في التفسير الطبقي لأفلام الرعب!
تعليقا على المقالتين الماضيتين حول انتشار أفلام الرعب والعنف أرسل لي الصديق الناقد أمجد جمال رابطا لدراسة نقدية تعود إلى 2015 كتبها المحلل مارك راهمان (Rahman). يبدو أنه أمريكي من أصل هندي، على موقع يحمل اسم “دفاعا عن الماركسية”، وهي دراسة تستحق القراءة، تحمل رؤية تستحق الاعتبار.
الرأسمال ذئب مصاص دماء
يبدأ راهمان (أو رحمان) مقاله بالاستشهاد بعبارة كتبها فلاديمير لينين (مؤسس الحزب الشيوعي الروسي وقائد الثورة الشيوعية في 1917، وأول زعيم للاتحاد السوفيتي)، أثناء الحرب العالمية الأولى، والتي تشبه ما يحدث في العالم حاليا من تصارع القوى الاستعمارية الكبرى في الغرب والشرق عندما قامت بريطانيا وفرنسا بمحاصرة ألمانيا وتركيا. وهو الأمر الذي تكرر قبيل الحرب العالمية الثانية عندما حاصرا ألمانيا وايطاليا واليابان. ويتكرر الآن عندما حاصرت أوروبا وأمريكا روسيا والصين.
أما العبارة التي قالها لينين منذ أكثر من قرن ويستشهد بها راهمان فهي أن “المجتمع الرأسمالي كان وسيظل دوما رعبا بلا نهاية”.
ويستشهد راهمان أيضا بمقطع من كتاب “رأس المال” لكارل ماركس، يقول فيه أن الرأسمالية دخلت التاريخ مثل شخص “تقطر الدماء والقذارة من رأسه إلى قدميه، ومن كل مسام جسده”. وفي مقطع آخر يشبه الرأسمالية بشخص ميت، يشبه مصاص الدماء، يعيش على امتصاص حياة العمال. وكلما دب فيه مزيد من الحياة كلما امتص المزيد من الدماء”. وفي السياق نفسه يقارن ماركس أيضا نهم الرأسمالي إلى المزيد من الأرباح بـ”جوع المذءوب” الذي لا يشبع.
والفقر زومبي يجتاح الكومباوند
هذا الربط بين الوضع الاجتماعي والاقتصادي وقصص الرعب سبق لينين وماركس، وظهر بعدهما، في كثير من كتابات المفكرين والأدباء والنقاد. وإن كانت الماركسية قد شددت على مثالب الرأسمالية تحديدا، فالظلم الاجتماعي والنهب الاقتصادي للفقراء لم يكنا يوما حكرا على النظام الرأسمالي. و”فانتازيا” الرعب والعنف طالما جسدت المذابح وفظائع الحروب ومظاهر الظلم بأشكال مباشرة وغير مباشرة منذ فجر التاريخ البشري الدموي.
لكن الرأسمالية، بثراء أثرياءها الفاحش، وفقر فقراءها المدقع، وبأنماط حياتها المتنوعة والمتقدمة دوما، وبأساليب الاحتيال والنهب المبتكرة والمتطورة دوما، وبحداثتها الجذابة المخيفة. من بداية الثورة الصناعية وحتى ثورة الذكاء الاصطناعي، فتحت الآفاق أمام سيول من التخييلات والاستعارات الفنية والتنويعات المجازية التي تعبر عن، وتعزف على، المخاوف التي لا تنتهي لدى كل الطبقات: الدنيا والوسطى والعليا. فالكل بات أسيرا للقلق والرعب من الآخرين. ولعل هذا ما فات لينين وماركس وقتها: أن الدور سيأتي على الرأسمالي نفسه ليصبح نهبا للخوف من أبناء الطبقات الفقيرة. وأن قصص الرعب لن تكتفي بمصاص الدماءـ الميت الحي، ساكن القصر الذي يصطاد الفقراء العابرين. ولكن ستتناول أيضا قصص “الزومبي”، الموتى الأحياء، الخارجين من المناجم والأحياء الفقيرة والقبور الذين يجتاحون قلاع المتحضرين الأثرياء!
العلم ساحر يفقد السيطرة
في مقاله سابق الذكر يسرد راهمان ملخصا لتاريخ سينما الرعب منذ عشرينيات القرن الماضي، مع ظهور “التعبيرية الألمانية” التي أنتجت بعض روائع أفلام الرعب مثل “نوسفيراتو” و”عيادة الدكتور كاليجاري”، وحتى عصرنا الحالي. متتبعا نشأة نوع الرعب وازدهاره وانقسامه إلى أنواع عديدة. كل منها يعبر عن نوع من القلق والمخاوف الاجتماعية المرتبط بالاقتصاد.
