فيلم «ريش»..فخر السينما المصرية
يستحق فيلم «ريش» للمخرج عمر الزهيري الجوائز التي حصل عليها من مهرجان “كان” الماضي، كأفضل فيلم في مسابقة أسبوع النقاد، وجائزة لجنة تحكيم النقاد الدوليين (الفيبريسي)، فهو واحد من أفضل وأجمل وأغرب ما أنتجته قريحة السينما المصرية في السنوات الأخيرة. ولن يكون مفاجئا أن يفوز بجائزة كبرى من مهرجان “الجونة” الذي يشارك في مسابقته الرسمية حاليا.
المدينة غير الفاضلة
هذا فيلم جديد، طازج. يجمع بين الواقعية والسيريالية والكوميديا السوداء بأسلوب خاص، فريد، يدشن مولد فنان سينمائي مصري ربما يكون له شأن في السينما العالمية قريبا، إذا سار على نهجه المتميز، ملقحا إياه بمزيد من الأفكار اللامعة ومنقحا إياه بمزيد من جودة التنفيذ.
منذ اللقطة الأولى يبني الفيلم عالما قائما بذاته، يشبه الواقع أكثر من الواقع نفسه، ولكنه ليس نسخة منه. شاشة سوداء، وصوت إشعال نيران وصرخة طويلة، ثم تظهر الصورة على رجل يحترق بين مباني مصنع قديم. يشبه مصانع الأسمنت المنتشرة على النيل، والتي تبث غبارها السام على العمال والسكان والقاهرة بأكملها، ويظهر أن الرجل انتحر بإشعال النار في نفسه لسبب لن نعلمه، وغالبا له علاقة بالظروف السيئة التي تعيش فيها الشخصيات اقتصاديا وبيئيا.
لا علاقة لقصة وشخصيات الفيلم بالمشهد الأول. ولكنه مشهد مؤسس لعالم الفيلم، الشبيه بقصص نهاية العالم، أو قصص الديسيوتوبيا (المدينة غير الفاضلة)، أو أسلوب “الجروتسك” الذي يرسم الواقع بالإفراط في تشويهه. أو أسلوب الكوميديا السيريالية السوداء الذي يميز سينما أوروبا الشرقية، لكن “ريش” ليس تقليدا لأي من هذه الأساليب، وإنما امتداد لها ببصمة مصرية خالصة.
لغة سينمائية
قصة الفيلم بسيطة: زوج وأب تقليدي يتحول، نتيجة سحر أو لعنة ما، إلى دجاجة!
سبق أن شاهدناها في مسلسل رمضاني خفيف اسمه “ربع رومي” تحول فيه بيومي فؤاد إلى خروف وعدة حيوانات أخرى. في الفن لا أهمية للقصة في حد ذاتها، ولكن المعالجة هي كل شيء. وشكسبير استمد كل مسرحياته من قصص شعبية ومسرحيات معروفة. ولننظر إلى العناصر واللغة السينمائية التي عالج بها عمر الزهيري قصته: لا يوجد ممثلون محترفون هنا، ولكنهم أناس من الواقع يتحدثون بلهجة المصريين البسطاء ولغتهم المفككة المهشمة المعتادة. لا يوجد ممثلون، ولا تمثيل، هنا، ولكنهم أناس حقيقيون خرجوا من قلب الطبقة الشعبية في مصر، يعيشون حياتهم على الشاشة.
الأماكن التي يدور فيها التصوير واقعية، بمعنى أنها تعبر تماما عن رؤية المخرج للواقع: مبان قبيحة مهدمة مطمورة في الغبار الأسمنتي الكوني، وبيوت شبيهة بالخرائب كل تفصيلة فيها تبوح بكم الفقر المدقع الذي تعيش فيه الشخصيات، وحتى البيوت الأكثر ثراء قبيحة غارقة في دماء الحيوانات والذوق الرخيص المبتذل.
الصلاحية المنتهية
كل تفصيلة هنا تعبر عن “الصلاحية المنتهية”: النقود كلها مسودة ومكرمشه من كثرة الاستعمال. أثاثات البيت متهالكة وقذرة، السرير متسخ ببقع البول والأطعمة والمراتب والمخدات تفرز أحشاءها كجثث متفحمة. التليفزيون قديم تطل أسلاكه ومفاتيحه خارج جسده، الأحذية توحي بأنها سارت آلاف الكيلومترات على مدار عشرات السنين في طرق صخرية متربة. والملابس كلح لونها وتمزقت أنسجتها لا أمل في نظافتها حتى وهي خارجة للتو من الغسالة اليدوية القديمة.
التصوير والإضاءة والألوان المستخدمة، كما في أي عمل سينمائي حقيقي، أشبه بلوحة فنية تعبر في حد ذاتها عن دراما ومضمون العمل وتتكامل مع أسلوب السرد والتمثيل والحوار. الصورة في “ريش” تذكر ببعض رسوم فان جوخ الواقعية، مثل لوحتي “آكلو البطاطس” و “الحذاء” مثلا، ومن بعض لوحات جيروم بوش لنهاية العالم و “صرخة” إدوارد مونش.
تقنيات غير واقعية
يعرف عمر الزهيري بعض الأسرار النادرة في الفن، التي لا يفهمها سوى الموهوبين الحقيقيين. مثل أن التعبير الأمثل عن الواقع يحتاج إلى تقنيات غير واقعية. وأن توليد الإحساس المطلوب يأتي أحيانا عن طريق التباين والتناقض بين العناصر الفنية، وليس بالتكرار الرتيب لها. وأبرز ما يوضح ذلك هو اختياره للأغاني والموسيقى المصاحبة للمشاهد، ومعظمها من ذلك النوع الخفيف المرح الذي ساد السبعينيات. والتي يبدو أنها تتناقض مع الموضوع والصورة تماما، ولكنها على العكس تبرزهما وتشيع فيهما إحساسا هائلا بالبؤس!
رؤية المخرج
رؤية المخرج هنا ليس لها علاقة بالواقع، ولا بمكان أو زمان محددين، ولكنها رؤية شخصية، فنية. يمكن أن توجد في أي بلد وأي زمن. رؤية تتجاوز الواقع الزائل التافه، لتمتد إلى العالم بأسره، والتاريخ بأكمله. رؤية تعاطف وحنان تجاه المعذبين في الأرض. ورؤية ترثي بطريركية انتهى عمرها الافتراضي، تحول فيها الأب إلى جسد بلا روح، وروح في جسد دجاجة. عالم يتيم وبشر فقدوا عائلهم، ولكن من تحت الركام والرماد، تنهض المرأة الأم وتواصل الحياة وبث الأمل. رؤية تمجد المرأة والأمومة، وتذكرنا بمقولة الشاعر الفرنسي آراجون: “المرأة مستقبل العالم”!
اقرأ أيضا:
تعليق واحد