فن «الردح» من قاع المدينة إلى الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي
الردح نوع من الهجاء الشخصي، الذي تنهمر من خلاله الشتائم واللعنات كما تنهمر الطلقات من فوهات البنادق، وغايته تحطيم الآخر معنويا، عبر قهره بعلو الصوت، ونشر فضائحه الفعلية أو المُختلَقة، وتضخيمها وتهويلها. وهو من أشد أنواع الهجاء الشخصي عنفا وابتذالا وفضحا لعيوب الخصم ومساوئه. وهو يشبه عقوبة التجريس التي انقرضت بظهور الدولة الحديثة، حيث كان المجرم يوضع فوق ظهر الحمار، بشكل معكوس، وفي يده أو يد غيره جرس، يجمع الناس حوله.
ويعتمد الردح هو الآخر على كلمات تشبه الجرس، من حيث قدرتها على جذب انتباه الجمهور، وتحويل الخصم إلى (فُرْجة). وهو عقاب يحكم به الشخص على خصمه، ويقوم هو بتنفيذه، ويمكن اعتباره سلوكا بدائيا مثل السلوك الثأري. لكنها البدائية المُروَّضة، فهو ظاهرة من ظواهر المدن، و يجتنب العنف الموجَّه إلى البدن، مكتفيا بإحداث الجروح المعنوية.
***
في كتابه (قاع المدينة) يتناول يوسف إدريس ظاهرة الردح، ويعتبرها فنا مصريا أصيلا. وكما أن الزغاريد لا تجيدها كل النساء فكذلك الردح. هناك متخصصات فيه يحفظن عددا لا نهاية له من الشتائم والأوصاف. بعضها عادي وبعضها فيه تشبيهات واستعارات وكنايات. وبعضها أدب خالص.
ولا يكفي الحفظ بل لابد أن يكون في استطاعة الواحدة منهن أن تلضم الكلمة في الكلمة بلا تردد أو توقف، وتصنع من الشتائم سيلا متدفقا لا ينقطع، فإذا انقطع وقع المحال.
ولابد للشتيمة المستعملة من وقع موسيقي. ولابد أن يكون للصوت المستعمل مقام معين يرتفع في الأماكن المهمة إلى “السوبرانو”، وينخفض عند بعض الكلمات الماسة إلى “الألتو” .
ثم لابد للرداحة من موهبة فطرية تستطيع بها أن تخرج أرفع الأصوات وأعلاها بأقل مجهود. حتى لا تستند طاقتها وحتى تستطيع الصمود. فالردح مسابقة والفائزة هي من يعلو صوتها ويظل عاليا إلى النهاية.
والردح ظاهرة من ظواهر المدن لا الأرياف. ويعرض يوسف إدريس صورة لنموذج الريفية التي سكنت المدينة، فتظهر في وصلة الردح بوصفها، غلبانة، أو مبتدئة لا تستطيع أن تجاري بطلات المدينة. صحيح أنها بدأت في الآونة الأخيرة تتعلم، ولكنها لاتزال (تطبش) كما يفعل الرجال حين يتعلمون السباحة على كبر. كل ما تستطيع أن تفعله هو أن تقف في النافذة وتوارب الشيش وتحاول الرد على غريمتها، وتخرج ردودها بعد جهد. فهي ريفية خجول لا تستطيع أن تحشو فمها بكلمة فارغة مثلما تحشو نساء المدينة أفواههن. ولذلك فمهما قالت فكلماتها تتساقط كأوراق الخريف أمام التيار اللافح الذي يهب من فم غريمتها.
***
الصورة التي يقدمها يوسف إدريس تعبر عن واقعٍ بعضنا شاهده، وبعضنا لم يشاهده، بسبب المتغيرات الكبيرة التي عرفناها خلال العقود الأخيرة، والتي قضت من ضمن ما قضت على “فن الردح”، لكنها احتفظت بروحه الهمجية البذيئة.
لقد ارتبط الردح بالحارة المصرية التي اختفت حاليا بمعناها المعروف، بسبب انتشار المدن والأحياء الجديدة. وتحول البيوت القديمة إلى عمارات شاهقة وأبراج. ومع ظهور الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي، ظهر الردح على نطاق واسع، ولم يعد فنا فرضته الظروف على بعض النساء. صار بذاءة لا فن فيها. وفُحشا لا حدود له. ونكسة إلى البدائية مع الاحتفاظ بأبهى الحلل العصرية.
لقد كان الردح التقليدي ـ بكل ما يحمله من فُحْش ـ ظرفا استثنائيا، تعرفه الجماعة الشعبية كما تعرف الجريمة. تمارسه لكنها تدينه في نفس الوقت. وكان (التخريف) من الأسماء التي تطلقها الجماعة الشعبية على الردح و الشتائم بشكل عام، وهي بذلك الاسم تحط ُّمن قيمته، وتُدِينه.
***
الردح الحديث لم يعد ظرفا استثنائيا، بل صار مناخا عاما، ولم يعد قاصرا على المشاجرات الشخصية التافهة، بل صرنا نستيقظ كل صباح على مناسبة من مناسبات الردح، كما اتسع نطاقه ليصل إلى المشكلات الثقافية التي تقوم في جوهرها على العقلانية الرشيدة، والحوار الودود.
لقد خلقت الفضائيات ومواقع التواصل حارة شعبية حديثة، لا تتوقف فيها وصلات الردح القبيح. حيث قوة الصوت وحدها هي التي تنشئ الحق وتحميه.
لقد تحطمت الوحدة التقليدية المتماسكة بين سكان الشارع أو المنطقة. وغابت الحميمية والترابط والانتماء للمكان، وتدهورت قيم الحارة الإيجابية مثل الشهامة والجدعنة والمروءة، بينا ظل معجم البذاءة مزدهرا، متطورا.
كيف نفقد أفضل ما في الحارة ونحتفظ بأبشع ما فيها؟
كيف طورنا الردح من مهارة تتمتع بها ربات البيوت غير المتعلمات، إلى رذيلة فجة منتشرة بين مختلف الطبقات والمستويات الثقافية؟
اقرأ أيضا:
الشيخ محمد عبدالقادر: تجربة تحويل بيوت الصعيد إلى مؤسسات ثقافية