قبل الرأسمالية، مثلا، كان الرعب من الطبيعة يتمثل في خوف الإنسان من تقلبات الطبيعة، الأعاصير والبراكين والحرائق، والأوبئة، والشيخوخة والموت، والوحوش العملاقة. ولكن مع بداية الثورة الصناعية، وخاصة مع أهوال الحرب العالمية الثانية. ثم خطر الحرب الذرية ثم النووية بعدها، أصبح الخوف من الطبيعة مرتبطا بما يفعله الإنسان بهذه الطبيعة.
وهو ما وصفه ماركس وانجلز في “البيان الشيوعي” بأن “المجتمع البورجوازي الحديث، بعلاقته بالانتاج، والملكية والبيع والشراء، مجتمع يحاول التحكم في هذا القدر الهائل من الإنتاج والتجارة،.هو أشبه بمشعوذ لم يعد قادرا على التحكم في العالم الذي استدعاه عن طريق السحر”! فرانكنشتاين هو مسخ صنعه طبيب عالم، وجودزيلا مسخ صنعته التجارب النووية، والديناصورات صنعها علماء يسعون إلى انشاء حديقة عامة حديثة تدر لهم الملايين. والروبوتوتات هي المسوخ الأحدث والأكثر رعبا، التي تهدد بالاستيلاء على العالم وتحويله إلى بطارية كهرباء لها (سلسلة أفلام “ماتريكس” وما بعدها). وبالنسبة للمواطن العادي أصبح ظهور أي وباء أو ظاهرة طبيعية مرتبطا بما يفعله البشر. خاصة الدول الرأسمالية الكبرى، عن قصد أو غير قصد، بالطبيعة!
رعب وعنف الغريزة
تعبر أفلام الرعب والعنف عن مضمون اجتماعي اقتصادي نعم، ولكنها تعبر أيضا عن مضمون نفسي فردي وجمعي. هذا المضمون يتأثر بالوضع الاجتماعي والاقتصادي بالطبع، ولكنه مرتبط أيضا بالنوازع الغريزية للإنسان، وبالوضع البشري منذ فجر الوعي بالذات. عندما أدرك الإنسان أنه يحيا على قتل الكائنات الأخرى. وأنه هو نفسه سيصبح يوما ما ضحية لكائن آخر يحيا على القتل. هذا المضمون النفسي مرتبط أيضا بالغريزة الجنسية، التي تحوي طيوفا من المتع المكبوتة والمنحرفة، والتي كلما كبتت زادت انحرافا. ولعل ذلك أحد أسباب شعبية أفلام الرعب والعنف لدى المراهقين، المشوشين جنسيا بحكم سنهم، والكبار المكبوتين والمشوشين جنسيا بفعل المجتمع.
تتنوع مصادر الرعب والعنف في حياتنا المعاصرة، ويزيد الطين بلة أن وسائط الإعلام والترفيه والتواصل الاجتماعي تتسابق على إثارة مشاعر وحواس جمهور وأجيال تبلدت مشاعرها وحواسها بالفعل. وتتنافس على تقديم مزيد من الدماء والمشاهد المرعبة لجذب انتباه هذا الجمهور وتحقيق أكبر عدد من المشاهدات…والدولارات!
وسائل التواصل..الرعب الأكثر إرعابا
السينما، في الأول والآخر، هي خيال كلما كان جامحا كلما ساهم في التعبير عن اللاوعي وأحدث حالة من التطهير. بمصطلح أرسطو. ومن التفريج النفسي بمصطلحات علم النفس. ولذلك فإن معظم أفلام الرعب والعنف تنتمي للنوع الفانتازي، والقليل منها الذي ينحو للواقعية يصاغ غالبا، أو يفترض أن يصاغ، بطريقة تنفر المشاهد من العنف.
لكن الخطير حقا، وهو ما لا ينتبه له من يشتمون السينما والفنون ليلا نهارا. هو سيل الفيديوهات الواقعية التي تبثها وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الرقمية من مذابح وجرائم حية. وهي فيديوهات محايدة، ميتة، لا روح ولا رؤية ولا وعي ولا جماليات فنية فيها، تنغرز في العيون والعقول. وتحول مشاهديها إلى نوع آخر من الزومبي، الذين يسعون دوما لمشاهدة المزيد من فيديوهات القتل والدماء والاغتصاب. وبدلا من أن يكون المرء مشاهدا قلقا من صور العنف والرعب، فإنه يتحول تدريجيا إلى مشاهد متعطش لهذه الصور.
وهكذا، ربما، نصل إلى عصر نهاية الرأسمالية المتأخرة، وقد تحول البشر أنفسهم إلى زومبي ومصاصين دماء.
اقرأ أيضا
بورنوغرافيا الدم وإدمان العنف: هل أصبح العالم فيلم رعب كبير؟