فنان عن فنان: جمعة فرحات يكتب عن محيي الدين اللباد
في أرشيف الفنان الراحل جمعة فرحات مقالات عديدة عن علاقته برسامي جيله، كتب عن محيى الدين اللباد، كما كتب عن حجازى.. «باب مصر» يستعيد هذه المقالات التي تمثل مجتمعه ملامح من سيرة فنان، وزمن وعصر. هنا مقالاته عن اللباد.
يكبرني اللباد بعام واحد فقط… لكن يبدو أن جسمه الضخم وصلعته ونظاراته كانت توهمني أنه أكبر مني بكثير. ولا أعرف لماذا تأخر تعرفي على محي. فلا أتذكر أني قابلته في أول التحاقي بالعمل في روزاليوسف ومن المحتمل أن يكون وقت بداياتي في مؤسسة روز اليوسف كان يعمل في مكان آخر. فمحي بدأ يرسم وينشر رسومه وهو مازال طالبا في كلية الفنون وعمل بمجلات أطفال كثيرة. المهم ما أتذكره أنني لم أحاول أن أصادقه مثلما صادقت رؤوف عباد وعادل بطراوي وإسماعيل دياب مثلا. فقد كان باقي رسامي روزاليوسف بالنسبة لي هم أساتذة وكنت أعد محي اللباد واحد منهم..
ولا أذكر كيف دعاني محي إلى مرسمه، الذي كان يتخذه في منزل والده القديم فيما يعرف بمنطقة أرض النعام… وعندما دخلت المرسم استقبلني رجل عجوز بشوش الوجه وصعد بي إلى الدور الذي يقع فيه المكتب… وأتذكر أن الدور الأرضي كان مليئا بأشياء كثيرة لم أتبينها. ولكني بعد أن وصلت لمكتبه في الدور الأول كان المكتب مرتبا نظيفا كل الأشياء عليه توحي لك بأن النظام هو سيد هذا المكان.
فكلما احتاج محي أن يريني شيئا كان يستطيع أن يجده بسهولة شديدة… بعد أن شربنا القهوة المغلية سألته هوه أنت يا محي مواليد كام؟، وفاجأني تماما أنه يكبرني فقط بعام واحد. وقهقهت فابتسم، وقال ما يضحكك؟، فقلت لأني من الظاهر أني قدرت عمرك طول الوقت بعشر سنوات تسبقني في المولد ويمكن ده بسبب ضخامة حجمك وطولك الفارع وصلعتك اللامعة.. وضحكنا سويا.. لكنني ومن يومها أصبحت أرجو في محيي شخصا يسعدني معرفته وصداقته التي دامت سنين طويلة. حتى تركنا فجأة دون أن نحاول الاتصال ببعضنا يمكن لستة شهور قبل رحيله… وهكذا الدنيا…
مصر الجديدة
كان لسكن محيي في مصر الجديدة وسكني أنا في الهرم سببا لعدم لقاءنا بكثرة. لكن كان لنا لقاء سنوي بالأمر في تحكيم مسابقة نقابة الصحفيين للكاريكاتير. وكنا وقتها نأخذ الأمر بجدية شديدة أعتقد أنه كان السبب في ذلك فهو لا يرضخ لأسباب غير فنية في تحديد الفائز. بمعنى أنه لا يترك للعواطف فرصة أن تزحزحه عن المستوى الفني المطلوب في المسابقة. وفي آخر هذه المسابقات عرضت عليه أن نمنح الجائزة لزميل شاب كان قد مات فجأة لنمنح القيمة النقدية للجائزة لعائلته، لكن قال في حسم إحنا ندفع لأسرته من جيوبنا أو أن جمعية الكاريكاتير تتولى هذا. أما المسابقة فإنه لابد أن يحكمها توفر صفات فنية أساسية تكون منهجنا في اختيار الفائز وكان اختيارنا طبقا لما قرره.
باب جديد
فاجئنا اللباد بباب جديد في مجلة صباح الخير التي يتغنى باسمها الطير باسم “نظر” وكان شعار الباب إن عشقنا فعذرنا… إن في وجهنا نظر. كان الباب جديدا في كل شئ بداية من توضيبه المبتكر بأعمدته ذات الخط الرأسي السميك أو الرسوم المصاحبة ودقتها في التعبير عما يريد قوله. وكانت جدة هذا الباب في أنه يمسك بتلابيب أشياء صغيرة أو أشياء قد تبدو تافهة لا تلفت النظر. لكنه بمعلومات جديدة ودقيقة يقدمها لك في شكل يدعوك للقراءة والانتظار لما سيقدمه بعد أسبوع.
وعندما أصدر هذا الباب مجمعا في كتابه الأول “نظر” اندهشنا لأننا أعدنا قراءته وأننا لم نطالعه من قبل على حلقات في مجلة صباح الخير. وأضاف اللباد إلى معارفنا ما أطلق عليه الألبوم. وبالطبع بعد الإعجاب الشديد بالكتاب توالى نظر حتى وصل إلى أربع كتب تطوف بك حول كل الأشياء والمعاني والكتب والمعارض والأشياء الصغيرة، التي نستعملها طوال عمرنا ولا نعرف عنها شيئا.
هذا كله… عن اللباد صانع الكتب وهو اللقب الذي كان يحبه ويقول عنه أنه أمنيته وحلمه الكبير. وهو لم يكن صانعا للكتب فقط، بل أيضا صانع لمجلات وجرائد برؤية خاصة يحلم بها وقد لا يجد من يستوعبها ويتحمس لها. وكانت له تجربة عشت جزءا منها في جريدة الشعب التي كان يصدرها حزب العمل. وفي منتصف الثمانينات تولى رئاسة تحريرها الأستاذ عادل حسين وطلب من صديقه اللباد أن يصنع ماكيتا جديدا للجريدة وصدمه اللباد بشكل جديد تماما على شكل الجرائد.
