أفراد الأمن بضربة قوية على رأسه النازف ليفيق وهو معتقل مع زملائه المتظاهرين، ويكتشف في السجن أن المظاهرات اندلعت رفضا لقرار صدقي بإلغاء دستور 23.
خرج ناصر من السجن بندبة في مقدمة جبهته – لازمته طيلة حياته – وبغضب عارم، وكما عبر عبدالناصر لمندوب الصنداي تايمز في عام 62 قائلا: “دخلت السجن وأنا طالب متحمس وخرجت منه مشحونا بطاقة من الغضب”، حولت هذه الرصاصة عبدالناصر إلى زعيم ثائر استطاع في فترة وجيزة أن يقود مظاهرات الطلاب المطالبة بعودة الدستور في عام 1935 ومظاهرات رفض معاهدة 36، فيفصل من مدرسة النهضة الثانوية ولكن تحت ضغط زملائه الطلاب وتهديداتهم بحرق المدرسة يتراجع ناظر المدرسة عن قراره ويعود ناصر.
تخرج في المدرسة الثانوية وتقدم بأوراقه إلى مدرسة الحربية ونجح في جميع الاختبارات ولكن فشل في كشف الهيئة لأنه ابن فلاح بسيط وبسبب مشاركته في مظاهرات 36، ولكن تقرر الحكومة قبول دفعة استثنائية وينجح عبدالناصر في مقابلة رئيس الكلية، الذي احترم صراحته وشجاعته فيقبل بالمدرسة الحربية ويتخرج فيها في عام 1938، ويعين في سلاح المشاة بمنقباد بأسيوط وينقل منها إلى السودان في عام 1939، وبعدها يعود إلى مصر ليخدم في العلمين تحت أمرة الجيش البريطاني لمواجهة روميل في عام 1942، وفي عام 43 يرقى إلى رتبة اليوزباشي ويعين مدرسا بالكلية الحربية، وفي الفترة ما بين 44 و45 يتزوج عبدالناصر ويلتحق بمدرسة أركان الحرب، وتنتهي الحرب العالمية الثانية.
الرصاصة الثانية “الفالوجا”
بحلول عام 1947، صدر قرار تقسيم فلسطين، وأمام موقف الحكومة المتخاذل لم يجد عبدالناصر بدا من التطوع في صفوف الفدائيين تحت إمرة البطل الشهيد أحمد عبدالعزيز، ولكن فجأة تقرر الحكومة المصرية الدفع بقواتها لتحرير فلسطين في عام 1948 لترسل 9 كتائب كان عبدالناصر قائد الكتيبة السادسة بها، وتم حصاره في الفالوجا وهناك تلقى الرصاصة الثانية في حياته.
يحدثنا عبدالناصر في مذكراته عن تلك الرصاصة: “نظرت إلى الطبيب الذي فحصني، بعد أن تم نقلي إلى مستشفى المجدل في دهشة.. وأنا لا أكاد أصدق ما يقول.. كنت واثقا من موضع الرصاصة ومن نزيف الدم في صدري وأن الجرح نافذ وأن الرصاصة وصلت إلى حدود القلب.. ورفعت منديلي الغارق بالدماء، وقلت له صارحني بالحقيقة ولا تتردد، وبدأ الطبيب يفحص الجرح مرة أخرى وهو يهز رأسه بطريقة لم أعرف مدلولها، فقلت له: هل هو جرح نافذ؟ فرد الطبيب: اعذرني فنحن لا نرى مثل هذه الحكاية كل يوم، ليفاجئه الطبيب بأن الرصاصة اصطدمت بالجدار المصفح للحمالة التي كان يركبها، فحدث لها شيء غريب لا يحدث عادة للرصاص، لقد انفصلت الرصاصة عن غلافها المعدني وطاشت عنك الرصاصة، أما الذي دخل صدرك فهو غلافها المعدني”.
