“فرقة مزاهر” تغسل أرواح المتعبين بـ”موسيقى الزار”
بضع دقائق من الطبل والزمر، وسط إضاءة خافتة، وترانيم تتوافق مع الموسيقى، كل ذلك كاف ليأخذك إلى عوالم جديدة لم تُكتشف من جماليات الموسيقى، التي تقدمها “فرقة مزاهر”، لتبعث في روحك حالة خاصة من الروحانيات والسلام النفسي.
“ربنا يغسل روحك بـ”راحة” من عنده، زي ما غسلتينا من أوجاعنا” بتلقائية قالها أحد الحضور للست مديحة أو أم سامح- كما تحب أن تلقب- بعد الانتهاء من فقرتها الغنائية، التي استمرت نحو ساعة، غنت خلالها من التراث عن الحب المفقود.
“يارب نغسلك بمية زمزم وانت مبسوط ومتهني واحنا كلنا متجمعين عند حبيبنا النبي” هكذا كان رد أم سامح سريعًا حانيًا وراقيا رقيقًا، يتناسب مع الجو العام في المركز الثقافي “مكان” بالسيدة عائشة.
“انا بقالي كتير بشتغل في الزار من ساعة ما كنت بساعد أمي، وانا عندي 11 سنة، لحد ما حبيته وأتقنته، ولما أمي كبرت ومبقتش قادرة تشتغل بقيت أنزل مكانها” هكذا تقول أم سامح.
نجحت أم سامح ذات الأصول السودانية في إعادة صياغة الزار بصورة بعيدة عن الشائع، فعلى خلاف الصورة السائدة للزار، والادعاء بأنه يطرد الأرواح الشريرة، بجانب الطقوس التي تُجرى وذبح الحيوانات والدماء التي تنتشر في المكان وما إلى ذلك، جاء أداء مزاهر عكس كل هذا، تقول أم سامح معلقة “أديكي شايفة الناس أهو، لا حد تعب ولا دبحنا ولا أي حاجة، كل دا تصورات غلط التليفزيون بيطلعها عننا، الزار فن زي أي فن مريح للأعصاب وبيقرب الواحد من ربنا”.
فرق الزار
تعد فرقة مزاهر، واحدة من الفرق الفنية القليلة، التي تحيي فن الزار في القاهرة، إذ يقام حفلها أسبوعيًا، معبأ بروحانيات خاصة.
ويوجد أربعة أنواع من فرق الزار، أولهم الفرقة الصعيدي وأهم ما يميزها أنها تتكون من سيدات فقط، عددها يتراوح بين 5 أو 6 سيدات منهم “الريسة”، وهي المنشدة الرئيسية للفرقة، وتتزين فيها العروسة باللباس الأبيض، وتزفها الفرقة إلى مكان جلوسها على أنغام من الأغاني المختلطة بآيات من القرآن قبل ذبح القربان جانبها، تقربا لـ”الأسياد”، بحسب المعتقد.
أما عن فرقة السوداني، فهي ثاني أنواع فرق الزار، وعلى عكس الفرق الأخرى يكون فيها مشاركين من الرجال والنساء، وتتكون من أنواع مختلفة من الأدوات الموسيقية منها الطمورة و”الشخاليل”، وتلبس العروسة لباس باللون الأزرق، ويزفها رجلين، بينما تطرق النساء على الدف باستخدام قطعة من الجلد أو خرطوم قصير.
وهناك نوع ثالث هو فرقة “أبوالغيط”، نسبة إلى سيدي أبو الغيط، أحد أولياء الله الصاحين، صاحب مقام في القليوبية، وأكثر الموسيقى المستخدمة عبارة عن مدح في رسول الله ومدح الصالحين والأولياء وطلب العون من الله.
والأخيرة هي فرقة “الرنجو”، والتي انقرضت بموت كل عازفيها والقائمين عليها.
لكن من أين جاء اسم الزار؟
أصل الكلمة
هناك اختلاف بين الباحثين عن أصل الكلمة، يقول بعضهم، إنها كلمة حبشية الأصل تعني “شر ينزل بانسان ما”، بينما يرى غيره أنها مشتقة من كلمة “زيارة” والمقصود بها زيارة الأسياد، وآخرون ذكروا أنها جاءت من “زائر النحس” والمقصود بها الأرواح الشريرة.
تاريخ الزار في مصر
الزار هو ظاهرة فلكورية يعتمد على الإيحاء الذاتي للعلاج النفسي، بحجة طرد الأرواح الشريرة التي تسكن “العروسة”، وهي المريضة التي عادة ما يقام حفل الزار من أجل طرد الجن المتلبس بها، بحسب اعتقاد الناس.