تكنيك العمل
كان الماكيت يقتضي أن كل صفحتين هما صفحتا مجلة تعامل المادة فيها على الاتصال بين الصفحتين. حتى أن العنوان ممكن أن يكون له جزء على الصفحة المقابلة. وظل محي يدرب المشرفين الفنين على هذا الماكيت وتنفيذه فترة. لكن لم يستوعب الكثير من القراء أو العاملين في الجريدة هذا الماكيت الذي كان جديدا تماما.
فمحي عندما يطلب منه عمل يحاول دائما أن يكون مبتكرا ولا يرضى بالأشياء العادية أو المعتاد. وكان الماكيت الجديد يلزمني بتغيير مساحة الرسم التي اعتدت عليها أكثر من أربع سنوات من المساحة المستطيلة أو المربعة التي أحب أن ارسم فيها إلى مساحة أخرى طولية. ووضع كاريكاتيري في الصفحة الأولى كما طلب منه. لكنه وضعه بجوار اسم الجريدة بإحساس كبير بأهمية الكاريكاتير التي قد تفوق كثير من الأخبار.
العودة للقديم
ورضخت للتصميم الجديد. ولم أفكر أن أكلمه لكي يغير مساحتي ووضعها، بل كنت أحاول الدفاع عن الشكل الجديد للجريدة لأني أعرف مدى ما تجشمه محي في ابتكار هذا الشكل. وللأسف بعد شهرين أو ثلاثة رجعت الجريدة لشكلها القديم ولم يعر محي هذا اهتماما لأنه أحس أنه عمل ما يريد وليس ما يريدون.
بالطبع لم يشدني في محي اللباد كونه صانع للكتب أو توضيب المجلات والجرائد ولا رسومه لكتب الأطفال. رغم أنها كانت كتبا رائعة وجديدة في شكلها وحجمها ورسمها أيضا. لكن أول ما شدني هو كاريكاتير محي الدين اللباد والتي كان يوقعها باسم اللباد. فقد كان له شخصياته المميزة بمساحات سوداء كبيرة في الغالب لا تزغزغ القارئ. لكنها تخاطب عقله ولم يهتم محي طوال عمره بأن يكون كاريكاتيره منتظم الظهور. فهو يرسم فقط ما يريد بالشكل الذي يراه هو.
وكانت مؤسسة روز اليوسف والمشرف الفني العام عليها الفنان الكبير حسن فؤاد مكتشف كل رسامي الكاريكاتير حتى وفاته يترك لكل رسام حرية رسم ما يريد هو. فقط كان يطلب من الرسام أن يعمل له شوية نكت ظريفة…. وهذه الحرية التي كانت يعطيها مسؤولي روز اليوسف مكنت هذا الفريق الكبير من رسامي الكاريكاتير – وصل عددنا إلى 15 رسام كاريكاتير في بعض الأوقات – أن يتنوع إنتاجنا وريشنا وتتعدد رؤانا وإن كان يجمعنا دائما هدف واحد هو الوطن وفقراء هذا الوطن….
واحد من جهابذة الكتابة
ومحي اللباد واحد من جهابذة الكتابة عن زملائه رسامي الكاريكاتير الراحلين. وكنت أتمنى أن يكتب أو يستمر في الكتابة عن الرسامين الموجودين على قيد الحياة حتى و لو لم ينشرها…. كان محي مؤرخا جيدا و ناقدا فنيا لا يشق له غبار يمسك بناصية الكلمة ويضعها في مكانها الصحيح ويزيد كل خط يتعرض له بميزان من ذهب، وللأسف لم نلحق سوى نجمة رسامين كتب عنهم في مجلة الهلال ومجلة كاريكاتير.
من الغريب أن يكتب اللباد كتب هي تي شيرت ولغة بدون كلمات – 30 سؤالا – وحكاية الكتاب وملاحظات وأخيرا كشكول الرسام الحائز على جائزة التفاحة الذهبية من براتسلافا وجائزة الأوكتوجون من فرنسا. كما ترجم للفرنسية والألمانية والهولندية. وذلك فضلا عن مجموعة نظر والتي توالي صدورها 1987 – 1991- 2003 – 2005.
لكنه لم يجمع أعماله في الكاريكاتورية وهي كثيرة في أكثر من كتاب، وحتى الآن لا أعرف السبب وأيضا لم اسأله هذا السؤال لأن كل رسامي الكاريكاتير المصريين للأسف لم يحاولوا جمع أعمالهم في كتب إلا قلة نادرة و محي جمع بعض رسومه في الطبعة العربية لـ”لومند ديبلوماتيك” وضمها في كتاب، والذي يضم في أغلبه رؤية سياسية ناضجة جدا ومعبرة جدا وبسيطة جدا لكل قضايا العربية وقضايا العالم من حولنا، ولم يكرر ذلك أو يهتم بجمع ما قبلها في أكثر من كتاب.
محي اللباد هذا الفنان العبقري لم ينل تكريم الدولة ولم يرشحه أحد لأي من جوائزها الثقافية. وهو كأغلب رسامي الكاريكاتير الذين لم يحصلوا على أي نوع من التكريم رغم أن الكاريكاتير هو من أصعب الفنون التشكيلية وواحد من أهم الأدوات الصحفية.
اقرأ أيضا
ملف| رحيل الفنان «جمعة فرحات».. آخر عمالقة الكاريكاتير في مصر
تعليق واحد