عاد عبدالناصر من حرب فلسطين وقد أدرك أن المعركة مكانها مصر، وأنه آن الأوان لإزاحة عائلة محمد علي من المشهد، وكان في تلك الفترة قد التقى كل من زكريا محيي الدين وعبدالحكيم عامر وقرروا ثلاثتهم تشكيل تنظيم لضباط الجيش، والذي عرف بتنظيم الضباط الأحرار وضم ضباط آخرين، كان منهم السادات والإخوة صلاح وجمال وسالم ويوسف صديق وعبداللطيف البغدادي وغيرهم، واستطاعوا في 1952 القيام بثورتهم على الملكية وإجبار الملك على الرحيل.
ثماني رصاصات “حادث المنشية”
في ميدان المنشية عام 1954 وبينما تحتفل مصر بتوقيع معاهدة الجلاء بعد كفاح مرير من عبدالناصر ورفاقه، وقف عبدالناصر ليخطب في الجماهير الغفيرة المحتشدة في الميدان، نفس الميدان الذي تلقى فيه عبدالناصر رصاصة طائشة حين تظاهر ضد إلغاء الدستور، وكأن عبدالناصر قد لاح أمام عينيه المشهد قائلا: “حينما شرعت في إلقاء خطابي اليوم، سرح بي الخيال إلى الماضي البعيد وتذكرت كفاح الإسكندرية وأنا شاب صغير، وأنا أهتف لأول مرة في حياتي باسم الحرية وباسم الكرامة وباسم مصر، أطلقت علينا رصاصات الاستعمار وأعوانه”، لتنطلق ثماني رصاصات نحو عبدالناصر جميعها لم تصبه بينما رصاصة واحدة كانت متجهة نحو قلبه ولكن اصطدمت بالقلم الحبر الذي كان في جيب بدلته العسكرية الفضفاضة لتنحرف وتمر من أسفل إبطه الأيسر، لتصيب الوزير السوداني الميرغني.
ووسط حالة الهرج والمرج كان جمال يقف بكل شجاعة ويهتف بجملته الشهيرة “فليبق كل في مكانه.. دمي فداء لكم”، ثماني رصاصات أطلقتها يد غادرة تحركها أصابع الجماعة المحظورة تصدى لها عبدالناصر دون خوف، ليواصل تحقيق حلمه في تنمية وتطوير وطنه الكبير.
آخر ما قاله عبدالناصر
حسب ما جاء في العدد الخاص الذي أصدرته مجلة المصور في عددها الصادر في 2 أكتوبر 1970، أن عبدالناصر وأمام اتجاه المباحثات بين الأشقاء العرب إلى طريق مسدود ووسط تبادل الاتهامات صاح قائلا: إن “الحساب على ما جرى لا يمكن أن يضيع، أن الأمة العربية والتاريخ سوف يحاسبان، ولكن هذا الاجتماع يجب أن يوجه إلى وقف ما يمكن أن يحدث بدلا من الوقوف أمام ما حدث”، وصدق قول عبدالناصر فبعد التوصل إلى الاتفاق ورحيل الوفود العربية لم تمض ساعات ليعلن عن الحادث الجلل، لقد مات عبدالناصر.
هوامش:
1- أشهر القادة السياسيين من قيصر حتى عبدالناصر “بي دي أف” – تركي ضاهر – دار الحسام للطباعة والنشر 1992.
2- حرب فلسطين في مذكرات جمال عبدالناصر ويوميات محمد حسنين هيكل “بي دي أف” – محمود صلاح – كتب عربية (مدونة إليكترونية).
3- عبد الناصر من الفالوجا وحتى الاستقالة “بي دي أف” –جاك دومال وماري لو روا – ترجمة ريمون نشاطي – دار الاداب بيروت – الطبعة الخامسة 1979.
4- كتاب كلمة صريحة لعبدالناصر “بي دي أف” – إهداءات 2001.
5-http://nasser.bibalex.org/home/main.aspx?lang=ar “الموقع الرسمي لجمال عبدالناصر – موقع تابع لمكتبة الإسكندرية”.
6- مجلة المصور عدد 2 أكتوبر و9 أكتوبر 1970.
7-الإخوان المسلمين والتنظيم السري – الدكتور عبدالعظيم رمضان “بي دي أف” – من ص 9 إلى ص 29.
اقرأ أيضًا:
حيوا أهل الشام| حملوا سيارته على الأعناق.. هكذا استقبل السوريون عبدالناصر
13 تعليقات