تجرى حفلات الزار باستخدام الموسيقى والدفوف والحركات العنيفة، التي يؤديها أفراد مع “الشيخة” المسؤولة عن تطهير نفس العروسة من الأرواح الشريرة، وتقديم القرابين المذبوحة لـ”الأسياد”،ليترك “الجن” الجسد الذي يسكنه، هكذا يعتقد الناس.
وللزار أبعاد نفسية و اجتماعية لعل أهمها فكرة التخلص من ضغوط الحياة، خاصة تلك التي كانت تعتري المرأة أوائل القرن الماضي، بسبب تحريم خروجها من المنزل لأي سبب، فكان الزار أحد حيل الترفيه عن النفس.
الباحثون الذين كتبوا عن “الزار” كظاهرة ارتبط بالثقافة الشعبية المصرية، لم يتفقوا على تاريخ محدد لدخوله مصر، لكنهم أجمعو أصله ونشأته كان في بلاد الحبشة، ومنها انتشر إلى البلدان العربية المجاورة وغير المجاورة، وهو ما تذكره الدكتورة فاطمة المصري في كتابها “الزار”.
تقول المصري إن “الزار” ظاهرة فلكلورية منتشرة في بلاد الحبشة بصورة أوسع، طبقا للعديد من الدراسات، التي أظهرت بدورها وجود مركز رئيسي للزار في الحبشة وهي “جوندار”، إحدى أكبر مدن أثيوبيا، المتخصصة في المعالجين الروحيين.
إلى جابن ذلك هناك بعض الباحثين الذين يرون أن أصل الزار من بلاد فارس، ثم انتقل إلى الحبشة، وهناك تطور وازدهر، لكن هذه النظرية لم تحظ بدعم عند أكثر الباحثين.
أصل الزار
ومن بلاد الحبشة انتقل الزار إلى السودان، ومنها إلى مصر، وكما اختلف الباحثون حول أصل “الزار” اختلفوا أيضًا حول طريقة دخوله السودان، ففي كتاب “الرحلة الحجازية” للكاتب محمد لبيب البتنوني ذكر أنه أثناء وجوده في الحجاز عام 1909 “وجد نساء يمارسن الزار ويدخنّ النارجيل”.
أما الرواية الأخرى فتقول إن الزار انتقل إلى السودان عن طريق نيجيريا، لأنه كظاهرة ثقافية انتشرت في السودان باسم “البوري”، وهي ممارسة معروفة في نيجيريا تحديدا.
أما عن انتقاله إلى مصر، فيرى أكثر الباحثين أن “الزار” بدأ ينتشر في مصر ويحجر مكانه كظاهرة فلكلورية مع بداية القرن التاسع عشر، بعد دخول مصر السودان، أي من بعد عام 1820، وانتشر الأمر عن طريق الجنود المصريين القادمين من السودان، أو العاملين الذين أتوا من السودان إلى مصر.
بينما يرى باحثون أن ظاهرة الزار ظهرت في مصر بداية الفتح العثماني، لكنها لم تكن معروفة بذلك الاسم، وأنها جاءت تطورًا لعادات واعتقادات مصرية قديمة، وهو ما فندته فاطمة المصري في كتابها، أهمها أن كتاب “وصف مصر” الذي وضعته الحملة الفرنسية، والذي لم يهمل أي ظاهرة في مصر، لم يأت على ذكر الزار أو أي ظاهرة تشابهه.
عندما حلت ظاهرة الزار على الأراضي المصرية وجدت تربة خصبة، لتنمو فيها وتزدهر بل وتتطور بصور مختلفة، فالشعب يميل إلى تصديق الخوارق، خاصة تلك التي ترتبط بعالم الجن، ويسعى إلى تحصين نفسه من شرور خفية لا يراها، وبالتالي لم يكم من الصعب على الزار وهو بالأصل ظاهرة عٌرفت بأنها لطرد الأرواح الشريرة الساكنة في البشر من الانتشار.
المصادر:
الزار ومسرح الطقوس، عادل العليمي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993.
الزار، دراسة نفسية وتحليلية انثرويولوجية. د.فاطمة المصري، الهيئة المصرية العامة للكتاب،1975.
طقوس الزار.محمد مهدي قناوي، مركز الحضارة العربية، 2007.
الزار والطمبرة في السودان. د.أحمد الصافي ود.سميرة أمين، إصدارات المؤسسة السودانية للتراث الطبي.
2 تعليقات