ستات البلد| عواطف عبد الكريم.. صوت الموسيقى
مجالات عديدة استطاعت المرأة أن تترك فيها بصمتها منذ بداية العصر الحديث، إلا أنه كان من الصعب أن يكون في مجال الموسيقى سيدة ليست عاشقة لكل لحن تطرب لها أذانها ولا مجرد هاوية، تمارس الموسيقى من حين لآخر، بل هي دارسة ومُؤسسة راسخة لقواعد موسيقية مصرية، يمتد صداها حتى الآن، ويتخرج على نهجها مئات الموسيقيين المصريين، بعد أن كسرت هذه القواعد كلها وهي عواطف عبد الكريم.
“عواطف عبد الكريم” الموسيقية المصرية التي سحرتها الموسيقى بأنغامهما، وأصبحت مولعة بكل آلة وصوت ولحن، فهي أول سيدة مصرية درست الموسيقى دراسة أكاديمية في واحدة من أكبر المؤسسات التعليمية الموسيقية في العالم، وإحدى رائدات التأليف الموسيقي في مصر، وذلك من خلال إنشائها لقسم النظريات والتأليف في كلية التربية الموسيقية، وقسم القيادة والتأليف بالكونسرفتوار، وقسم الموسيقى بمعهد النقد الفني، إلى جانب عملها كعميدة لكلية التربية الموسيقية حتى عام 1985، كما قامت بالتدريس في المعهد العالي للسينما.
في سلسلة “ستات البلد” المقدمة من مؤسسة “ولاد البلد”، بالتعاون مع مؤسسة المرأة والذاكرة، نسرد النوتة الشخصية، لعواطف عبدالكريم، هذه السيدة التي لا يذكر تاريخها فقط في سطور مراجع، بل أنها قدمت انجازات واقعية تظل قواعدها راسخة إلى الآن.
البيانو
ولدت عواطف عبد الكريم في محافظة الفيوم عام 1931. كعادة العائلات القديمة، حافظت العائلة على وجود بيانو في المنزل، وكان لها شقيقتان أكبر منها تلقوا دروس بيانو، وكانت حينها طفلة تسمع وتعشق كل الألحان التي تعزف، حتى انتقلت مع أسرتها إلى القاهرة، وكانت في سن الثامنة تقريبًا.
بعد فترة طويلة، اخبرتها شقيقتها الدكتورة عفاف عبد الكريم عميدة كلية التربية الرياضية في فلمنج بالإسكندرية وقتها، بأن هناك نظام جديد بشأن التعليم الموسيقي في مصر. وفي مقابلة لعواطف عبد الكريم مع مؤسسة المرأة والذاكرة، أجرتها د. هدى الصدة في 4 نوفمبر 2001، تتذكر:
“فوجئت بعد ما أنا خدت الابتدائية قالت لي ده فيه نظام جديد حيتبع من السنة دي: فيه خبيرة ألمانية وخبير ألماني جم واتفقوا مع وزارة التربية والتعليم إن بدل ما يكون فيه معهد عالي للموسيقى فقط لا غير، حيبقى فيه مدرسة ثانوية للموسيقى، فإذا كنتي تحبي “المشاركة” تبقي تعالي عشان التقديم بعد أسبوع أو حاجة زي كده فقلت لها أحب أوي
“ورحت عملت المقابلة كان سني بتاع سبع سنين أو ثمان سنين واللي امتحنتني “د. بريدجيت شيفر” اللي هي الخبيرة الألمانية والدكتور “هانز هيكمان” وهما كانوا اقترحوا إن يبقى فيه دراسة ثانوي أدبي موسيقى، وهذا القسم ألحق بالمعهد العالي لمعلمات الموسيقى”.
هنا تعزو عواطف عبد الكريم حبها للموسيقى لشقيقتيها، وعلى وجه الأخص شقيقتها الوسطى الدكتورة عفاف عبد الكريم، كما أنها تدربت في المدرسة الثانوية للموسيقى علي يد خبراء أجانب ومصريين، وكان من بينهم د. “بريدجيت شيفر”، ود. “هانز هيكمان”، وتخصصت في الموسيقى الغربية. ذكرت كيف نبغت في جميع المراحل الدراسية، والتحقت بكلية التربية الموسيقية بجامعة حلوان؛ رغم الاعتراضات الأسرية على التحاقها بالجامعة، لتحكي عن أسرتها وتقول:
“آه.. هو الوالد كان مهندس قوة في الفيوم من أصل فلاحي في ميت غمر، والوالدة ست بيت من أصل تركي، أبوها وعمامها وجدودها كلهم من تركيا، الناحية الفنية يمكن كانت عند الوالدة أكتر أو هما طريقة تعليمهم وهما صغيرين: إجادة التريكو وشغل الإبرة، ستات بيوت على مستوى… والناحية الفنية من أختيني (أختيها) والثانية بالذات اللي قلت لحضرتك عليها بعد البيانو اتجهت كمان للكمنجة وقطعت شوط فيها في دروس خصوصية.
أرادات الدكتورة عواطف استكمال تعليمها بالخارج، ولكن رفض والدها سفرها بمفردها إلى الخارج، وكان الدكتور محمد عبد الفتاح البيلي قد تقدم لخطبتها، وكان زميل أكبر سنا لأخوها الفنان صلاح عبد الكريم، فطلبت منه الموافقة على مساندتها في استكمال تعليمها وخاصة بالخارج.
بعثة التعيين
بالفعل تخرجت سنة 1954 وتزوجت سنة 1955، وسافرت مع البعثة سنة 1957 هي وابنتها ذات الـ 14 شهر، ولحق زوجها بها في السنة الثانية على نفقته الخاصة، وهنا وهبها تميزها البالغ في الدراسة فرصة السفر للخارج في بعثة النمسا.
واجهت عواطف عددا من الصعوبات التي مرت بها نظراً لاصطحابها الدائم لابنتها ذات الـ 14 شهراً، ولكنها استطاعت التغلب على هذه الظروف، وحصلت على درجة الامتياز وجائزة التفوق من النمسا.
تحدثت عن إحدى ذكرياتها في البعثة، وذكرت كيف قام المستشار الثقافي في النمسا، وهو أحد أساتذتها، بتعنيفها بسبب اصطحابها لابنتها، إذ اعتقد أن هذا الأمر غير لائق ولا يناسب ظروف البعثة.
بعد عودتها من البعثة عٌينت معيدة في المعهد العالي للتربية الموسيقية، حصلت على درجة مدرس، لتندب بالكونسرفتوار بجانب عملها بالمعهد، نظراً لأنها كانت إحدى المتخصصات القليلات بمجالها في الكلية، إلى جانب جمال عبد الرحيم.
مسرح العرائس
لاقت أولى مؤلفاتها الموسيقية لمسرح العرائس نجاحا كبيرا، لتساهم بمؤلفاتها في نجاح عدد من المسرحيات منها، “علي بابا والأربعين حرامي،” ومسرح الجيب من التراث المحلي لسعد الدين وهبة ويوسف إدريس وأعمال أخرى.
وكما تقول:
“أنا طبعاً أول ما أتخرجت لتفوقي عينت معيدة في المعهد. كان تحول من المعهد العالي لمعلمات الموسيقى إلى المعهد العالي للتربية الموسيقية وانضم البنين على البنات فعينت معيدة هناك. وبعد كده سافرت ولما رجعت خدت “منصب” مدرس وما كانش فيه حد متخصص في هذا المجال إلا أنا”.
تضيف: “كان فيه الأستاذ جمال عبد الرحيم- الله يرحمه- جوز الدكتورة سمحة وكانوا هما بس اللي في الكونسرفاتوار وأنا كنت في الكلية. طبعاً أول ما جيت من البعثة انتدبوني للكونسرفاتوار عشان أدرس إلى جانب شغلي الرسمي في الكلية. بعد سنة جت خبيرة رومانية لمسرح العرائس كانت عاوزة تعمل مسرحية اللي هو المسرح الأسود، تخرجها، فبتسأل مين من المؤلفين فقالوا لها عليه. فجت لي في البيت واتفقنا على إني أعمل الموسيقى المصاحبة للمسرحية دي والحمد لله عملتها بنجاح ولاقت إقبال كبير.
مؤلفاتها الموسيقية
أصبحت الدكتور عواطف عضوة في لجنة الموسيقى والأوبرا والباليه بالمجلس الأعلى للثقافة وهي لا زالت مُدرسة، أي أنها كانت أصغر عضوة في اللجنة على حد قولها، كما أسست قسما للنظريات والتأليف ووضعت مناهجه، وروت كيف شهد القسم تطورا ملحوظا، إلى حد الإشراف على رسائل الماجستير والدكتوراة.
كما دشنت أنشطة في الجمعية الدولية للتربية الموسيقية التابعة لليونسكو، ولها مؤلفات في الموسيقى استخدمت في مجال التدريس، إلى جانب 15 قطعة موسيقية للبيانو، ولحن شعبي على الكمان.
كانت لها عدد من المؤلفات لأعمال فنية مثل “رحلة خارج السور” و”لعبة النهاية” لبيكيت و”الإنسان الطيب من شزوان” لبريخت، ومن التراث الإغريقي “أجاممنون” وكان ترجمة الدكتور لويس عوض، وفي نفس الوقت ألفت مقطوعات مدرسية كأغاني للأطفال كورال.
أثناء عملها اكتشفت عواطف أن المعهد لم يكن يشمل قسم للنظريات والتأليف، فطالبت أن يتم تأسيس قسم في هذا المجال التخصصي، وأسسته بالفعل، ووضعت له مناهجه، سواء المناهج الـجامعية أو الدارسات العليا. كما ألفت مجموعة من الكتب ليتم استخدامها في التدريس ومن ضمن المؤلفات عملت 15 قطعة موسيقية لآلة البيانو.
وعن التأليف الموسيقي تقول “هو الموسيقى الرفيعة الجادة بتبقى عاوزة جهد زي جهد تأليف كتاب: مش ماسكة العود بادندن لحن وأرمي لا، جهد في التأليف وفي وضع الهرمونيات وفي الأوركسترا كامل والحواديت دي”.
إنجازات أكاديمية
للدكتورة عواطف أيضًا نشاط في الجمعية الدولية للتربية الموسيقية التابعة لليونسكو، وكان لها حضور مستمر لفترة في اجتماعاتها إلا أن توقفت بعد أن أجهدت صحتها.
ذكرت الدكتورة عواطف أنها كانت أول سيدة مصرية درست الموسيقى دراسة أكاديمية، وفي واحدة من أكبر المؤسسات التعليمية الموسيقية في العالم، وتم تعيينها مقررة للجنة الموسيقى والأوبرا والباليه من عام 1993-1999، وانتخبت عضوة شرفية في المجلس الدولي للموسيقى التابع لليونسكو منذ عام 1994، بالإضافة إلى كونها رئيسة تحرير مجلة “آفاق” الصادرة عن لجنة الموسيقى والأوبرا والباليه في المجلس الأعلى للثقافة.
ساهمت أيضًا في تأسيس قسم الموسيقي بالمعهد العالي للنقد الموسيقي، وقيامها بالتدريس فيه، وترأست هذا المعهد كعميدة لأكثر من عام، كما شاركت في إصدار أول موسوعة للمصطلحات الموسيقية الغربية المترجمة إلى اللغة العربية.
11 تعليقات